الشعر مرآة العرب، هكذا وصف قديما وما زلت مقتنعا بهذا الوصف رغم كل التطورات والتحديثات على الشعر، فمن شعر البحور وصولا لشعر التفعيلة فالشعر الحر وصولا لما سمي الشعر النثري والذي أراه نصوص نثرية بروح شعرية حتى وصلنا لما عرف بإسم القصيدة النثرية والتي يفضل بعض النقاد تسميتها “النثيرة” فهي نثيرة أكثر مما هي قصيدة، وحين أهدتني الكاتبة عفاف نصر الحسن كتابها “إمرأة من زمن المجد” من شعر النثيرة خلال حفل اشهار كتبي “أحلام عمَّانية وأطياف متمردة” في معرض عمَّان الدولي للكتاب، شكرتها بقوة لحضورها حفل الإشهار ولإهدائي الكتاب وهو باكورة أعمالها الأدبية، ومباشرة لفتت نظري لوحة الغلاف فهي لوحة للفنانة التشكيلية الألقة كفاح الشبيب من العراق الحبيب، وهي تصور امرأة طاعنة بالسن ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز وتتوكأ على عصا وترافقها طفلة ترتدي الثوب ايضا وتجر حقيبتها متجهتين للأقصى، الطريق مبلط تحيطه الأزهار، وبرمزية عالية توجد اشارتين مروريتين تعني ممنوع الالتفاف للخلف، ولكن بكل أسف لم أجد بالكتاب أية اشارة للتعريف بلوحة الغلاف وذكر الفنانة التي أبدعتها، فهذا حق مقدس لحقوق الفنان صاحب اللوحة لا يجوز اغفاله، ومن المؤسف أن هذا ليس أول كتاب اقرأه وأجد أن دار النشر قد أغفلت الإشارة للوحة الغلاف، بينما الغلاف الأخير احتوى على نص قصير وصورة الكاتبة.
الكتاب من منشورات صامد للنشر والتوزيع/ لبنان وقدم له بقراءة طويلة بلغت أحد عشرة صفحة د. سمير أيوب، والعنوان بحد ذاته يحمل هدفا فهو لم يأت عبثا فهي أسمته “إمرأة من زمن المجد” في إشارة واضحة للماضي وليس الحاضر، وهذه الإشارة للماضي ليست غريبة عن مناضلة وزوجة مناضل راحل عاشت الثورة في عنفوانها حتى كانت اتفاقية اوسلو التي قلبت كل المفاهيم والأهداف، ومعظم من خاضوا غمار الثورة في عنفوانها وما زالوا على قيد الحياة يتحسرون على زمن النضال الحقيقي، ولذا أهدت الكتاب لروح زوجها المناضل (محمد أمين) نصر شريم وإلى كل مناضل وشهيد ولأولادها وكل من دعمها بمسيرتها الأدبية، والكتاب مكون من 152 صفحة من القطع المتوسط ويحتوي على ستة وخمسين نصا قسمتها المؤلفة لقسمين: الوطنيات من أربعة وأربعين نصا والوجدنيات من إثني عشر نصا، علما ان يوجد خطأ في وضع تسلسل النصوص فوقها فكانت الأرقام مخالفة للعدد، وهذا التقسيم المسبق للكتاب يضع القارئ في زاوية محددة لا يخرج منها إلا بالبحث فيما وراء الكلمات من أحاسيس ومشاعر، والكتاب حافل بهذه الأحاسيس والمشاعر ومنها الفراق والوحدة والوفاء إضافة للوطن.
الفراق: وهذا يظهر جليا في النصوص منذ النص الأول المعنون “من أنا” حيث تقول: “واللقاء لمحٌ، والعمر كله افتراق”، ونجد الفراق يتجلى في نصها “هجرت أفكاري” حيث تقول: “وقبلت حبيبا، ما غاب عن البال”، وكان الفراق متجليا في نصها “رثاء شهيد” لزوجها المناضل الراحل وقالت فيه: “غابت الدنيا، واختفى القمر، شمسنا لم تعد تشرق”، وهذا النص الطويل من ست صفحات يميل للسرد والخاطرة أكثر من النثيرة وخاصة في الصفحات الثلاثة الأولى منه حين تستعرض شهداء عائلته بالأسماء حيث أن المرحوم شقيق كل من الشهداء أبو علي إياد والشهيد الحاج نصر، وكذلك نراها تشكو من الفراق في نصها “وتغير كل شيء” فتقول: “تباعدت الأرصفة، ولم تعد أرصفة، ولا المدينة مدينة، ولا الزمان زماني”، وفي نصها “أحلام العاشقين” بالقول: “وترحل أمواج العاشقين، فوق غيمة داكنةٍ”، ويظهر الفراق بوضوح في نصها “أشواق وذكريات” بقولها: “لا نوم يزورني، ولا شروق الصباح، طعنتني بخنجر الهجر، فهل من خلاص؟”، وكذلك في نصها “نهر الحب” بقولها: “وتختفي مع الغيوم، وتنتظر غدا، يغيب مع المجهول”، ونرى الاحساس بالفراق في نص “إلى قمري” بالقول: “إعلم يا قمري، أنك في السماء، صعب المنال”، ويظهر الفراق في نصها “قمر” بالقول: “يا سيد الكونِ، يا نجم غائب في سمائي”، وكذلك في نصها الأخير من الكتاب حين تقول: “لا أمل في اللقاء، هناك سراب، أنتَ في السماء”.
الوحدة: وهذا نراه أيضا في النص الأول “من أنا” حيث تقول: “وحيدة، على رصيف الذكريات”، وفي نصها “أشواق عاصفة” حين تقول: “أعانق الأوجاع بصمت، وأمضي في سكون الليل”، وكذلك تتحدث عن الوحدة في نصها “ذكريات راحلة”حين تقول: “أي حال أنا فيه، والذكريات زنزانة، تأكل بقايا، عيوني الساهرة”، وفي نصها “غفا الليل” تتجلى مشاعرها بالوحدة بقولها: “سأبقى في ظلام الليل، أنادي قمري، عله يلقاني”، ونجد الوحدة في نصها “أشباه رجال” بقولها: “ودارت بي الأرض، وتقلبت أحوالي، وسرت في طرق، رسمها أشباه رجال”، وتتكرر الوحدة في نصها “ذكريات” بالقول: “أحبة ما غردوا، ولا أجابوا الآهات، فأيقنت، ألا مجيب لأشواقي”، وفي نصها “تنهد الورد” بالقول: “فسبحت مع الأحلام، على صهوة جوادي، وغفوت، على الأشواق”.
وتبرز الوحدة في نصها “أنا والليل” حين تبوح بألم بالقول: “ألا أيها الليل، لم تبق لي شيئا، سوى الظلام والسهد”، وتناشد الليل في نهاية النص بالقول: “فاسرق أقمار غيري، واتركني، لأحلامي وأمالي” وهذا يدلل على حجم الوحدة والرغبة الكامنة في الخروج منها، والليل رفيق وحدة الكاتبة في نصوصها وهذا يتكرر في أكثر من نص فنراها في نصها “ليل حالك” تهمس: يساهرني ليلي، بسواده، بظلمته، أحاكيه، أساهره”، وتظهر الوحدة بألمها في نصها “الشمس أشرقت” بالقول: “ناديت في البيت، بأعلى صوتي، أين فارسي، وأين أحبابي، طال السفر”، كما تبرز الوحدة في نصها “أنتَ الكون” حين تقول: “وحيدة مع قهوتي، هلا شاركتني؟، وأعدت للقلب، روحا أفلت؟”.
الوفاء: والوفاء بعض من المشاعر السامية في الكتاب، سواء كان الوفاء للوطن أو الحبيب الذي رحل فنجدها تقول في النص الأول “من أنا”: “لم تغادرني، فقيودك لا زالت في معصمي”، وفي بداية النص تقول: “أنا عربية من الأردن، أنا فلسطينية من كل فلسطين، وبلاد العرب أوطاني”، وكذلك نجد ذلك الوفاء للشهداء في نص “يا عمر” والتي تحدثت فيه عن الشاب الشهيد البطل عمر، وفي نصها “ذكريات راحلة” وهي تقول لزوجها المناضل الذي رحل: “اهتزت الأبواب، ونادت الأماكن، على فارس الزمان، فمن قال أن الحنين والذكريات، لا تسير للوراء”، وظهر الوفاء في عدة نصوص وجميعها تخاطب أنثى كما في نص “عطركِ” حيث ورد في صيغة مخاطبة لأنثى بدون تحديد الأنثى، وهل هو مخاطبة للذات على لسان ذكر أو مخاطبة من الكاتبة لأنثى غيرها ابنة او أم او أخت أو صديقة، حيث تبدأ النص بالقول: “الذوق أنتِ، ورقة الإحساس، والعطر عطركِ، رائع الأنفاس”، وكذلك في نص “مسافر” ونص “بركان” ونص “برقٌ” ونص “وريقة الروح” ونص “ثلج خلودي” وهي جميعا تخاطب أنثى، بينما تعود لمخاطبة الآخر الذكر في نصوصها “خواطر” و “وجدان” و “طيور”.
الوطن: ومن الضروري الاشارة أن الوطن لم يفارق نصوص الكاتبة، فلذا ركزت الكتابة في مقالي على المشاعر والأحاسيس كون الكتاب وطني بالكامل تقريبا، تاركا للقارئ التجوال بالوطنيات التي باحت بها الكاتبة، فهي كما أشرت قسمت نصوصها الى قسمين الوطنيات وهي غالبية النصوص، والوجدانيات وهي الأقل، ومن نصوص الوطن الحافلة بالمشاعر المختلفة نص “لا ترحل أيها الوطن” ونص “دماء فوق التراب” ونص “مشاعل الثوار” ونص “غزة” ونص “رجال الصمود”، كذلك نص “نحن السنديان”، ومن النصوص البارزة بفكرتها “نداء الوطن” حيث تتحدث عن ضرورة الثورة على من ترى أنهم باعوا الوطن، وتتكرر الفكرة في نصها “أبكيتني يا وطن”، بينما نرى الحنين في “مفتاح الدار” والأمل في “ضحكات” والافتخار في “عزنا قدسنا”، كما نرى الألم في نصها “أوطان على ظهري” وأيضا في نصها “إغتيال وطن” وفي نصها “وطن على الرمال” وفي نص “وطني” وفي نصها “حمامة على غصن زيتون”، والإصرار في “وطن على قلم” وكذلك في نص “فدائي، والرفض في “لا للمؤتمرات” والحلم في نص “فلسطين” وفي نص “طائر من فلسطين”، ونرى الحرقة في المشاعر في نصها “يا قدس” وفي نصها “القدس عروس عروبتنا” وهذا العنوان مقتبس من قصيدة للشاعر مظفر النواب، والإشتياق في نص “مجرد أحلام”.
ومن الضروري الإشارة أن الكاتبة تميل للمباشرة في نصوصها بشكل عام رغم حجم المشاعر والأحاسيس فيها، ومن الضروري الإشارة أن ما عرف بالقصيدة النثرية “النثيرة” هي شكل من أشكال ماسمي بالحداثة والقائمة على التمرد على كل ما هو موروث بما فيه الشعر من خلال عملية تجريب ما زالت مستمرة، ولذا ظهر ما اصطلح عليه “قصيدة نثرية” وهي لها عناصر مختلفة تأسس لها وأهمها الرمزيات في النصوص، واللوحات بالحروف، والجرس الموسيقي والإيقاع والفكرة التي تثير التساؤل والنص الذي يثير الدهشة، وحين تخرج عن ذلك تكون أقرب للخاطرة المكتوبة منسقة البناء الخارجي على شكل شعر، وهذه مسألة يجب الانتباه لها، فالقصيدة النثرية أجنبية الجذور جرى استخدامها لدى بعض الشعراء العرب في بدايات مرحلة الحداثة، لكن الغالبية ممن يكتبون بدون معرفة قواعد الكتابة الشعرية النثرية وما عرف بإسم قصيدة النثر “النثيرة” يخلطون بين النثر والخاطرة والشعر، فليس كل من جرى خطه قصيدة نثرية، كما ليس كل كلمات صفت على بحر من بحور الخليل شعرا كما أشار الجاحظ.
“جيوس 26/12/2021”