بمناسبة مئوية تأسيس الدولة العراقية، أجرت فضائية (العراقية) شبه الرسمية، مقابلة مع السيد وزير المالية الدكتور علي عبدالأمير علاوي، دامت ساعة و 21 دقيقة، استعرض فيها المراحل المهمة التي مر بها العراق منذ التأسيس عام 1921 و إلى يومنا هذا.(رابط الشريط رقم 1 في الهامش).
ونظراً لأهميتها، نالت تصريحات السيد الوزير اهتمام الإعلاميين والمعلقين السياسيين. فقد أشار إلى المشاكل الكبرى التي تهدد وجود العراق ومستقبله كدولة وسماها بحق (المشاكل الوجودية)، مثل اعتماد العراق شبه الكلي على النفط لنحو 90% من موارده المالية، وخطر الاستغناء عن النفط بعد حوالي عشر سنوات من الآن، حيث هناك توجه عالمي لحماية البيئة من انبعاث ثاني أوكسيد الكاربون، والاحتباس الحراري ومخاطره على البشرية، و الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة البديلة مثل الطاقة الشمسية والرياح والشلالات والأمواج البحرية وغيرها. ولذلك فمصير النفط كمصير سلفه الفحم، سيتحول إلى بضاعة بائرة في باطن الأرض، وبالتأكيد سينهار سعر البرميل إلى أدنى ما يمكن، وهذا يعني إفلاس العراق مالياً.
وجواباً على سؤال مقدم البرنامج، الاعلامي السيد كريم حمادي، حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك قال أن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وأن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع !
لا أريد أن أناقش كل ما صرح به السيد الوزير، فأغلبها صحيحة، وخاصة مخاطر الاعتماد الكلي على النفط في الموارد المالية، لأن هذا يعني انهيار الدولة العراقية في المستقبل القريب. ولكني أود في هذا المقال أن أوضح بعض الأمور التي مر عليها السيد الوزير دون أن يفيها حقها، وكذلك المخاطر الأخرى التي تهدد وجود العراق كدولة ولم يشر إليها. فهناك الكثير من المخاطر إن لم يتخذ المسؤولون إجراءات وقائية ضدها فمستقبل العراق في مهب الريح، ويكون مظلماً ومرعباً وربما سيكون غير قابل للبقاء كدولة. وقد يرى البعض أن هذه نظرة تشاؤمية، ونقد مبالغ به…الخ، فالجواب أن من واجب المثقف تشخيص مواطن الخطأ، ودق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، وتجنب سياسة النعامة في دفن رأسها بالرمال.
أولاً، مرحلة الإزدهار الاقتصادي:
يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك، وذلك لإعتماد قائد الثورة ورئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم على خيرة الكفاءات الوطنية المخلصة، والمتحمسة لخدمة الوطن عملاً بمبدأ: (الشخص المناسب في المكان المناسب)، بدون أي تمييز. ويشهد بذلك باحثون أجانب مثل حنا بطاطو الذي قال: “ومما له مغزى أن أصحاب المصانع لم يعرفوا ازدهاراً كالذي عرفوه في عهد عبد الكريم قاسم (1958-1963)، الذي كانت سياساته الاقتصادية والمالية موحى بها – إلى درجة غير قليلة- من الوطنيين الديمقراطيين [يقصد الحزب الوطني الديمقراطي]، وبدقة أكبر، من محمد حديد الذي كان له في تلك السنوات نفوذه في الحكومة حتى عندما كان خارجها” (حنا بطاطو، تاريخ العراق، ج1، ص346). وللمزيد للإطلاع على منجزات ثورة 14 تموز 1958، في التنمية الاقتصادية، – الإنتاجية والخدمية-، والتنمية البشرية في عمرها القصير، يرجى فتح الرابطين 2 و3 في الهامش.
ثانياً، مَنْ خطط لهذه المشاريع ولمن الفضل في تنفيذها:
بعد أكثر من نصف قرن على الثورة، وللانتقاص من دور حكومتها، وزعيمها في تحقيق أكبر ما يمكن من منجزات للشعب العراقي من مشاريع وقوانين تقدمية مثل (قانون الأحوال الشخصية رقم 181 لعام 1959) الذي أنصف المرأة، وقانون الإصلاح الزراعي، وقانون إلغاء حكم العشائر، و(قانون رقم 80 لسنة 1961) الذي استرجع بموجبه 99.5% من مساحة العراق من الشركات النفطية، وغيرها كثير… قالوا أن جميع هذه المشاريع والقوانين كان قد خطط لها في العهد الملكي، مثل بناء ميناء أم قصر، ومد الخط العريض بين بغداد والبصرة، وبناء مدينة الثورة، ومدينة الطب، ومعمل الأدوية في سامراء، والزجاج في الرمادي، وتعليب الفواكه في كربلاء، ومضاعفة عدد المدارس والطلبة والمعلمين والمئات غيرها، أقول ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق وحبيسة الأدراج لسنين طويلة في العهد الملكي، إلى أن جاء عبدالكريم قاسم وحولها إلى مشاريع حقيقية قائمة على أرض الواقع، وبتلك الإمكانيات المالية المحدودة في ذلك الوقت العصيب حيث المؤامرات الداخلية والخارجية لوأد الثورة؟ هذه المشاريع ستبقى نصباً تاريخية شامخة على مر السنين تذكر بوطنية وإخلاص الزعيم عبدالكريم قاسم وثورة 14 تموز.
فالعبرة ليست بالتخطيط ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ. فبعد 2003 هناك المئات من المشاريع التي خُطط لها، وحتى دُفِع الكثير من تكاليفها بالعملة الصعبة لجهات أغلبها وهمية، ولكن لم يتم تنفيذها بل سُرقت تلك الأموال الهائلة وبقيت المشاريع بلا تنفيذ. كذلك هناك الألوف من المعامل المعطلة مثل معمل الورق في البصرة وغيره ترفض حكومات ما بعد 2003 إعادة تأهيلها بضغوط من أتباع دول الجوار مثل إيران وتركيا، لإنعاش اقتصاديات هاتين الدولتين، إضافة إلى ما يحصل عليه التجار من أرباح فاحشة، وإبقاء العراق بلداً مستهلكاً يستورد حتى الغاز من إيران ويترك غازه الطبيعي يُحرق في الجو ويدمر البيئة العراقية.
ثالثاً، حل مجلس الإعمار:
هذا المجلس تأسس بناءً على اقتراح المرحوم عبدالكريم الأزري، الوزير المخضرم في العهد الملكي، كما أشار الدكتور علي علاوي، وكما جاء في مذكرات الأزري. وفعلاً قام المجلس ببناء السدود مثل سد سامراء لحماية بغداد من الغرق ولأغراض زراعية أيضاً. وبالمناسبة، هذه السدود وغيرها من المشاريع الإروائية الكبيرة لم تكن من تخطيط مجلس الإعمار، بل كانت من تخطيط الخبير البريطاني المعروف ويليم ويلكوس في أواخر العهد العثماني كما درَّوسنا في مرحلة تعليمنا الابتدائي عن المشاريع المنجزة وغير المنجزة.
أما لماذا تم حل مجلس الإعمار بعد ثورة 14 تموز في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، علينا أن نرجع إلى الشخصية الوطنية الفذة، والخبير الاقتصادي الراحل محمد حديد الذي تبوأ منصب وزارة المالية في حكومة الثورة. وهو بالمناسبة، أول عراقي خريج جامعة لندن للاقتصاد (London School of Economics)، والذي شهد بحقه الباحث حنا بطاطو كما أشرنا أعلاه.
يقول محمد حديد في مذكراته عن أسباب حل مجلس الاعمار ما يلي:
(( حول تخصيص 70% من واردات النفط لوزارة الإعمار و 30% فقط للشؤون الأخرى، المشاريع الاجتماعية والخدمات مثل الصحة والتعليم …الخ: أن حكومة الثورة غيرت المعادلة فجعلتها 50% للإعمار، و50% للميزانية الاعتيادية لسببين: أولاً، إن هذه المشاريع الاجتماعية لا تقل شأناً ومركزاً في الأسبقية عن المشاريع الاقتصادية العمرانية، ذلك أن التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية المعنية بالإنسان، ربما تكون أكثر تحقيقاً لمصلحته من المشاريع العمرانية الاقتصادية، أي أن الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار المادي في المشروعات الاقتصادية مع الاعتراف بأهميتها بالنسبة للتنمية الاقتصادية. والسبب الثاني هو أن الـ 70 في المائة من واردات النفط، التي كانت تخصص للخطة الاقتصادية كانت لا تنفق جميعها بسبب عجز الجهاز الفني والإداري عن تنفيذ الخطة الاقتصادية، وتبقى مبالغ كبيرة منها مجمدة في الميزانية، وتنعكس في أرصدة نقدية إما في حسابات البنك المركزي، وإما الأرصدة الإسترلينية المودعة في بريطانيا وغيرها من الأقطار الأوربية. ولذلك كان من غير المعقول لأن يبقى المجتمع محروماً من الخدمات التي يحتاج إليها، في الوقت الذي تبقى واردات الدولة معطلة في حسابات مجمدة.)) (محمد حديد، مذكراتي، الساقي، ط1، 2006، ص339).
وكما ذكرنا آنفاً أن حكومة الثورة قد حققت منجزات في مختلف المجالات من مشاريع اقتصادية وتنمية بشرية في اربع سنوات ونصف السنة وبدون مجلس الإعمار، حققت ضعف ما حققه العهد الملكي خلال 38 سنة. فإعمار البلاد لا يعتمد على وجود أو عدم وجود مجلس الإعمار، بل بتوافر النزاهة و الاخلاص الوطني، والضمير والشرف لدى القيادات السياسية المتنفذة في الحكومة.
رابعاً، قانون الإصلاح الزراعي وهجرة الفلاحين إلى المدن
وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد، (سكان خلف السدة والشاكرية…الخ)، حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي وقبل الثورة بسنوات. وهنا أود أن أشير إلى أن سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الاقطاعيين، وقانون حكم العشائر الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم للعراق، حيث وزعوا عليهم الأراضي الزراعية الأميرية كرشوة لكسب شيوخ العشائر، وتحويلهم من شيوخ ووجهاء لرعاية أبناء عشائرهم إلى إقطاعيين ظالمين لهم، وحولوا أبناء عشائرهم إلى أقنان وعبيد يباعون مع الأرض، يعانون من الجوع والجهل والمرض. وهذا كان سبب الهجرة، وليس قانون الإصلاح الزراعي. وهذه الظاهرة لم ينفرد بها العراق، بل كانت ومازالت متفشية في معظم بلدان العالم الثالث، خاصة في مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952.
المخاطر التي تهدد مستقبل العراق
1- الاعتماد الكلي على النفط المعرض للزوال بعد عقد أو عقدين من الزمن، وعدم الاعتماد عليه في إنتاج الطاقة والموارد المالية.
2- شح المياه: جميع منابع مياه الرافدين وشط العرب هي في تركيا وإيران، وهاتان الدولتان مستمرتان في بناء السدود وحجز المياه عن العراق وهلاكه عطشاً، ولذلك فبعد عقد أو عقدين ستجف الأنهر العراقية. أما شط العرب، وأنهر البصرة فقد تحولت بعد 2003 إلى مستودعات لمياه الصرف الصحي، التي تسبب في تفشي الأمراض.
3- اتساع التصحر، وهو نتيجة لشح المياه،
4-الانفجار السكاني، كان تعداد نفوس العراق عام 1920 نحو 1.4 مليون نسمة، وبعد مائة سنة قفز العدد إلى 40 مليون، أي حوالي 28 ضعفاً. إذ تفيد الدراسات أن هناك زيادة في السكان بنحو مليون نسمة في السنة في مستواه الحالي. وهذا يعني أن العراق يواجه مشكلة الزيادة في السكان، ونقص في موارد المعيشة وغيرها من الموارد الضرورية لإدامة الحياة.
5- الصراع الطائفي والأثني بين مكونات الشعب العراقي، وتغلب نزعة الولاء للانتماءات الثانوية (الدينية، الطائفية، الأثنية، والمناطقية)، على الولاء الوطني العراقي، بل وضعف الشعور بالانتماء لهذا الوطن، وعدم حرص المواطن على ممتلكات الدولة، بل ويسعى إلى تخريبها عمداً. وهناك معلومات كثيرة في هذا الشأن لا مجال لذكرها.