“لا أتذكّر من تلك اللحظات إلا الأخيرة منها قبل أن أصبح طريحة الأرض بسيلان الدم من وجهي بعد ضرب رأسي بالحائط مرات عدة، فوجدت نفسي بعد أيام داخل المستشفى، وما زلت أعالج حتى الآن تشوهات وجهي رغم مرور 6 أشهر على انفصالي عن زوجي الذي اعتاد أن يفرّغ شحنات غضبه بجسدي ضربًا كل يوم”.
هكذا قالت فاطمة جعفر (23 عاما) للجزيرة نت عن العنف الذي تعرّضت له على يد زوجها الذي جعل من بيتهما الكائن في حي المُصلّى بمحافظة كركوك (شمالي العراق) أشبه ما يكون بالسجن رغم مرور أقل من سنة على زواجها به، لتقرّر في النهاية الانفصال عنه.
لم تكُ فاطمة الوحيدة التي قاست العنف الزوجي في العراق أخيرا، فقد سبقتها الشابة نورزان الشمري ذات الـ20 ربيعا التي قتلت طعنا بالسكاكين على يد شقيقها وأبناء عمومتها في أواخر أغسطس/آب الماضي أمام العامة في منطقة الجادرية (وسط العاصمة بغداد)، وهي الحادثة التي أشعلت حينئذ مواقع التواصل الاجتماعي والرأي العام.
ويعدّ العنف ضدّ النساء أحد أكبر التحديات التي ما زال العراق يُعاني صعوبة في إيجاد حلول لها أو التقليل من نسب حدوثها.
ويرى مراقبون في استمرار الأزمات وضعف المنظومة القانونية أمام الأعراف والعادات العشائرية سببا في ازدياد هذه الظاهرة، وهذا ما مهّد الطريق لعدم الإفصاح عن حالات كثيرة للعنف ضد النساء، بسبب وصمة العار الاجتماعية، والخوف من الرد على العنف.
آلاف الحالات
وفي عام 2021 وحده سجّل العراق 5 آلاف حالة تعنيف للنساء في بغداد وبقية المحافظات، وفقا لعضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان علي البياتي.
وفي حديث للجزيرة نت، أوضح البياتي أن من بين 3 فئات مجتمعية تصدّرت المرأة قوائم العنف الأسري في العراق، تلاها كبار السن ثم الأطفال، مشيرا إلى رصد نحو 15 ألف حالة عنف ضد الفئات الثلاث في عام 2020 .
المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى في العراق كشف في وقت سابق عن تسجيل 1449 قضية عنف ضدّ النساء من مجموع 1543 قضية عنف أسري سُجّلت في أشهر (يونيو/حزيران، ويوليو/تموز، وأغسطس/آب) الماضية في المحاكم التابعة لرئاسة استئناف بغداد-الرصافة.
كما كشف المتحدث الرسمي باسم الداخلية العراقية اللواء سعد معن عن تسجيل 3 آلاف و637 حالة اعتداء من الأزواج على زوجاتهم من مجموع 5 آلاف و292 حالة عنف أسري سُجلت في العاصمة بغداد وبقية محافظات البلاد في النصف الأول من العام الجاري.
تفعيل المحاكم
مديرة دائرة تمكين المرأة في الأمانة العامة لمجلس الوزراء يُسرى كريم ترى في تفعيل إستراتيجية مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي ضرورة ماسة، بالتنسيق مع الوزارات المعنية وتحديدا وزراتي الداخلية والصحة ومجلس القضاء الأعلى، فضلا عن التعامل بجدّية مع القضايا المتكررة في حالات العنف بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى.
وفي حديثها للجزيرة نت، ترى يسرى أن إعادة العمل بالمحاكم الخاصة بالأسرة والمعنية بمتابعة القضايا الأسرية لمراعاة الخصوصية وتحديدا المرأة من أهم الخطوات التي اتخذتها الحكومة العراقية، فضلا عن إطلاق الخطة الوطنية الثانية لقرار مجلس الأمن الدولي 1325، لمعالجة هذه الظاهرة التي بدأت تستفحل أكثر يوما بعد آخر.
وتعليقا منها على عدم إبلاغ كثير من النساء عن حالات عنف يتعرضنّ لها، تؤكد مديرة الدائرة ضرورة تشجيع المرأة على هذه الخطوة بتفعيل الخطوط الساخنة بالتعاون مع وزارة الداخلية والمضي بمراجعة مسودة قواعد السلوك الخاصة بقوى الأمن الداخلي بإضافة مادة جديدة هي “المرأة والعدالة الجنائية”، بالتعاون مع المديريات المعنية في وزارة الداخلية.
التنشئة الاجتماعية
ولعب استمرار الحروب والنزاعات المسلحة وغير المسلحة منذ نحو 4 عقود في العراق دورا محوريا في زيادة ظاهرة العنف ضد المرأة، وتعيدها من الناحية العلمية الباحثة النفسية والاجتماعية شهرزاد العبدلي إلى تأثيرها في نفسية الأفراد ودفعهم نحو العنف.
لكنّ العبدلي لا تحصر الأسباب في ذلك فحسب، بل تُحمّل غياب القوانين التي تحمي المرأة عادة من العنف المسؤولية أيضا، فضلا عن التنشئة الاجتماعية ومنها التربية التي تُعطي الحق للرجل، سواء كان الزوج أو الأب أو الأخ، في تأديب المرأة والسيطرة على سلوكها وحبسها داخل البيت بحجّة الحفاظ على شرفها سواء كان بالضرب أو غير ذلك، متسائلة: لماذا يجب أن تحمل المرأة شرف العائلة فقط دون الرجل؟
وتحيل الباحثة النفسية والاجتماعية الأسباب التي تقف خلف زيادة ظاهرة تعنيف النساء إلى تفسيرات خاطئة للتعاليم الدينية، بفهمها على عكس حقيقتها التي توصي بحسن التعامل مع المرأة؛ فما يقع للنساء من إجبارهن على الزواج وتقديمهن كدية في النزاعات العشائرية وحرمانهن من التعليم وحق العمل مُخالف لتعاليم الدين تماما.
وتصف العبدلي حقبة السبعينيات من القرن المنصرم بـ”المرحلة الذهبية” للمرأة العراقية، لكن نتائج المعادلات أصبحت ضدّ حقوقها بسبب الحروب والنزاعات التي مرّ بها البلد، على حد تعبيرها.
ولفتت العبدلي إلى أن العراق صادق على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 الخاص بحقوق المرأة، إلا أنه غير مفعّل وتمّ التحايل عليه، مستشهدة بأنه لا تكاد توجد سوى امرأة واحدة في كل حكومة من الحكومات المشكلة بعد 2003.
انتشار المخدرات
من جانبها، ترى الصحفية والناشطة النسوية هناء رياض أن تزايد ظاهرة العنف ضد المرأة في العراق يدل على أن المجتمع يُعاني أزمات نفسية كبيرة، وأن الضغوط التي فرضتها أوضاع البلد في السنوات الماضية من فقدان للأمن وما رافقه من موجات هجرة ونزوح ودخول تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب البطالة المرتفعة والضغوط الاقتصادية وغيرها، كلها أسباب تركت ظلالها السوداء على نفسية المواطن.
عوضا عن كل هذا، فإن هناء تقرّ في حديثها للجزيرة نت أن انتشار المخدرات والإصابة بالاكتئاب والقلق كلها عوامل تدفع إلى سلوك عدواني خصوصا مع المقربين، فازدادت بذلك معدلات تعنيف النساء، مؤكدة حاجة البلد إلى عيادات نفسية متنقلة، وإلى قوانين صارمة، فضلًا عن دورات توعية مكثفة، ويسبق كل ذلك الاستقرار الأمني والاقتصادي.