يتميز الأديب في جدية السعي في البحث والتجريب في منصات أجناس الأدب ( الشعر والسرد ) لخلق شكل جديد من رحم أجناسها , هذه المحاولات التجريبية يحاول أن يوظفها , ليخوض في تداعيات الواقع ومكوناته حتى يدخل في عمقها وخلفيتها , ليصوغ منها شكل إبداعي حديث وخلاق في ابتكاراته في الصياغة والتعبير , والاديب ( واثق الجلبي ) يمتلك براعة التمرد على أصناف وأجناس الأدب التقليدية , كما هو يتمرد على مفردات الواقع الضبابية , التي لا تملك رؤية ومنطق معقول وسليم , يمتلك القدرة والامكانية في خلق الإبداع المتجدد في الصياغات الفنية الحديثة في الشكل الفني الحديث , ليضعه على مشرحة خياله وافكاره ورؤيته التعبيرية والفلسفية , في براعة المحاججة الجدلية ودوامتها الدراماتيكية , بأسئلته الساخنة والملتهبة التي تستلهم عتبات الواقع ومفرداته المحسوسة واللامحسوسة , في عمق إنتاج خميرة الواقع بما يفرزه الحس الشعوري الذاتي والعام , على واقع تتحكم به الصراعات والتناقضات والتجاذبات شتى . لقد خرجت النصوص القصصية من رحم الصياغة التجريبية الحديثة في محاولاته , في خلق وليد إبداعي حديث . في مزج اجناس الادب ( الشعر / السرد ) مع بعضها ليخرج منهما تجنيس واحد خلاق في ابتكاراته , هذا المتحور الادبي , يستلهم روح الواقع ومدياته , التي تسير بلا رؤية ولا ضفاف . ليضفي عليه ايحاء رمزي بليغ في دلالاته,في الاتجاه السريالية الرمزية , وفي اسئلته الساخنة والملتهبة , من خلالها يكتشف عمق الأشياء في صراعاتها الجدلية . ان هذا الاكتشاف الإبداعي الجديد يعطي مساحات واسعة للأسئلة جدل المحاججة , حتى تثير أحاسيس القارئ بالتفكير والتأمل . ان الاديب ( واثق الجلبي ) يضرب على الوتر الحساس لمديات الواقع القائم , على الإيقاع الرنان في الصوت والصدى . والنصوص القصصية القصيرة في المجموعة ( جني الاكفان ) تضم حوالي 117 نصاً قصصياً قصيراً . يعطي أهمية فائقة لعناوين النصوص لكل نص , وتعتبر هذه العناوين إشارات دالة في الإيحاء البليغ في المعنى العميق , او أنها تعطي المسار الضوئي للنص أو اللوحة التعبيرية , أو هي بمثابة تعريف النص , وخلاصة القول هذا الوليد الإبداعي الخلاق في التجنيس الواحد , يعطي أهمية للخلق الابداع وأفكاره المطروحة , التي تتخذ من ضفاف السريالية الرمزية ضفافاً للتعبير , بشكل موضوعي , وليس بشكل تهويمات خيالية .
×× بعض الشذرات من النصوص القصصية :
× النص : من هو ؟
في خضم الاسئلة الساخنة والصاخبة , تدل على حالة الاضطراب والارتباك المتناقض في خضم الصراع المتلاطم في الأضداد ( من هو ؟ من أنا ؟ من أنت ؟ عقلٌ وروحٌ وجسد ، نفس وضمير وقلب ، ذاكرة وخوف وأمل ، رغبة واشتهاء وفوضى ، ضحك وبكاء وخوف ، نارٌ وماء وترابٌ ، وهواء ، نورٌ وعتمة ، مالحٌ وعذبٌ وأجاج ، كل ذلك وأكثر في كائن واحد فما أعظم من جمع تلك الأضداد وسارت بها الأقدام .)
× النص : نبي كاذب
يتزاحم على الواقع أنبياء الزور والكذب والنفاق , لا نعرف ماهيتهم ولا اصلهم , سوى أفواههم تقذف بحمم شظايا الحرائق والنيران التي تسقط على الرؤوس . هؤلاء الحمقى يخيطون افكارهم على ظهر سلحفاة عاهرة (
لم يعرف نفسه إلا نبيا كاذبا يخيط أفكار الحمقى على ظهر سلحفاة عاهرة ، أين حكمةُ العيش فيما يفعل ؟ الأشجار أكثر فائدة من الغبش المطحون بسرمدية ابتلاع النوافذ ، لم تحرك ذاتهُ ساكنا كأنه يُقبّل أنفه بمؤخرة دبورٍ مات في العصر الأول من تاريخ الغيب ، سجّل منتهى رغبته وعقد ما أراد فوق شباكٍ من خشبٍ آسن وبعد أربعين كذبة ظن أنه ركب السفينة وإذا به يرقد تحت رحمة مقص .)
× النص : عبثية مجون
مسخته الاعوام ورمته في جوف قط يتيم , ولم يعد يتشوق الى الحياة والوجود , فقد اصبحت ثقيلة عليه , لا ينزف منها سوى القيح والارهاق والمتاعب , فلم تعد الاستغاثة تجدي نفعاً ( جفتهُ السنين ، ورمتهُ في جوفِ قطٍ يتيم ، لم يعلم مدى شوق نجمةٍ للوجود ، شرابهُ نتوءُ ظلٍ لا تعرفهُ الأقداح ، أراد أن يتكلم لكنهُ أخفق من جديد ، لا يُريدُ بوح معزى ولا يبتغي وصلَ ناشزِ الرياح ، كفتهُ أحاسيس الخوف من المحاولة ، ظِلهُ يسقط عليهِ دائما كما كان ، لم يشعر بثقلٍ أكبر منه ، أحاطهُ كالمستغيث ففرّ منهُ أسرعُ من بكاء قلم ، مزاميرهُ وجوهٌ العدم ولسانهُ أقصرُ من حبة حنطة مخلوطة القشور ، أيُ نجوى تقترب من حدود هذا الأليم ؟)
× النص : جني الأكفان
اختلطت أشياء الحياة والواقع في مساراته الشاحبة بالخيبة والفوضى السريالية , ولكن أين يهرب وما وسيلة الهروب ؟ , هل يلاحقه الجني حتى المقبرة ليسرق الكفن ؟, وماذا يفعل الجني بالكفن ؟ , وهل يحتاج الموتى الى كفن ؟ اسئلة تصرخ , لكن لا حياة لمن تنادي (
هل يسرقُ الجنيُّ الكفن ؟ متى يكون ذلك ؟ وأين تلك المقبرة ؟ ولماذا يفعل هذا ؟ وهل يجوز؟ كيف يلفُ الكفن فكرة النهوض إلى حجٍ فكريٍ ممتقع بالاستلاب ؟ ماذا سيفعل الجني بذلك الكفن الطريّ ؟ هل يقرأ عليه تعازيم القيامة ؟ أين كان ثم ظهر فجأة ؟ هل لهُ وجود ؟ الكفنُ قماطُ البالغين ، القماط يمنع الأطفال من الحركة ، فما نفعُ الكفن ؟ هل يمنع الموتى من التفكير ؟ يدخل الجنيُّ ما بين الكفن والجلد قيمةَ ثانيةٍ من مكانٍ مبعثر العوالم ، لعلهُ يبحثُ عن الانتشاء الذي يسكن في مخ الموتى وربما يبحثُ في جمجمتهم عن فكرة لم يطلقوها بعد ، جنيُّ الأكفان ليس لهُ عشيرة ولا أهل ولا يمتلكُ إلفا ولا أحدا يهمسُ له بخطأ ما يفعل فعاش جنيا لكنهُ لم يمُتْ كفنا .)
× النص : أحاجي الفوضى .
فتش عن قيمته فلم يجد سوى التعاسة تلاحقه , التي تحصر قلبه بالحسرة والحزن , قلبه يشفق عليه , تيقن بأنه زائل عما قريب , فلم يستطع يقرأ من الكلمات سوى أحاجي الفوضى ( فقسّتْ غيمته وتناهتْ إلى أسماع قلبهُ شفته فتقلبتْ أفكارهُ واشتدتْ لضياع صمتهِ حسراته ، لكنهُ أيقن أن ما ألمّ به زائل وأنه عمّا قريب بكُلهِ راحل ، رفع رأسهُ وقد انتهى من سكبِ هذه الكلمات التي امتعض من صياغتها وحسبها مولودا مشوها لكنه أثبتها في دفتره ليستطيع أن يرجع إلى الأمس وهو يقرأ أحاجي الفوضى ، وتساءل : هل يكتب ما يفكرُ بهِ غيره)
جمعة عبدالله