بدايةً لا بد من الإشارة إلى أنّ ما جاء في “خطاب” شفان برور الأخير (بمناسبة رأس السنة الجديدة) وما قبل الأخير (بمناسبة دعوته كضيف في ندوة “الفن والهوية” التي أقامها “المركز الكردي للدراسات” في مدينة بوخوم الألمانية) ليس بجديد، بل أكاد أجزم أنّ جلّ ما جاء فيه من مواقف و”عقد سياسية” و”إرهاصات نفسية” و”مناكفات” و”حروب كلامية” مقصود بها جمهور محدد، كان مكررّاً بإمتياز، لغايات قد تكون غير مفهومة لدى الجمهور العام، لكنها مفهومة لدى الخاصة من أهل السياسة، خصوصاً وأن برور، وكما هو معروف، دخل الفن من باب السياسة.
برور على العكس من الكثير من الفنانين الكرد الكبار، هو رجل يتقن فنون اللعبة السياسية باحتراف، ويعرف ك”فنان سياسي” حيناً و”سياسي فنان” أحياناً أخرى، “من أين تؤكل كتف كردستان”. من هنا، ومن هذه النافذة تحديداً يمكن تحليل وفهم مواقف شفان برور ك”سياسي كردي” أكثر من كونه “فناناً كردياً”.
برور عندما مدح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل سنوات، ووصفه ب”مهندس السلام”، لم يمدحه ك”فنان” وإنما ك”سياسي”، إلى جانب زعيم كردي كبير مثل مسعود البارزاني، لغايات لا علاقة لها بالفن وجمالياته، وإنما لغايات لها علاقة بالسياسة ونفعياتها. أردوغان أو “مهندس السلام” على حد وصف برور، كان ولا يزال هو الإسلاموي ذاته، الذي دخل السياسة التركية من باب الجامع، على ظهر قصيدته المشهورة: “مآذننا حرابنا، قبابنا خوذاتنا”.
ما جمع بين برور وبارزاني وأردوغان، في حينه، لم يكن فيه من الفن شيء، وإنما “سياسة مدفوعة الثمن”. أردوغان دغدغ مشاعر الكرد وعلى رأسهم بارزاني وبرور، في “مولود سياسي”، تمّ التحضير له سلفاً، ليخرج الكرد منه بدون حمص.
برور يجيد اللعب على التناقضات الفظيعة في العقل السياسي الكردي، وما طلّته الأخيرة على منبر مقرّب من منظومة كردية كبيرة كمنظومة حزب العمال الكردستاني، إلا لعباً سياسياً من هذا القبيل. لدى برور ليست هناك أي مشكلة في أن ينقلب على أردوغان الذي وصفه ذات يوم ب”مهندس السلام”، ويرتمي في الحضن النقيض.
كلاهما في عقله صحيح، لأن المنطق السياسي يقتضي ذلك: لا عدوات دائمة، ولا صداقات دائمة، بل مصالح دائمة”.
برور، إذ يلعب على التناقضات السياسية الكردية، يعرف بالضبط ماذا يقول، كما يعرف بالضبط ماذا يريد.
من حق برور، كفنان سياسي، أو كسياسي فنان أن ينتقد ما يشاء، ولكن مثلما “لا إكراه في الدين”، كذلك “لا إكراه في النقد”.
ما يمارسه برور في نقده للدين والخيمة وأهلهما، فيه من الإكراه، أكثر من النقد.
في “نقده” للإيزيديين ودينهم، على ما أذهب، لم يأتٍ برور بأي جديد، بل هو تحصيل حاصل. المشكل، ههنا، ليس في النقد: نقد الدين (أياً كان هذا الدين)، وإنما في خطاب الوصاية، أو خطاب الإكراه، الذي يمارسه برور على الإيزيديين بنظرة فوقية متعالية.
ما قاله ولا يزال برور في الإيزيديين ودينهم تحت مسمى “النقد”، ليس ب”نقد خارج العادة”، كما قد يتراءى للبعض. الخارج على العادة، ههنا، هو “الإكراه في النقد”، و”الوصاية في النقد” و”التعالي في النقد”. المتابع لمفرادات برور التي يستخدمها في كل “خطبه” الموجهة إلى الجمهور الإيزيدي، سيتكشف دون بذل أي جهد، أن برور يمارس خطاباً فيه من الرهاب السياسي والإجتماعي والنفسي، ومن التعالي والفوقية والوصاية، قلّما تجدها لدى شخصية فنية من وزنه. هو إذ يتوجه إلى الإيزيديين، لا يمارس الكلام وأصوله، وإنما يمارس “خطاب الإكراه”، كخطيب من على “منبر”، ل”يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر”.
يقول نيتشه: “الأفعى التي لا يمكن لها أن تغيّر جلدها يجب أن تموت”. كل الدين بحاجة إلى إصلاح. ولكن كما “أهل مكة أدرى بشعابها”، كذا أهل لالش أدرى بشعابها.
المتابع للشأن الإيزيدي، في العقدين الأخيرين، سيرى بأنّ ما قاله ويقوله برور عن الإيزيديين ودينهم تحت مسمى “النقد”، لا يساوي شيئاً مقابل ما كتبه الإيزيديون أنفسهم، عن دينهم ودنياهم، من نقود، وصلت بعضها إلى حدّ المطالبة العلنية في ندوات وحلقات بحث ومؤتمرات دولية بضرورة الإصلاح الديني، لإتقاذ ما يمكن إنقاذه.
برور كفنان كردي له تاريخه، كما يبدو من خطابه الإكراهي الوصايَوي تجاه الإيزيديين، لا يساهم في صناعة النقد بالفن، وإنما يساهم في صناعة الفوبيا بالسياسة.
برور ينتقد الدين و”الفاشية الدينية”، ليستبدلها بالقومية و”الفاشية القومية”.
هو إذ ينتقد الدين وفاشيته، ينسى أنّ الفاشية الدينية عبر التاريخ كانت السابقة، والفاشية القومية كانت اللاحقة.
مبرر برور في نقد الدين والعشيرة وأهلهما، هو القومية أو الناسيوناليزم، كما يريد التسويق لها.
هذا، في الحالة الكردية على الأقل، حق يّراد به باطل.
مفهوم برور عن “الدولة القومية” أو الناسيوناليزم، هو مفهوم فاشي بإمتياز، قائم على نظرية الإلغاء: إلغاء الآخر المختلف وصهره في بوتقة “الأمة المفترضة”.
الأكراد ليسوا أمة واحدة، ولن يكونوا أمة واحدة، على المدى المنظور في الأقل. دليلي في ذلك هو كردستان العراق.
الرئيس السابق مسعود بارزاني، الذي يتخذ منه شفان برور قائداً فذاً للمشروع القومي الكردي، بعد أكثر من ثلاثة عقود من إقامة كيان كردي شبه مستقل، فشل في توحيد اللغة الكردية، كلغة رسمية لكردستان. دهوك البهدينانية رفضت ولا تزال، اتخاذ الصورانية لغة رسمية لها. الصراع البهديني ـ الصوراني، ليس وليد اليوم، وإنما له تاريخ طويل، وسيبقى مشتعلاً كالنار تحت الرماد، لسبب بسيط، وهو أن زمن “الدولة القومية” على أسس فاشية، كما يريد لها برور أن تكون، قد انتهى. لهذا فشل مسعود بارزاني في أن يكون “بسمارك كردستان”.
الحكم في كردستان، كلّ كردستان، كان ولا يزال لإثنين فقط: الدين والعشيرة وما بينهما من أيديولوجيات شمولية وفاشية.
برور ينتقد الدين والعشيرة ويريد إلغاءهما في كردستان، لكنه ينسى أن “البارزانية” في كردستان العراق، على سبيل المثال، هي دين وعشيرة في دولة، ودولة في دين وعشيرة.
قبل أن يطالب برور الإيزيديين بإلغاء “النظام الطبقي” وفتح باب الزواج بينهم وبين الكرد المسلمين، كان عليه أن يتذكّر لماذا قُتل الصحفي الكردي سردشت عثمان بأمر مباشر من الفوق الكردي البارزاني؟
سردشت عثمان لم يُقتل بسبب موقفه السياسي، وإنما بسبب مقالة كتبها تحت عنوان “انا اعشق بنت مسعود البرزاني”، كتب فيها: “هذا الرجل الذي يظهر من شاشة التلفزيون ويقول انا رئيسك. لكنني اود ان يكون هو (حماي) اي والد زوجتي.، اي انني أريد ان اكون عديلا لنيجيرفان البرزاني. حين اصبح صهرا للبرزاني سيكون شهر عسلنا في باريس، ونزور قصر عمنا لبضعة ايام في امريكا. سانقل بيتي من حيّينا الفقير في مدينة اربيل الى مصيف (سري رش) حيث تحرسني ليلا كلاب امريكا البوليسية وحراس اسرائيليون”. (انتهى الإقتباس).
العشق رسالة إنسانية بكل تأكيد، هذا ما يؤكد عليه برور على الدوام، ويسوّق حججه في إكراه الإيزيديين، على أن يكونوا إيزيديين، كما يريد هو لهم أن يكونوا.
قبل أن يطالب برور الإيزيديين بفتح باب “العشق” بينهم وبين المسلمين، كان عليه أن يطالب بارزاني، كقدوة كردستانية، ومثل قومي أعلى للأكراد، بحق الصحفي سردشت في أن يعشق ابنته، ولو على امتداد مقالة لم تتجاوز صفحتين.
مشكلة برور، هو أنه لا يكيل الكيل بمكيالين فحسب، وإنما بألف مكيال.
من حق برور أن يركب السياسة كما يشاء، ويستفيد من هذا الطرف الكردي أو ذاك أنى وكيفما شاء. له كامل الحرية في ذلك، ولكن بشرط ألا يسلب الآخرين حريتهم.
قبل أن يستشهد برور بالبارون الفرنسي شارل موتسكيو، كان عليه أن يسأل نفسه لماذا قال الأخير: “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”.
الخريّة لا تعني أن تجبر الآخرين على اعتناق ما لا يريودن.
الحرّية لا تعني أن تجبر الآخرين على أن يكونوا أو ينتموا إلى ما لا يريدون.
الحرية، هي أولاً وأخيراً، اختيار وليس إجبار.
الحرية، هي أن تحب ما تشاء، وتترك الآخرين يجبون ما يشاؤون.
الحرية ليست واحدة، تسير في اتجاه واحد، كما يريدها برور أن تكون، وإنما كثيرة.
بكل تأكيد، الإيزيديون ودينهم في كردستان ليسوا بخير، والدليل هو الرهاب الذي يمارسه شخصية كبيرة من وزن شفان برور، بحق شعب، تعرّض لأبشع جينوسايد في هذا القرن.
برور لم يترك فاجعة كردية كبيرة أو صغيرة، إلا وجعلها محوراً أو موضوعاً لفنه، سواء بأغنية أو بمقطوعة موسيقية، أو ما شابه ذلك.
هو غنى لكل شيء وفي كل شيء، إلا عن الإيزيديين وجينوسايدهم. غنى “كريفي” لأجل توحيد الكرد وكردستان، كما يقول!
لكنه سكت عن أكبر جينوسايد تعرّض له الإيزيديون كشعب على وجه البسيطة في هذا القرن!
رهاب الخطاب القومجي الكردي القائم على أسس فاشية، والذي يُراد به الغاء دين الله ب”دين الزعيم”، وعبادة الله بعبادة الزعيم، هو السبب الأساس وراء هروب الإيزيديين من هويتهم الأصيلة، للبحث عن هوية بديلة.
بدون أدنى شك، حرية التعبير حرية مقدسة.
لكن الحريات الفردية والإجتماعية كلّ متكامل، لا يمكن تجزئتها.
لنفترض جدلاً، أن برور مارس حقه في “حرية التعبير” عن رأيه من على منبر مقرّب من منظومة العمال الكردستاني. والسؤال، ههنا هو: هل كان بإمكان برور، أو غيره أن يمارس الحق ذاته، أو نصفه، والحرية ذاتها أو نصفها، والفرصة ذاتها أو نصفها، في نقد الزعيم الكردي عبدالله أوجلان ولو بكلمة واحدة؟
بالتأكيد لا.
قبل أن يطالب برور الإيزيديين بالشطب على “شيخادي” داخل منظومتهم الدينية، كان عليه أن يطالب الأحزاب الكردية بالشطب على صور الزعيم داخل منظوماتهم الحزبية.
كلنا يطالب ويدعو إلى الإصلاح في الدين، كلّ الدين، ليبقى ديناً للإنسان، ومن الإنسان إلى الإنسان، ولكن قبل مطالبة برور الإيزيديين بإصلاح دينهم، كان عليه، أن يطالب بارزاني وأوجلان وطالباني وسائر عرابي المشروع القومي الكردي، بإصلاح أحزابهم، عبر إصلاح “القومية الكردية”، والعقل السياسي الكردي، و”الديمقراطية الكردية”، وقبل هذا وذاك إصلاح الحرية من على منابرهم، التي لا صوت فيها يعلو فوق صوت الزعيم، ولا شجر فيها يعلو فوق شجر الزعيم.
كان من الممكن اعتبار كلام برور في الغقيدة الإيزيدية “وجهة نظر”، لو كان بالفعل كلاماً في الحرية، وحق الإنسان في أن يكون حرّاً.
بنقده للآيديولوجيا الدينية، يريد برور ك”داعية قومي” التأسيس لآيديولوجيا قومجية أكثر فاشية.
الحروب الدينية حروب قذرة، لكن في المقابل الحروب القومية ليست مستثناة من هذه القذارة.
الدين قذر، فيما لو استغل. والقومية أقذر فيما لو استغلت أيضاً. وتاريح البشرية يشهد على هذه القذارات.
حروب “الإخوة الكردية”، على مرّ التاريخ الكردي الحديث، لم تكن حروباً دينية لأجل الله، بل كانت ولا تزال حروباً حزبية أيديولوجية، لأجل الزعيم.
لا حرية في منطق إلغاء الدين بالدين، أو العقيدة بالعقيدة، أو الدوجما بالدوجما، أو الآيديولوجيا بالآيديولوجيا، كما يحاول برور التسويق لمشروعه جاهداً.
إلغاء الدين بدعوى القومية، أو إلغاء الفاشية الدينية بالفاشية القومية، هي على ما أذهب فاشية مزدوجة.
الدين، كل الدين، وأياً كان هذا الدين، خيار شخصي، “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
شخصياً، كنت ولا أزال أقرأ نيتشه بنهم، وابحث في ما قاله ذات عبقريةٍ: “مات الله، ونحن اللذين قتلناه”.
الله، على مستوى الإنسان الكوني، لا يمكن فهمه وفق ثنائية “الإيمان ـ الكفر”.
على مستوى الحرية، كحق كوني، لا وجود لشيء إسمه مؤمن أو كافر، وإنما هناك إنسان فقط.
أخيراً، بقي أن أشير إلى أنّ الفيزياء علّمتنا المبدأ القائل بأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الإتجاه.
صحيح أن ردة الفعل الإيزيدية كانت نتيجة فعل قام به برور نفسه، لكن من المهم الإشارة، ههنا، إلى أن شخصنة القضية ودفعها بإتجاه “القدح والقدح المضاد”، أو “الإهانة والإهانة المضادة”، أو “التعصب والتعصب المضاد”، لن يزيد الطين إلا بلةً.
برور أخطأ في “نقده” كثيراً، ولا يزال يلقي على الجمهور الإيزيدي خطبه الطافحة بالكلام العشوائي والأحكام العمومية، لكن الخطأ لا يمكن معالجته بالخطأ.
لنذهب مع برور بأن هناك في كردستان مشكلة إسمها “المشكلة الإيزيدية” التي تقف كحجر عثرة أمام المشروع القومي الكردي، وهذا رأي كردي “مفرد بصيغة الجمع” (بعد العذر من الشاعر السوري الكبير أدونيس طبعاً).
الرجل يرى بأن المشكلة تهمه جداً وتهم مشروعه القومي، الذي سخّر له فنه طيلة حوالي نصف قرن، كما يقول.
من هنا أدعوه إلى مناظرة تلفزيونية مباشرة، للحديث عن هذه “المشكلة الإيزيدية” على أي منبر تلفزيوني حرّ، لدفعها نحو المزيد من الحل لا نحو المزيد من الإشكال، ونحو المزيد من الحوار والرأي والرأي الآخر، لا نحو المزيد من الحوار والرأي الواحد.