صدر للكاتب القدير والصديق الأستاذ رزاق عبود، كتابه الجميل (البصرة… وصورة الأمس)، في تشرين الثاني 2019 من دار ميزر للنشر في السويد، وبتصميم للغلاف من قبل الفنان المبدع فراس البصري، حيث تُزيّن الغلاف أحدى لوحاته الجميلة، وتكفّل الأستاذ مديح الصادق بالتدقيق اللغوي، ولم ينسى الكاتب تقديم الشكر للأصدقاء الذين أعانوه ” في الـتأكد من، أو تذكر بعض الأسماء والمواقع…”، الكتاب بالحجم المتوسط ويحوي 174 صفحة.
يَستهلُّ الكاتب ملحمته ” في مدينتنا الوادعة الرائعة البصرة، كان يتجلى العراق كله، بل قل العالم أجمع. صورة نموذجية لأي ميناء في العالم، أبوابه مفتوحة، ونوافذه مشرعة على الدنيا كلها …” يتعايش فيها بمحبة وأمان كل ألوان فسيفساء الشعب العراقي، فأصوات المآذن تمتزج مع دقات نواقيس الكنائس لتؤلف سمفونية عفوية صادقة.
الكتاب ليس بحثاً تأريخياً أو دراسةً تحليليةً للمجتمع والواقع البصري، بل بين هذا وذاك بسرد جميل ينساب كدبس التمر على أنغام البلابل في حر الصيف، فهو يعكس لوعة وإشتياق الكاتب للوطن والبصرة الأم، أعتمد الكاتب على عصارة الذاكرة المعلبة في جراديق (مخازن التمر وتصنيعه) الزمن الجميل ! فكان كالزيطة (طير صغير سريع الحركة) يتنقل بين البساتين والسواقي والأنهار والمناطق وشوارعها، ماراً على ذكر السواعد السمراء التي تحنّت بتراب الأرض عند حرثها، أو عند بناء الدور أو تفريغ السفن، وهم يغنون على أنغام فيفرة تومان الأسود الطيب (عمال وإحنه تعابه … أويلاه يا يابه).
شط العرب وكورنيشه الجميل، قبلة البصريين وخاصة في مهرجان نوروز والكسلة، يزهو بثوب الطيبة ويتعطر بوجوه الجميلات وغزل البنات وكليجة التمر، وتنساب أبلام العشاري والمراكب متوّجة بالنوارس وهلاهلها ليتشكل لحن بصري خالص، كما تشارك فرق الخشابة بأغانيهم ورقصات الهيوة، فيطرب لها آلاف المحتشدين على كورنيش الضفتين.
ذاكرة الكاتب المدهشة ترسم لك سجادة كاشان مزغرفة بالأسماء، علماء، أطباء، مهندسون، سياسيون، كتّاب، فنانون، بناؤون، بحّارون،عطارون….، تُعيد كل بصري أصيل إلى طفولته وشبابه، وخاصة المغتربين منهم، فتعتصر القلوب حسرةً وشوقاً، تُرطبها حبّات الندى من تحت الجفون، قَلّبَ الكاتب صفحات التاريخ البصري ليمتشقَ أسماء العلماء والأدباء وما تركوه من كنز لأحفادهم المبدعين، وهم يكملون المسير بنتاجاتهم المختلفة، ولا يَطربُ بويب إلا على أنغام المربد العريق تحت ظلال النخيل الباسقات.
الأسماء والاماكن تمرُّ على القاريء كشريط سينمائي ملوّن يتراقص على شاشات السينمات البصرية (للأسف أندثرت جميعاً في زمن التخلف)، فيسيلُ اللعاب بذكر السندويجات والمطاعم وأكلاتها الشهية، ويهرع الصبيان بل حتى الشياب إلى ساحات الدواليب لممارسة طقوس عرس العيد، كما يحلو للصبيان أن يأخذو صورة أسود وأبيض خلف مجسم طائرة فيحلّقو مزهوّين في سماء البصرة وطائرتهم تلامس سعف النخيل.، بينما الخيل والحمير المُستأجرة تُثير التراب.
بالتأكيد لا يمكن تغطية اللوحة البصرية الكبيرة بكتاب واحد، والكاتب بذل جهداً كبيراً فأبدع، فهو البصري الأصيل الذي عشق أنفاسها الرطبة ولفحةِ شمسها الحارقة، فألف شكر له فقد جعلنا نعيش صورة الأمس البهية.
2021.12.27