كتاب جديد يبحث في السياسات المتشابكة التي خلقت أحد أشكال الإدمان العالمي.
سمع الآلاف من الأشخاص في 11 يوليو قصة رائعة ببرنامج Here and Now على إذاعة NPR وWBUR، حيث أكد اثنان من المؤرخين المحترمين فيها أنه ما كان للأمريكيين الاعتماد على التبغ كحالهم اليوم لولا الدعم الكبير الذي تقدمه الحكومة الأمريكية. كان هذا الادعاء مفاجئًا للكثيرين، حيث غالبًا ما يُنظر إلى شركة التبغ Big Tobacco أنها على خلاف مع الحكومة، لكثرة ما تفرضه الأخيرة من أنظمة ومتطلبات كشف البيانات بالإضافة إلى النفور العام من إصابة مواطنيها بالمرض والموت. كانت هناك مشكلة واحدة فقط، فالمؤرخان كلاهما لم يذكرا مصدر القصة الذي يعود إلى مؤرخة أخرى تدعى (سارة ميلوف)، حيث قاما بسرقة القصة من كتابها الجديد باسم: «السجائر: تاريخ سياسي».
كتاب «السجائر: تاريخ سياسي» بقلم (سارة ميلوف)
انتشرت القصة في غضون أيام، وأول ما نشرت في صحيفة The Lily تحت عنوان: “لهم الفضل، وهي تفتقده”. قالت (ميلوف) الأستاذة المساعدة في جامعة )فيرجينيا( لصحيفة The Lily: “كل كلمة قالوها كانت من كتابي”، وأشارت إلى أنها ستنتهي اجراءات المطالبة بحقها خلال ذلك العام. انفجر موقع تويتر وغيره من وسائل الإعلام بأعدادٍ لا تحصى من المنشورات والقصص عن الموضوع. وسرعان ما اعتذر المؤرخان (إدوارد آيرز وناثان كونولي)، وكذلك فعلت المحطات الإذاعية. جسّد الحدث بالنسبة للكثيرين شائعة ديناميكية في الأكاديمية، فلطالما نال الباحثون الذكور ومنذ أمد بعيد، الثناء على الأعمال التي تقوم به زميلاتهم.
على الرغم من أن الجدل قد حقق “دعاية كبيرة” لكتاب (ميلوف)، حسبما لاحظ موقع jezebel، إلا أن الحادثة نفسها بدأت تنال اهتمام يفوق الاهتمام الذي حصل عليه الكتاب ذاته. سيكون ذلك أمرًا مخزيًا، كون العامة سيفوتون المعلومات الخطيرة التي يحتويها الكتاب وما يقدمه من لائحة اتهام دقيقة ومدمرة لتواطؤ الحكومة مع أسوأ تجاوزات الرأسمالية الأمريكية. ينظر كتاب The Cigarette إلى ما هو أبعد من الأفراد المستهلكين وخياراتهم ويوجّه نظرته الثاقبة مباشرة إلى الظواهر الأكبر التي ترسم حياتنا: متطلبات الحرب بما في ذلك من ظهور جماعات المصالح المنظمة وانهيار الهيئات التنظيمية الحكومية والتأثير الهائل والمخفي للمشاريع الكبرى.
كانت السجائر في مطلع القرن العشرين لا تزال منتجًا هامشيًا إلى حد ما، حيث سخر الأخلاقيون من المدخنين واعتبروهم “عبيد للسيجارة البيضاء الصغيرة”، وسخر المتعصبون من التدخين لكونه على حد تعبيرهم عادة المهاجرين، وتجنبها الكثيرون لصالح الغليون أو السيجار أو مضغ التبغ. لقد تطلب الأمر تدخل الحكومة الفيدرالية لتحويل السجائر إلى سلعة استهلاكية شهيرة. ففي عام 1917، خصص الكونجرس أموالًا لوضع السجائر في حصص الجنود الذين يستعدون للقتال في الحرب العالمية الأولى، على أمل صرف انتباههم عن “الرذائل الأكثر خطورة”.
أُشعِلت السجائر، وشرعت شركات التبغ في حملات إعلانية مبتكرة لضمان استمرار “تثمين السجائر في الحرب” بسلام. واستمر الأمر كذلك من عام 1914 إلى عام 1920، حيث قفزت نسبة استهلاك التبغ الأمريكي في السجائر من 7 في المئة إلى 20 في المئة. كان من المفترض أن يستمر التدخل الفيدرالي في القرن التالي لتحديد مسار السيجارة سواء كان ذلك جيدًا أو سيئًا للغاية.
مع زيادة الطلب ظهرت المزيد من المشاكل، حيث انخفض سعر أوراق التبغ. وشعر المزارعون الذين كانوا يزرعون التبغ المستخدم في صنع السجائر “بالضعف والغضب”. إذ أدى عملهم إلى جعل حفنة من الرجال البيض أصحاب النفوذ يصبحون أثرياء بشكل استثنائي، لكن المزارعين (ناهيك عن جامعي المحصول، الذين عملوا في ظروف بربرية، وأولئك الذين يلفون السجائر وعفا على مهنتهم الزمن بفعل تدخل الآلات) شعروا بأنهم مُستغلّون ومقللٌ من شأنهم من خلال “احتكار القلة” الذي كانت تقوم به شركات التبغ الأمريكية (ر.ج.رينولدز وليجيت ومايرز ولوريارد وجيمس بي ديوك).
بالاعتماد على إرث الأسلاف الشعبيين، حاول المزارعون تنظيم التعاونيات حتى يتمكنوا من فرض أسعار التبغ على الشركات. لكن الشركات وحلفاؤها قاموا بسحق التعاونيات، من خلال الترهيب والتقاضي وحتى التخريب المباشر. في النهاية، جاء الخلاص عن طريق اقتصاديي (فرانكلين دي روزفلت) الذين شخّصوا بسرعة مشكلة التبغ الاقتصادية: فائض الإنتاج. “كثرة التبغ تسببت في اختناق التجارة”.
سعى المسؤولون الفيدراليون كجزء من الصفقة الجديدة للسيطرة على الاقتصاد والقضاء على المنافسة غير الضرورية. للقضاء على الإنتاج المفرط في مجال التبغ، أنشأ الفدراليون برنامجًا يدفعون من خلاله للمزارعين مقابل التوقف عن زراعة النبات، لإخراج الأراضي الزراعية الخصبة من الإنتاج حتى تظل الأسعار المدفوعة للتبغ مرتفعة، خضع المزارعون غير المتعاونين لضريبة باهظة.
كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة فرصة محظوظة أخرى لهذه الصناعة، حيث استفادت شركات السجائر ببراعة من الحماس في زمن الحرب وارتفعت الأسعار التي حصل عليها المزارعون سنويًا من عام 1940 إلى عام 1946. بعد الحرب، كرّست الشركات نفسها لتوسيع سوق السجائر في أرجاء البلاد وجميع أنحاء العالم. لقد استثمروا في الإعلانات التشجيعية أكثر من أي وقت مضى.
كتبت (ميلوف): ”كانت السجائر ذات يوم رزيلة يختص بها المهاجرين والأحداث الجانحين. لكن الحرب والإعلان وهوليوود ساعدوا في توسيع نطاق جاذبية التدخين وإضفاء الطابع المهني والبريق عليها. بحلول عام 1955، كان ما يقارب ربع النساء الأمريكيات وأكثر من نصف الرجال الأمريكيين مدخنين نشطين“.
نتيجة للضغط القوي الذي تمارسه الشركات، استخدمت الأموال الممنوحة لأوروبا في «خطة مارشال» في صناعة التبغ؛ فقد تم تخصيص مليار دولار له وحده “وهو رقم يمثل ثلث إجمالي المساعدات الغذائية”. من الناحية النظرية، هدف هذا إلى دعم الاقتصادات الصناعية الأوروبية. عمليا، عمد إلى أن شركات السجائر الأوروبية ستستخدم أوراق التبغ الأمريكية لصنع منتجاتها وجعل المستهلكين الأوروبيين مدمنين على التبغ الأمريكي المجفف بالدخان. كما رسخت شركات التبغ توسعها في الأسواق الخارجية من خلال الضغط في المعارض الدولية والتجارية.
بحلول عام 1949، وفقًا لإحدى الدراسات الاستقصائية، فضّل ما بين 85 و90 بالمئة من الألمان الغربيين طعم التبغ الأمريكي المجفف بالدخان على الأصناف اليونانية أو التركية القديمة التي ظلّت تدخنها الأجيال الأكبر سنًا لفترة طويلة. وهكذا، بحلول منتصف القرن العشرين، سيطرت السيجارة الأمريكية على العالم.
كان المزارعون سعداء بهذا الترتيب وكذلك شركات التبغ. ومع ذلك، أخذت المشاكل تتأزم في الوطن الأم. خلال الخمسينيات من القرن الماضي، بدأت الصحف في نشر المزيد والمزيد من القصص حول العلاقة المقلقة بين التدخين وسرطان الرئة (التي لوحظت في وقت مبكر من عام 1939). استمرت قدرة شركات التبغ لعدة سنوات في تهدئة المخاوف الصحية من خلال الإعلام والعلاقات العامة الماكرة، واستمرت معدلات التدخين في الارتفاع. لكن الحكومة الفيدرالية تدخلت مرة أخرى عندما أصدر الجراح العام (لوثر تيري) في عام 1964، تقريرًا أعلن فيه بعبارات لا لبس فيها عن الصلة بين السجائر والسرطان. ومن هنا بدأ ما سينتهي بإعادة تقييم جذري للعلاقة بين الحكومة ومزارعي التبغ، إن لم يكن شركات التبغ نفسها.
بدأت لجنة التجارة الفيدرالية على الفور في صياغة اللوائح التي من شأنها تقييد إعلانات شركات السجائر بشكل حاد، فكانت على سبيل المثال تتطلب تضمين تحذير صحي في جميع الإعلانات الإذاعية والتلفزيونية. ولكن قبل أن يتم فرض هذه اللوائح، اتخذت شركات السجائر موقف دفاعي بقيادة كل من (فريد رويستر) وهو صاحب مستودع ومزارع ثري وحسن العلاقات معروف في ولاية (كارولينا الشمالية) باسم “السيد تبغ”، ساندته مجموعات التجارة الصناعية مثل «معهد التبغ» الممول تمويلًا جيدًا. أقنع حلفاء الشركات الكونجرس بإلغاء التحذيرات المرفقة بالإعلانات وتقليل ظهور ملصق التحذير على عبوات السجائر. بدلاً من طلب “تدخين السجائر خطر على صحتك”، اقترحوا صياغة أضعف، “تدخين السجائر قد يكون خطيرًا على صحتك”. قامت الشركات -بمساعدة المحامي الكبير في العاصمة والذي سيصبح قريبًا قاضي المحكمة العليا (آبي فورتاس)- بتصميم صفقة جميلة مع وزارة العدل تمكنوا بموجبها من تنظيم إعلاناتهم الخاصة.
مع التحييد الفعال لآليات التنظيم الفيدرالي التقليدية، انتقل محامو المصلحة العامة إلى اتباع مناهج أكثر إبداعًا لمواجهة تلك الشركات. حيث تمكن هؤلاء المحامون بقيادة (جون بانزاف)، الرجل القانوني غير التقليدي والبالغ من العمر 27 عامًا، من اقناع الحكومة الفيدرالية بأنه كان عليها أن تضع إعلانات في أوقات الذروة لا تظهر فقط “ملذات حياة المدخن” وإنما أيضًا “أهوال وفاة المدخن”. ومثال هذه الإعلانات ذلك الذي عرضه (بيل تالمان)، الممثل الذي أخذ دور مدعي العام يخسر قضيته كل أسبوع أمام (بيري ماسون)، متحدثًا عن اصابته بسرطان الرئة: “خذ بعض النصائح عن التدخين والخسارة من شخص عارك الأمرّين لسنوات”. وقد توفي في الوقت الذي تم فيه بث الإعلان.
أصبح (بانزاف) في تلك الأثناء أستاذًا للقانون في جامعة جورج واشنطن وأسس منظمة «العمل على التدخين والصحة» من مكتبه في الكلية. بدأ في حشد طلابه لمقاضاة الوكالات، ونجح في المطالبة بإنشاء أقسام لغير المدخنين على متن الطائرات. كان شعاره “مقاضاة الأوباش”.
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، ترسخت فلسفة إلغاء الضوابط التنظيمية. حيث انضم الليبراليون القلقون من استيلاء الوكالات على الشركات إلى المحافظين المرتابين من قيام الحكومة الكبيرة بخنق الشركات الكبرى، وأقنعوا معًا الحكومة بإضعاف الأحكام التي تشترط وجود أقسام لغير المدخنين. مع استمرار ضعف الوكالات خلال السبعينيات، كان لا بد من ظهور استراتيجية أخرى للتغيير. وبالفعل ظهرت: «حركة حقوق غير المدخنين».
في عام 1971، أسست ربة منزل في ولاية (ماريلاند) تدعى (كلارا جوين)، وكانت ابنتها الصغرى تعاني من حساسية من التدخين، مجموعة GASP لمكافحة التلوث الناتج عن التدخين. انتشرت مجموعة GASP بسرعة عبر المدن الجامعية والجيوب الليبرالية، بهدف جعل ما أسموه “الأغلبية الصامتة” مرئيًا قدر الإمكان. رفع الأعضاء الوعي بقضيتهم من (بيركلي) إلى (فلينت) وطالبوا بكل رقي بمساحات لغير المدخنين في أماكن عملهم وأماكن راحتهم. رفع ناشطون آخرون دعوى قضائية على أماكن عملهم، بحجة أن لديهم “الحق” في التخلص من التدخين حيث كان بعضهم منتسب إلى مجموعة GASP وبعضهم إلى مجموعة ASH التابعة لـ (بانزاف) وآخرون يعملون بمفردهم.
ظهرت حركة «حقوق غير المدخنين» قبل عقد من اكتشاف الدليل على صلة السرطان بالتدخين السلبي. كتبت (ميلوف): ”كان الدافع وراء دعوات المطالبة بحقوق غير المدخنين وطنيًا وليس علميًا. لقد استندت إلى تأكيد غير المدخنين على المواطنة الفاضلة، وكان يغذيها الاستياء من المدخنين“. استاء غير المدخنين من استحقاق أقرانهم المدخنين، ورفضهم مراعاة مشاعر أولئك القريبين كلما أشعلوا سجائرهم. وعلى الرغم من أن (ميلوف) غالبًا ما تكون قاسية بعض الشيء على مجموعة GASP، وتنتقد تبنيها لخطاب “التحرير” حتى عندما تكون مختبئة داخل “الحدود الآمنة للضواحي الليبرالية”، وهي ترسم بدقة كيف حقق أعضاؤها والناشطون الآخرون مكاسب كبيرة ضد شركات السجائر.
نظرًا لأن دعاويهم القضائية تلقت نجاحًا متباينًا، بدأ نشطاء الطبقة الوسطى في مناشدة الشركات مباشرة، بحجة أن تقييد التدخين يمكن أن يكون مفيدًا في المحصلة – تقليل أيام المرض، وتكاليف الإعاقة، وأعباء التدبير المنزلي (لأن التدخين أتلف المعدات والمفروشات)، وتقليل الرسوم القانونية (لأن المدخنين كانوا يتسببون بضعف الحوادث التي تورط بها غير المدخنين). واتفق معهم جيل من الاقتصاديين الليبراليين الجدد والعديد من شركات التأمين. (ونتيجة لذلك، بدأت شركات التأمين في بيع بوليصات التأمين بشكل انتقائي بأسعار مخفضة لغير المدخنين). “يمثل دخان التبغ المنتشر في الأجواء استنزافًا صامتًا لموارد الشركة”، كما تلاحظ (ميلوف)، “ربما كناية عن التكاليف الخفية للمدخنين أنفسهم”. رأت الشركات أن سياسات منع التدخين أصبحت شائعة بشكل متزايد خلال الثمانينيات.
حدث هذا بسبب معارضة التنظيمات العمالية الشرسة. حيث كافحت النقابات بشدة سابقًا في الأربعينيات لكسب فترات استراحة لأجل التدخين، وحين أنه كان لا بد من ذلك، فقد أرادوا أن يكون وفقًا لشروطهم، من خلال المفاوضة الجماعية. ومع هذا، فقد العمل المنظم بحلول الثمانينيات الكثير من قوّته بسبب تلك الاستراحات، ناهيك ع تكتيكات النشطاء غير المدخنين. ليتم في النهاية ايقاف فترات التدخين -وهي أوقات غير منتجة يمكن للعمال خلالها أخذ قسط من الراحة والتدخين- ليحل محلها المزيد من العمل.
كتبت (ميلوف): ”بالاعتماد على تحليلات السلوك الخاص المرتكزة على التكلفة وكشف البرامج الجماعية القائمة منذ عقود، أعادت حركة «حقوق غير المدخنين» تشكيل ما يعتقد الأمريكيون أن الحكومة تدين به للمواطنين، وما يدين به المواطنون للحكومة. وفي نجاحاتهم الملحوظة، حفّزوا عن غير قصد استراتيجية سياسية محافظة لا يمكن فهم آثارها بعيدة المدى، وهي حقيقية للغاية.“
عانى مزارعو التبغ كثيرًا. وأصبح الجمهوريون بحلول الثمانينيات أكثر تشككًا من برنامج التبغ الفيدرالي ومن التدخل الحكومي الكبير في السوق الحرة. فأصبح الديمقراطيون أشد ريبًا تجاه شركة Big Tobacco، وخاصةً أكبر أبطالها في الكونغرس (جيسي هيلمز). حتى شركةBig Tobacco توترت من البرنامج الفيدرالي، لأنها كانت تشتري المزيد من أوراق التبغ من المزارعين في الخارج حيث أن تكاليف زراعتها بالنسبة لهم كانت أقل بكثير.
مع نهاية القرن العشرين، تمت زراعة 90 بالمائة من التبغ المُعالج بالدخان وتبغ (بورلي) خارج الولايات المتحدة. بعد أن تم إضعافه مرارًا وتكرارًا على مر السنين، انتهى برنامج التبغ الفيدرالي أخيرًا في عام 2004. ومنذ ذلك الحين، تتم زراعة التبغ بعقود سنوية بين الشركات، حيث يمكنها أن تملي فعليًا الأسعار التي تريدها، والمزارعون الأفراد يفتقرون للحق في أية مفاوضات جماعية حقيقية.
أصبح المدخنون اليوم أفقر من غير المدخنين ومستواهم التعليمي أقل؛ ومعدلات الإصابة بالسرطان لديهم أعلى. ودائما ما يتم إخبارهم أن كل هذا خطأهم.
عندما جاء الاعتبار أخيرًا لشركة Big Tobacco، تبين أن تأثير الحكومة عليها لم يكن كافيًا. بقيت حكومات الولايات تتعارك لسنوات مع أكبر شركات السجائر، وتطالبها بدفع تكاليف الرعاية الصحية الهائلة المرتبطة بالتبغ. في اتفاقية التسوية الرئيسية لعام 1998، وافقت الشركات على دفع أكثر من 200 مليار دولار لحكومات الولايات لمدة 25 عامًا (وهو مبلغ زهيد مقارنة بتكاليف الأمراض المرتبطة بالتبغ)، ولكن في المقابل حصلوا على شيء أكبر لطالما أرادوه: “وضع حد للدعاوى الجماعية ووضع حد للأحكام العقابية في الدعاوى الفردية”.
لم ترغب حكومات الولايات التي اعتمدت على هذه الأموال لموازنة الميزانيات في التقاضي خوفا من تعريض قدرة الشركات على الاستمرار في تحرير الشيكات للخطر. بالنسبة إلى المدافعين عن الصحة، كان ذلك “فشلًا ذريعًا للصحة العامة وانقلابًا لصالح الشركات”.
اليوم 15 في المئة فقط من الأمريكيين مدخنين، بينما كانت النسبة في منتصف القرن حوالي 50 في المئة. وتشير التقديرات إلى أن النشطاء المناهضين للتدخين قد أنقذوا حياة 8 ملايين أمريكي على مدى 50 عامًا. أصبح المدخنون اليوم أفقر من غير المدخنين ومستواهم التعليمي أقل؛ ومعدلات الإصابة بالسرطان لديهم أعلى. ودائما ما يتم إخبارهم أن كل هذا ناتج عن خطأهم. “تمت الخصخصة وإضفاء الطابع الفردي على مسؤولية إنتاج التبغ واستهلاكه ابتداءً بالبذرة وانتهاءً بالدخان”.
لا تهتم شركات التبغ بقلة عدد المدخنين الأمريكيين. فقد انتشرت عادة التدخين في الخارج، وأصبحت شركات السجائر الآن تستمد معظم أرباحها من المبيعات الدولية. حيث يعيش حوالي 80 في المئة اليوم من المدخنين في بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل. إن ضريبة تدويل السيجارة تفوق التصورات. كما كتب المؤرخ الطبي (آلان براندت)، بحلول نهاية القرن “من المتوقع أن يكون عدد الوفيات مليارًا”.
على الرغم من كون The Cigarette كتابًا ممتازًا، إلا أنه ليس أول كتاب يوثق الضرر الذي أحدثته شركةBig Tobacco. فعلى سبيل المثال، سرد (آلان براندت) في كتابه الرائع The Cigarette Century النفاق الملحوظ لشركات السجائر؛ ورسم (ريتشارد كلوغر) في فيلمه Ashes to Ashes حروب التبغ بأسلوب روائي. إلا أن أي من هؤلاء الباحثين لم يكتب تاريخًا حقيقيًا لمعاناة الناس مع السجائر، بما فيه من كشف عن التكلفة البشرية لهذه الصناعة على المزارعين والمدخنين وغير المدخنين. لكن (ميلوف) قدمت الوصف الأول لتورط الحكومة في هذه التكلفة البشرية الشديدة، والطريقة التي تطورت بها شركات التبغ الكبرى وتكيفت مع المشرعين والمنظمين وازدهرت. والمليار شخص الذين فقدوا أرواحهم بلا داع.
تبقى الدروس المستوحاة من كتابها ملائمة بشكل مذهل إلى اليوم. فنحن في خضم الكشف عن كون صناعة السكر اعتمدت أيضًا على الإعلانات لإلهاء المستهلكين عن الإدمان الشديد. وفي معارك اتحاد كرة القدم الأميركي مع لاعبي كرة القدم السابقين الذين ماتوا بسبب إصابات باعتلال الدماغ المزمن، استأجرت الرابطة نفس المحامين والمستشارين وأعضاء جماعات الضغط التي استخدمتها شركة Big Tobacco.
عملت شركات الهواتف المحمولة أيضًا بلا كلل لإخفاء الدليل على العلاقة بين الإشعاع الخلوي وجميع أنواع الآثار الصحية السلبية. حتى مع حوادث إطلاق النار الجماعية التي تحصل يوميًا، فإن صناعة الأسلحة قامت بالضغط لإخراج نفسها من أي رقابة ذات تأثير. الأمر الأكثر ضررًا هو أن شركات الوقود الأحفوري اعتمدت على العلوم الرديئة، والعلاقات العامة المستمرة، والنشر المتعمد للشكوك للتغطية على العلاقة بين النفط والغاز وتغير المناخ، وهو قرار تجاري أدى إلى زيادة الأرباح على المدى القصير، لكنه ربما يكون قد قضى على أعمالنا. قضى على حضارة كاملة.
هل سنتعلم من التاريخ المذكور في كتاب The Cigarette؟ كما يُظهر كتاب (ميلوف) بشكل مخيف كيف كانت القوى الكبرى ترسم بهدوء وخبث قدرًا كبيرًا من الحياة اليومية: الخصخصة، والإعلانات الرائعة، وظهور الرأسمالية المتأخرة. عندما نفكر في كيفية تحقيق العدالة في أكبر الجرائم، يجب علينا تحويل انتباهنا بعيدًا عن المستهلكين الأفراد وخياراتهم والتركيز بشكل مباشر على أولئك الذين استخدموا قوتهم الهائلة في هندسة اقتصادات بأكملها لمصلحتهم الخاصة.