يوسف أبو الفوز يسرد تراجيديا هجرة العراقيين إلى أوروبا
رواية “جريمة لم تكتبها أغاثا كريستي” تعيد مشهد قتل النساء العربيات انتقاماً للشرف في فنلندا
تمثّل رواية “جريمة لم تكتبها أغاثا كريستي” للكاتب العراقي يوسف أبو الفوز، المقيم في فنلندا منذ 27 عاماً، نقطة التقاء لعوالم تخييلية إبداعية ابتكرها المؤلف من جهة، ووقائع وأحداث حقيقية من جهة أخرى، وثّقها التاريخ الحديث ووسائل الإعلام، وسجّلتها الخبرات الحياتية المباشرة للكاتب والصحافي والناشط السياسي المعارض. وقد غادر أبو الفوز العراق بحثاً عن الحرية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وتنقّل في المنافي العربية والأوروبية، وقضى عاماً في سجون إستونيا في منتصف التسعينيات. وهناك اختارته مجموعة من السجناء العراقيين، ليمثلهم أمام السلطات بهدف أن يُقبَلوا كلاجئين في دولة أوروبية. وبالفعل جرى استقبالهم في فنلندا ليقيموا على أراضيها، بترتيب مع المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
عبر هذه التجربة الروائية، الصادرة حديثاً في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة الإبداع العربي)، يفتح أبو الفوز (65 سنة) نافذة فنية طيّعة، للإطلال على فضاء أرحب، هو حاضر المهاجرين العرب الذين شدّوا الرحال إلى أوروبا، بشكل شرعي أو بطرق غير شرعية، خصوصاً العراقيين من الطوائف المختلفة في فنلندا خلال الأعوام الأخيرة.
وبإلقائه الضوء على هذه النماذج البشرية وصراعاتها المتنامية وصدماتها الحضارية وجرائمها الفعلية والملفقة، يُوجِد الكاتب بأدواته الاستقصائية مدخلاً للوقوف على تشريح بانورامي واسع النطاق، اجتماعي وسياسي وأمني واقتصادي، للأوضاع الراهنة والملابسات المتشابكة في الدول الغربية التي تجبرها القوانين على فتح أبوابها للوافدين وللاجئين، على الرغم من معارضة بعض الأحزاب والقوى المجتمعية والجماعات الضاغطة والعنصرية.
وهو يتمكن من تحليل الأوضاع البائسة واليوميات المأساوية داخل الدول العربية المنقسمة والمتحاربة، التي تجبر أبناءها على الهرب في أجواء شديدة الخطورة، وفوق قوارب الموت المرعبة. ويستخدم المهربون عادة قوارب مطاطية منفوخة لنقل المهاجرين من السواحل التركية إلى الجزر اليونانية. وأوضحت التقارير الصحافية من مصادر عدة أن أكثر من يريد الهجرة هم السوريون والعراقيون، وهناك أيضاً أعداد من الفلسطينيين واللبنانيين، وهناك مهاجرون من الصومال ومناطق أفريقية. وذلك نقلاً عن موقع “المرصد” الفنلندي، الذي يبدو كأحد الأصوات “المعلوماتية” على امتداد صفحات الرواية “الكولاجية”، التي تتسع لمصادر متنوعة، إلى جانب الراوي العليم، الذي يناط به الدور الأعظم في السرد عن الشخصيات، ونقل حواراتها.
الصراع الحضاري
يدير صاحب الأعمال القصصية والروائية “عراقيون” و”أنشودة الوطن والمنفى” و”طائر الدهشة” و”تلك القرى… تلك البنادق” و”تحت سماء القطب” و”كوابيس هلسنكي”، لعبته الروائية الجديدة “جريمة لم تكتبها أغاثا كريستي” في طبقات عميقة خلف الحدود والأسطح القريبة للفن السردي بشخوصه وعناصرة الاعتيادية. فالعنوان يحيل إلى حدوث جريمة، هي قتل امرأة عراقية في ظروف غامضة، لكن الجريمة التي تشرع السلطات الفنلندية بالتحقيق فيها تتأسطر لتصير أكثر إثارة وتشعّباً من كل ما كتبت سيدة الروايات البوليسية الإنجليزية أغاثا كريستي. وتمضي التحقيقات في مسارات شتى، ويجري استجواب كثيرين من الشهود والمتهمين والذين لهم صلة بالمرأة المغدورة، ومنهم الشخصيات المحورية في العمل، وهم مجموعة من العراقيين متعددي الطوائف الذين يعملون في مهن ووظائف متنوعة وهاجروا إلى أوروبا في ظروف وتوقيتات مختلفة.
ومع تكشّف تفاصيل الجريمة شيئاً فشيئاً، ودوافع القتل، تتكشف الدوافع الجوهرية لكتابة الرواية، التي لا تقف عند الجريمة والصبغة البوليسية، ولا تكتفي بأن تكون تخييلاً فنّياً لأحداث مجانية أو حتى شيّقة، وإنما تصل الكتابة من خلال النبش في جوّانيات الشخصيات وما وراء الأحداث إلى رسم صور مكبّرة فاضحة للنسيجين الإنسانيين، الغربي والشرقي على السواء، وذلك جراء تلاقيهما الذي يبلور ذروة التناقض، ويستعيد ضمنيّاً نظريات الصراع الحضاري وأطروحات عدم إمكانية دمج المتنافرين.
تصل تحقيقات الشرطة بعد وقت غير طويل إلى أن القاتل هو ابن عم السيدة العراقية، الذي حضر خصيصاً إلى فنلندا عن طريق السويد لينفذ “جريمة الشرف” بدعوى غسل العار، بعدما وشى البعض إلى عائلتها بسوء سمعتها. وهي أمور بدت غريبة على المحققين الذين يعيشون في بيئة متحررة تمنح المرأة حقوقها الكاملة، ولم يكونوا ليتفهموا جوانب كثيرة منها لولا وجود مترجمين عراقيين شرحوا لهم الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية التي يتذرع بها الجناة لإيجاد مبررات للجريمة. والمدهش أن المرأة المغدورة هي التي دفعت للمهرّبين تكلفة استقدام ابن عمّها بضغوط من أهلها، من دون أن تدرك نيّته قتلها بطبيعة الحال، بل إنها ظنته آتياً لكي يتزوجها بعد طلاقها من زوجها. ذلك الزوج الذي لم تستبعد التحقيقات تواطؤه هو الآخر مع أهلها في تنفيذ مخطط الإجهاز عليها بطعنة نافذة في قلبها.
وهم الهجرة
تُبرز الرواية كيف أن فكرة “الخَلاص” التي يلهث وراءها المهاجرون هي محض وهم، فالحقيقة أنه لا نجاة حال البقاء في الأوطان، وكذلك فإن الحياة في المهجر هي منقوصة ومفقودة إلى حد بعيد، وليست فرصة ذهبية للعيش، كما يظن المتفائلون.
فالعراقيون، على سبيل المثال، الذين نزحوا إلى هلسنكي خوفاً من الملاحقة والتهديد والتنكيل في عهد الرئيس صدام حسين، أو الذين يواصلون النزوح إليها بكل السبل المشروعة وغير المشروعة بعد سقوط النظام البعثي وحلول الانقسامات الطائفية والصراعات الأهلية والفساد والغياب الأمني وانتشار الجماعات المتطرفة وعصابات القتل والخطف والنهب والترويع وغير ذلك، لا ينالون الفردوس المفقود بوصولهم إلى الأراضي الغربية، لكنهم يواجهون ظروفاً قاسية أيضاً، من حيث عدم القدرة على التأقلم مع عادات المجتمع وتقاليده ولغته، وعدم التوافق مع متطلبات سوق العمل. وهذا ما لا يؤهلهم للاندماج، ويعرّضهم للفقر والعزلة والانخراط في الجريمة، إلى جانب ما يواجهونه من معاداة الأحزاب والجماعات والقوى العنصرية والمتطرفة المناهضة للهجرة واللجوء والتعددية الثقافية. وهؤلاء يصل بهم الأمر إلى تلفيق التهم للجاليات العربية، والعمل على الإساءة إليهم، وتشويه صورتهم، وربما ممارسة الاعتداءات المباشرة ضدهم، بدنيّاً ونفسيّاً.
تنفتح الرواية على سائر مفاهيم القتل الإنساني، ووجوهه وتمثلاته البشعة، التي لا حصر لها. فالقتيلة العراقية، ليست وحدها التي عُذّبت واغتيلت بآلة حادة، فكل يوم تُغتال نساء بدم بارد في المدن المزدحمة التي تخلو من الرحمة. هناك معانٍ كثيرة للخنق والطعن والوأد والدفن تحت الثرى، تلتفت إليها الرواية بأناة واصطبار، من بينها تغييب العدل والشفافية والمساواة في العالم التنافسي المحموم، وإهدار كرامة البشر، وقمعهم، وسلبهم إرادتهم وحرياتهم وحقوقهم، بل والإتجار بهم أمام أعين المنظمات الدولية، التي تسللت إليها أذرع الفساد. وشأنها هذا شأن الحكومات والقوى السياسية ومافيا التكتلات الدولية، المتحالفة شرقاً وغرباً ضد الضعفاء والمقهورين والمهمّشين. وهو ما تتقصاه الرواية، خصوصاً بتركيزها على أوضاع اللاجئين والمهجّرين، المهزومين دائماً أمام قبح الحقيقة، شأن القتيلة العراقية، وغيرها من آلاف الموتى/الأحياء، بتعاستهم وصمتهم وانسداد الأفق أمام تطلعاتهم وآمالهم، “الحقيقة هي ضباب آخر في عالم يشعر الإنسان فيه بأنه ضعيف أمام حقائق الواقع الصلبة والقاسية والمرعبة. الحقيقة لها أقدام فيل، حين يكون للأمنية جناح فراشة”.