الأب البير أبونا غني عن التعريف، بصماته الفكرية والثقافية وطروحاته الروحية الكنسية واضحة للعيان، كان لها دورها التوثيقي المكتباتي في عالم المعرفة الفكرية والأدبية والثقافية، في الجوانب الدينية الروحية والأدبية الثقافية على مستولى العراق، بكل دقة وموضوعية بعيداً عن المجاملة في الطرح، كما وتخللت كتاباته من الوجهة التاريخية دورها المؤثر والمميز في عالم المعرفة العلمية والأدبية. حيث رفد المكتبة العراقية وعلى مستوى العالم أجمع، بأبداعاته حتى في آخر أيامه وهو طريح الفراش، يؤلف ويترجم الكتب من لغات عديدة الى العربية وبالعكس، لأكثر من 150 كتاب أغنت المكتبة المحلية والعالمية بمؤلفاته الورقية القيّمة، وكما بأمكان أي شخص الحصول عليها عبر المنظومة الألكترونية بتحميل كتبه للأستفادة من مؤلفاته.
ولد المرحوم العلامة البير أبونا بقرية فيشخابور 1928 التابعة لمدينة زاخو، في أقصى شمال العِراق، دخل مدرسة القرية الابتدائية الحكومية بقوام معلم واحد، تعلم المرحوم الأب البير فيها حتى الصف الرابع. والعادة الجارية هناك من ينهي هذا المستوى من الدِّراسة يترك المدرسة ويعمل مع الأهل في الزراعة. لكن والده برغم فقره، تمنى لولده الاستمرار في التعليم، فأخذه إلى مدينة زاخو، لكنه لم يتأقلم مع أجوائها، فعاد إلى القرية، وقرر الانخراط في السلك الديني والدراسة الدينية، بحُكم تأثيرات تجاوربيتهم للكنيسة.
بدرت لديه فكرة الكهنوت مبكراً، لكن والده لم يوافق على طلبه كونه الوحيد ذكراً له أخت واحدة، لكنه أصرعلى الدراسة الدينية بالموصل معهد مار يوحنا الحبيب نهاية العام 1941، درس فيه عشرة أعوام.
درس اللغات المتعددة الكلدانية كتابة وقراءة، أضافة للعربية والفرنسية واليونانية في العام الأول، وأربعة أعوام أخرى دريس الكهنوت واللاهوت باللغة الفرنسية تحديداً مع الحفاظ على تعلم اللغات الأخرى التي ذكرناها أعلاه، كما درس علموم الكيمياء والفيزياء باللغة الفرنسية، ودرس في المعهد الدومنيكاني علوم اللاهوت الأدبي والفلسفي والتاريخي بشكل دقيق وواضح.
عام 1951 رسام كاهناً في أبرشية زاخو يرأسها مطران، عين الأب البير خادماً لرعيته بمنطقة سليفاني كاهناً مسؤولاً عن عدة قرى، متنقلاً فيها بحصان يسهل التنقل بين القرى التي يرعاها روحياً.
القرى كانت صغيرة العدد من حيث العوائل، فلم تكن الكنائس مبنية في كل القرى الخمسة التي كانت تحت أدارته الروحية، بأستثناء أحدى القرى من الخمسة حيث كنيسة واحدة صغيرة، من الصعوبة جمع البقية فيها من جهة وتباعدهم عن بعضهم من جهة ثانية، حيث كان يقيم في بيت المختار لتفرغ له غرفة لأقامة الشعائر الروحية والألتقاء مع المؤمنين دام عمله الروحي أربعة أعوام فيها.
في العام 1955وردته رسالة من رئيس المعهد الذي تَعلم فيه بالموصل، بالأنتقال اليه للإقامة والتدريس، بسبب وفاة الخوري الذي درسه في المعهد، بعد ترتيب الأمر مع مطرانه في زاخو.
أستمرالأب البير أبونا يُدرّس في المعهد الكنسي لمدة 18 عاماً اللغات المتعددة ومنها الفرنسية 1955-1973. أضافة الى كتابة تاريخ الكنيسة الشَّرقية. كان يجمع بين التدريس والرهبنة بالنُّزول إلى القرى التي كان مسؤولاً عنها، استغل أيام العطل بقضاء حاجاتهم الدينية، وظل على هذا الحال حتى 1973. الباطريرك الحالي لويس ساكو هو ضمن تلاميذه الذين درسهم.
دَرّسَ في جامعة بغداد الآرامية ثلاثة أعوام ويُدرس الفرنسية في جامعة الموصل، بعدها سافر إلى فرنسا وانتمى هناك إلى الرهبنة الكرملية المعروفة، ولما عاد إلى بغداد عمل مع الكرمليين ببغداد، وكان عندهم مركز “أذراع فاطمة”، والاسم مأخوذ من مكان بالبرتغال اسمه فاطمة، وفيه ظهورات العذراء، وبقى مع الكرمليين 18 عاماً، عمل في الخدمة الكهنوتية، ويدرس في الجامعة في نفس الوقت، بعدها تركهم منتمياً إلى دير الرهبنة الكلدانية في بغداد.
نتيجة الصراعات الطائفية في العراق، ليستمر قتل الأنسان العراقي بدم بارد، دون وازع ديني ولا ضميري، بل عنف متواصل بالضد من الأنسان والأنسانية وروحها الخلاقة، أنتقل الى أبرشية أربيل يكمل مسيرته الأيمانية والفكرية والثقافية فيها حتى وافاه الأجل المحتوم في 8 كانون الأول عام 2021، بعد أن عاني من أمراض الشيخوخة التي رافقته أسوة بعامة الناس، وهو يواصل أدائه الفكري والعلمي والثقافي والأدبي والروحاني، تذكره الأجيال الحالية واللاحقة، نتيجة بصمته الواضحة في مسيرته الشاقة عبر الزمن الغابر الدامي والدامع، لعموم الناس في العراق القديم والحديث، في العهد الملكي البريطاني، وفيما بعد العهود الجمهورية المتلاحقة والمتعددة وما رادفها من عنف متواصل بأراقة الدماء الزكية وحروب متواصلة داخلية وخارجية متعددة، وحتى الأحتلال الأنكلوأميركي للعراق في نيسان 2003، ليتواصل العنف ويستمر حتى كتابة هذه الذاكرة، وخاصة ظهور داعش وتواجد ماعش في السلطة على مستوى العراق عامة.
حكمتنا: (التاريخ له متطلباته وحيثياته الخادمة للأنسان، أينما تواجد في المنطقة والكون).
منصور عجمايا
10\12\2021