لم يكن أكثر المتفائلين الكرد، على الصعيد الكردستاني، يتوقع أن يشهد العقدان الأولان من القرن الحادي والعشرين كيانات كردية، أحدهما معترف به بشكل رسمي “إقليم كردستان العراق”، والثاني ينتظر الاعتراف “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا”. وقد حظي الكيانان بدعم القوى العالمية والتحالف الدولي، تحت شعارات متعددة، أهمها الديمقراطية، وحماية الأقليات، وسواها.
وتشير المعطيات الحالية، بأن كلا الكيانين -وضمن ظروف إقليمية ودولية مستعصية- استطاعا أن يؤسسا لهيكلية إدارية وسياسية وعسكرية، جعلت من الكرد رقماً هاماً ضمن المعادلات الإقليمية، وشركاء لقوى دولية كبرى، في سياساتها واستراتيجياتها داخل منطقة الشرق الأوسط، تمثّلت تلك الشراكة في محاربة تنظيم “داعش”، وإحداث بعض التوازنات الجيوسياسية في المنطقة للعديد من الأطراف الدولية.
تنامي العامل الذاتي الكردي
بالنظر إلى تطورات الأحداث على الساحة الكردستانية، خلال العشر سنوات الماضية على أقل تقدير، يمكن ببساطة ملاحظة التراكيب السياسية الكردية الجديدة، وبالرغم من خلافاتها فهي باتت تتمتع بتكوينات سياسية وكيانات إدارية قادرة على تنظيم الصف الكردي، وخلق حالة من الثورية داخل المجتمع الكردي، على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية، وتغيير الواقعين السياسي والاجتماعي للمجتمع الكردي، الذي يعاني من بنى تقليدية غير مواكبة للتطورات السياسية العالمية والإقليمية، وقلبها نحو مجاراة تلك الوقائع والتطورات، وإمكانية الاستفادة منها لمصلحة الشعب الكردي.
الإضافة الهامة هنا، تتلخص في أن الكرد اليوم يملكون من المقومات السياسية والاستراتيجية ما يؤهلهم للعب على الخطوط السياسية في منطقة الشرق الأوسط، والظفر بشكل ما بكيان كردي، خاصة بعد أن حَظَوا بدعم مباشر من الدول الكبرى، في سبيل ترسيخ أسس الهيكلية الإدارية القائمة في سوريا، والفدرالية القائمة في العراق، وهي مؤشرات -في المنظور السياسي- قد تقود إلى خطوات تاريخية من قبل المجتمع الدولي تجاه الشعب الكردي وقضاياه، والتي لها أساس قانوني تاريخي وفق معاهدة سيفر، التي أقرت بالحقوق السياسية والقومية للشعب الكردي، قبل أن تتراجع دول الحلفاء عنها لاحقاً في اتفاقية لوزران وفقاً لمصالحهم. وتتلخص هذه المقومات في:
- يملك الكرد اليوم قوة عسكرية يتجاوز قوامها مئات الآلاف من المقاتلين ذوي البأس والشدة، والذين أثبتوا أمام العالم أجمع مدى قدرتهم وتمتعهم بإرادة صلبة في مواجهة أعدائهم، عندما واجهوا أعتى إرهابيي العصر، وهم مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية، سواءً في سوريا أو في العراق، وخلال معاركهم تلك، تمرسوا على أساليب القتال الحديث ونوعيته، فاكتسبوا خبرة عسكرية لن يستهان بها مستقبلاً.
- وحيث يشكل المورد البشري أهمية قصوى في أي مشروع سياسي كردي، فإنه يمكن الإشارة إلى أنه لم يغب الكرد عن الساحة العلمية العالمية يوماً، وتشهد المرحلة الحالية بروز العديد من العلماء الكرد، على مختلف الأصعدة العلمية وقطاعاتها الرئيسية، إضافة إلى توفر المؤهلات الإدارية، وأصحاب الكفاءات العلمية، والخبرات العملية، لقيادة المرحلة التاريخية الحالية، والانطلاق بالمشروع الكردي على أسس قويمة ودعائم علمية تُجاري معطيات العصر، وتستوعب السياسات والاستراتيجيات الدولية والإقليمية، التي تطال المنطقة برمتها، وموقعهم داخل تلك الاستراتيجيات.
- من ناحية أخرى، وكما لم يحدث في التاريخ القريب، يملك الكرد اليوم الجغرافيا، وهي مناطق غنية بالثروات الباطنية، وخاصة النفط، إضافة إلى العديد من الموارد الاقتصادية الأخرى، كالمساحات الواسعة من الأراضي الزراعية، والمناطق السياحية، فضلاً عن موقعها الجيواستراتيجي، بتوسطها حدود دولتي إيران وتركيا والدول العربية، والذي يشكل بالنسبة للقوى الدولية أهمية لا يستهان بها، يمكن أن يشكل في المستقبل ضرورة جيواستراتيجية لتلك القوى.
- النقطة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها، هي أن الكرد والقضية الكردية بشكل عام، باتت حديثاً يتم تناوله على طاولات كبار الساسة في العالم، وفي المحافل الدولية؛ ويتم استقبال الوفود الرسمية الكردية في العديد من مراكز القرار العالمية، ومن قبل قادة الدول والشخصيات الدبلوماسية الرفيعة. وهذه مؤشرات حقيقية، تنم عن رغبة الدول ذات التأثير في السياسة العالمية في مساندة الكرد، لتشكيل نوع من الكيانات السياسية المعترفة به دولياً.
كل هذه المقومات المتكاملة والمتوفرة اليوم، لم يشهد التاريخ الكردي أن اجتمعت معاً بيد الكرد في مرحلة واحدة، وهي تشكل أدوات متينة لإقامة كيان كردي، إن تم استغلالها بالشكل المطلوب من قبل القوى الكردستانية، وتسخيرها في خدمة شعبهم والشعوب الأخرى التي تعيش معهم، بعيداً عن المناحرات الحزبية، والذهنيات الضيقة، والمصالح الشخصية، أو الكمبرادورية.
تنامي العامل الموضوعي والتوازنات الدولية لصالح الكرد
تشير المعطيات السياسية الدولية في منطقة الشرق الأوسط إلى فرصة تاريخية، يمكن للشعب الكردي -إن أحسن استغلالها-أن يحقق مكاسب سياسية، لطالما كان يتطلع لتحقيقها، فالأنظمة الغاصبة لكردستان تعايش أوضاعاً يمكن القول عنها بأنها دراماتيكية صعبة في علاقاتها، سواءً في الداخل المجتمعي، أو مع الخارج الدولي.
أنتجت التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، سواءً الثورات العربية، أو تطورات الملف النووي الإيراني، أو آليات وأدوات السياسة التركية الجديدة، وما تركته تلك الأحداث من نتائج على الواقعين الجيوسياسي الإقليمي والاستراتيجي المرتبط بالقوى الدولية، التي حضرت إلى المنطقة في إثر تلك التطورات بثقلها العسكري والسياسي، أنتجت هياكل سياسية جديدة، وتحالفات لم تكن قائمة قبل الآن، أصبح الكرد بداخلها عاملاً تعوُّل عليه تلك القوى في خلق آليات متوافقة ورؤاها، أو سياساتها داخل الدول التي يتواجد فيها الكرد، وحتى عاملاً يمكن من خلاله أن تُحدث الدول الكبرى بعض التوازنات مع الدول الإقليمية، وحتى التأثير على سياساتها تجاه القضايا الساخنة في المنطقة، وجعل التطورات الحاصلة امتداداً للمصالح الاستراتيجية لتلك الدول.
وبقراءة الواقع السياسي، والمقومات الحقيقية للأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، وطبيعة تطور علاقاتها مع القوى الكبرى، في إطار السياسات الاستراتيجية والأحداث المتسارعة، يمكن القول أن الحالة الكردية باتت قريبة أكثر من أي وقت مضى، من إنشاء خطوط التواصل مع القوى الدولية، وإظهار قدرة التكوينات الكردية على أن تشكل نمطاً سياسياً وديمقراطياً جديداً في المنطقة. في ظل تراجع دور الأنظمة القائمة، أو تصادم سياساتها ومصالحها مع سياسات ومصالح الدول الكبرى في المنطقة، والتي يمكن تجسيدها كما يلي:
-الأنظمة، سواءً في العراق أو سوريا، تعيش حالة من التهالك المستمر، واستنفاد معظم مقوماتها السلطوية والدولتية، وتقاوم من أجل البقاء، لذلك لم يعد -ووفقاً للتطورات الحالية ووجود القوى والدول الكبرى على الأرض -من الممكن أن تأتي بتصرف عسكري على المناطق الكردية قد ينهي وجود الكيانين القائمين.
-أما تركيا العثمانية، فباتت الكثير من التصادمات والمتنافرات عنواناً رئيسياً لطبيعة علاقاتها مع الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية، على الرغم من أنها عضو في حلف الناتو، فقد شهدت السنوات الماضية أشكالاً مختلفة من ذلك التصادم، لاسيما بينها وبين الولايات المتحدة، من صفقة صواريخ S400، والمشاريع الاقتصادية الاستراتيجية في قطاع الطاقة، ونقلها بين تركيا وروسيا، إلى العقوبات الاقتصادية، وليس انتهاءً بالتهديدات المباشرة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لأردوغان. مما يعكس حالة من التشظي غير الرسمي في العلاقات الغربية التركية، لن يمكن إصلاحها في المنظور القريب، وضمن الرؤى والاستراتيجيات التي تضعها الحكومة التركية، والامتدادات السياسية لها في المنطقة، وغير المتوافقة مع المصالح والاستراتيجيات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
-لن يلقى المراقب أو المتتبع للأوضاع السياسية في الشرق الأوسط عناءً كبيراً في الكشف بوضوح عن طبيعة العلاقة المزرية بين النظام الإيراني والولايات المتحدة الأمريكية، وعقدة الملف النووي، ومعارضة الأخيرة بشكل قطعي لطموحات إيران النووية، الأمر الذي يلقي بظلال سوداء حالكة على طبيعة العلاقة بين الطرفين، وإفرازاتها السلبية على المنطقة برمتها، في ظل استحداث النظام الإيراني لأدوات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية في المنطقة، بهدف دعم مواقفها وسياساتها وطموحاتها النووية.
إذاً، لعل الظروف السياسية القائمة في المنطقة -وضمن ما ذكر أعلاه- قد يوفر فرصة حقيقية لتبوأ الكرد مكانة سياسية في المنطقة، قد تفضي للاعتراف بكيان كردي على الصعيد الأممي.
خلافات حزبية تنتج مكابح ذاتية
بالنظر إلى الواقعين السياسي والاستراتيجي على الصعيد الكردستاني، يمكن القول: إن سيكولوجية الفكر القيادي، وآليات التحول إلى دولة، لم تُخلق بعدُ لدى الكرد؛ فما تزال العلاقات البينية، والتعاون الاستراتيجي والسياسي وحتى الدبلوماسي بين الأطراف الكردية في حدودها الدنيا، ومحكومة بالأجندات الحزبية، وبسياسات متفردة، بعيدة عن تطلعات وآمال الشعب الكردي، تسيرها الإيديولوجية الحزبية، وتزيد في تعميق نتائج الخلافات على الأرض، بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، بقولنا إنها تنتج تراكيب سياسية تساهم في حالة الكبح الذاتي للتطلعات المعلنة للأطراف الكردية، ولأحلام الشعب الكردي ذاته. بسبب سيطرة الذهنية الحزبية، والأفق الاستراتيجي الضيق، وغياب مرجعية كردية مشتركة، تؤمن بها وتدعمها مختلف الأطراف الكردية.
أنتجت هذه الحالة واقعاً مجتمعياً، يختصر التطلعات الكردستانية للشعب الكردي بتطلعات وأجندات حزبية، تربط العديد من الفئات الفاعلة داخل المجتمع الكردي، سواءً على الصعيد السياسي، أو الأصعدة الثقافية والاقتصادية بالحالة الحزبية، وتخلق نوع من الأدوات التي تجذب هذه الفئات إلى بوتقة العمل، من أجل تمتين سلطة الأحزاب السياسية، وتحقيق أهدافها، بدلاً من الأهداف الوطنية أو القومية، التي كانت تشكل الدافع الأساسي لانخراط الشباب الكردي الفاعل والمثقف وأصحاب الشهادات والكفاءات في صفوف تلك الأحزاب، بشكل تكوّنت معه آليات قادرة على تسخير تلك القوى، سواءً البشرية أو المقومات الاقتصادية، أو حتى العلاقات الدبلوماسية للأحزاب، التي نشأت على أعقاب التوازنات الجيوسياسية والدولية الجديدة في المنطقة، لخدمة النجاحات الحزبية والمصالح الداخلية دون القومية.
وبناءً على ذلك، لا تكلُّ الأطراف الكردية ولا تملُّ عن كيل الاتهامات لبعضهم، والعمل الدؤوب -إعلامياً وسياسياً-لإثبات خطأ الطرف الآخر، بل وأحياناً المناداة بضرورة إنهائه وإلغائه. الأمر الذي قد يخلق حالة من الاستفراد بالقرار الكردستاني، وهي حالة لن يحبذها غالبية المجتمع الكردي، ضمن أية شروط تاريخية، أو ظروف سياسية.
وتعكس الأحداث التي تجري بين الحين والآخر بين الأطراف الرئيسية للسياسة الكردية، المرآة الحقيقية للواقع السياسي الكردي، وللعلاقات بينهما، وسيطرة الذهنية الحزبية، والتركيز على الآليات والأدوات التي من خلالها يمكن لكل منها التهجم على الآخر، ومحاولة إضعافه وإظهار فشله أمام الرأي العام الكردستاني عموماً.
الكرد أمام امتحان تاريخي
لم تتكلّل حتى الآن، السنوات الطويلة التي قضاها الكرد في النضال من أجل إحقاق حقوقهم القومية، بأية انتصارات سياسية، كانت من الممكن أن تقودهم نحو أهدافهم الرئيسية، في تكوين دولة كردية، على غرار الدول العربية والدولة التركية والإيرانية في المنطقة، على اعتبارهم يشكلون واحداً من أهم وأكثر أربع قوميات في المنطقة. ويمكن إرجاع مثل هذا الأمر إلى العديد من الأسباب التاريخية، أو التوازنات الدولية، أو سياسات القوى العظمى في المنطقة، أو حتى إلى التكوينات الذاتية، والتراكيب البنيوية للبيئتين الاجتماعية والسياسية للمجتمع الكردي.
وإن أغفلنا مدى بعد النظرة الاستراتيجية للساسة الكرد، وتعاملهم مع الوقائع والأحداث التي جرت في المنطقة خلال المراحل التاريخية السابقة، والتي شكّلت واحدة من أهم العوامل التي ساهمت في غياب الكرد عن الساحة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، إلا على شكل أحزاب أو مجموعات سياسية، لم تستطع أن تجاري التكوينات والكيانات السياسية للأقوام الأخرى القائمة في المنطقة، بل غالباً ما كانت تعمل في إطار من التبعية السياسية أو الاستراتيجية لها. إلا أن المرحلة الحالية تشهد قدرتهم على تشكيل الأسس اللازمة سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً لبناء قوة كردية في المنطقة، واستخدام الأدوات الممكنة لبناء تحالفات، تتوافق والحالة الجيوسياسية القائمة في المنطقة اليوم.
يختلف الواقع السياسي الكردي اليوم عما سلف ذكره، فقد بات الكرد مدركين لحقيقة وطبيعة السياسات والمصالح المتجسدة في المنطقة، واستطاعوا ضمن الظروف الحالية أن ينتزعوا لأنفسهم صورة، يمكن القول عنها بأنها شبه مستقلة عن الأنظمة القائمة في المنطقة، واضعين نصب أعينهم مصالحهم وأهدافهم في تأسيس كيان كردي، قد يقلب موازين القوى والتحالفات، وأدوات النظام العالمي في المنطقة. ولكن ما يعتري هذا الواقع الجديد هو التركيز على الأنا الحزبية، ومحاولة إظهار هذه النجاحات الاستراتيجية على الصعيد الوطني الكردي، على أنها نجاحات حزبية.
وهنا يمكن القول: إن البعد الاستراتيجي هو المطلوب اليوم داخل أروقة ومجالس الساسة الكرد، وطريقة تفكيرهم وقراءتهم للمستقبل، إن أرادوا خيراً لشعبهم وأبنائه، فالتفكير بالمكاسب الحزبية والاختلافات الإيديولوجية لن يكون إلا وسيلة لمكتسبات مرحلية، لن يجد أصحابها في المستقبل القريب من يدعم رؤاهم أو هيكلياتهم القائمة الآن، بمجرد اختلاط العلاقات الدولية، أو تغيرها، أو تغير المصالح الدولية القائمة في المنطقة الآن.
وحدة المشروعين الكرديين في بنية واحدة
تتطلب المرحلة الحالية -على الصعيد الكردستاني-الإسراع بتنفيذ الاستراتيجيات الكردية، التي يجب أن تتوافق مع مصالح القوى الكبرى، أو أن تكون امتداداً لها، حتى لا تقف عائقاً أمام تنفيذها. فبعد كل المقومات الذاتية التي بات يملكها الكرد، وأمام العديد من الشروط الموضوعية التي يمكن أن تؤلف لحقبة تاريخية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، قد يحضر فيها الكرد -سياسياً- بقوة غير مسبوقة، فإن المطلوب من الكرد وطلائعهم السياسية أن يكونوا على قدر المسؤولية التاريخية، وأن يتركوا خلافاتهم الحزبية، ويرتقوا لمستوى الحس القومي وواقعيته التاريخية، حتى لا يفوّتوا فرصة قد لا تتكرر في المستقبل القريب.
وبناء عليه، فإن واحداً من أهم السناريوهات المقترحة، ينطلق من الضرورات التاريخية لتقرير الشعب الكردي لمصيره، بناءً على وفاق واضح المعالم، تتحد فيه البنية التركيبية للمجتمع الديمقراطي كحقيقة، مع حقيقة الدولة القومية للتحالف البرجوازي الكردي، والذي يمكن أن ينم عنها، ولأول مرة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، قيام دولة قومية تسودها مقومات المجتمع الديمقراطي، وهاتان الحقيقتان ستؤديان دورهما معاً داخل الاتحاد المذكور، والقائم على نظام ثنائي متوافق بين حقيقة المجتمع الديمقراطي ورؤاه المجتمعية، وبين الدولة القومية الكردية، التي سيشكل إقليم كردستان العراق نواتها الحقيقية التي تتخذ من الحداثة الرأسمالية أساساً لها
إذاً، يمكن بناء هذا النموذج الدولتي، بالاتفاق بين منظومة المجتمع الديمقراطي وبين حكومة إقليم كردستان، بحيث تشكل أربيل مركزاً له، في حين يمكن أن تشكل الإدارة الذاتية في سوريا حالة كيان سياسي وإداري مرتبط بالمركز ذاته، على أن يتم الاتفاق رسمياً على شكل هذا الارتباط سياسياً وإدارياً، بغية عدم الوقوع في فخ تكرار الأخطاء التاريخية الماضية، وعدم الانجرار إلى السياسات الدولتية القومية ذات الحدود الصارمة.
تكوين مشروع كردي موحد وبأهداف واضحة
الكرد على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخهم، تتوجب أن يكونوا فيها واضحين في مطالبهم ومساعيهم، وأن يرصّوا لها صفوفهم، فالظروف الدولية والإقليمية مواتية اليوم أكثر من أي فترة مضت، والعامل الذاتي في ظل توفر معظم المقومات السياسية والاقتصادية لا ينقصه سوى العقول المدبرة ذات التفكير الاستراتيجي، والقادرة على إحداث التكامل، لتوصيل الأضلاع الرئيسية للقضية الكردية، وتحويلها إلى واقع يحظى بقبول المجتمع الدولي، وإجماع قواه الكبرى.
وهنا، يمكن القول بضرورة تكوين خلايا، أو وحدات استراتيجية على الصعيد الكردستاني، لوضع الخطط والأهداف المرحلية اللازمة لتحقيق تطلعات الشعب الكردي وبشكل واضح. على أن تعمل تلك الخلايا على البحث في السياسات والآليات التي يمكن من خلالها الوصول إلى تلك الأهداف.
تتمثل المهمة الأساسية لهذه الخلايا أو الوحدات البنيوية وفق المنظور المقترح في التأسيس لبنية مشروع كردي موحد ضمن السيناريو المطروح أعلاه، لا يعترف بالحدود المصطنعة، ولا يميز بين أبناء الشعب الكردي في الدول المختلفة التي يعيش فيها، ويرتقي بالمصلحة العليا للشعب فوق جميع الاعتبارات السياسية الأخرى، بعيداً عن الخلافات الحزبية القائمة بين كبرى الأحزاب الكردية، مع التأكيد على أن تتشكل تلك الخلايا أو الوحدات على مختلف الصعد، خلية قانونية، وخلية اقتصادية، وخلية سياسية، وخلية اجتماعية، وخلية دبلوماسية، تعمل كل منها على وضع المقومات والأسس القويمة والحقيقية القائمة، التي تؤسس لتلك البنية القوية، لنزع الاعتراف بحقوق الشعب الكردي، الجغرافية، والتاريخية، والسياسية، على أن تنسق تلك الوحدات أو الخلايا فيما بينها تنسيقاً عالي المستوى، للوصول إلى مخرجات سياسية واقعية تكوّن لمشروع سياسي كردي، يستطيع الكرد من خلاله طرق أكبر أبواب المحافل الدولية، ووضعه على طاولات ساستهم، لانتزاع الاعتراف بالشعب الكردي، وبحقوقه القومية، وصولاً إلى كيان معترف به رسمياً ودولياً.
مركز الفرات للدراسات