مقدمة
قبل 15عاماً، وتحديداً يوم 19/5/2007، نشرت مقالاً بعنوان: (توني بلير سيخلده التاريخ بمداد من ذهب). ورأيت من المفيد أن أعيد نشره اليوم بعد إضافات قليلة لتحديثه بمناسبة تكريم السيد بلير من قبل الملكة إليزابيث الثانية بوسام الفروسية، وما أثار هذا التكريم من احتجاجات ظالمة ضده من قبل بعض المتياسرين والمتباكين على سقوط نظام البعث الدموي.
والجدير بالذكر أن في بريطانيا تقليد متعارف عليه أن تقوم الملكة إليزابيث الثانية بتكريم المتميزين والمبدعين بوسام الفروسية (Knighthood) وغيرها مرتين في السنة، الأولى عند حلول العام الجديد، والثانية في عيد ميلادها يوم 12 حزيران. ولكن من دون غيره، ولأول مرة، تقوم ضجة مفتعلة من قبل تحالف غير مقدس يضم مجموعات سياسية متطرفة منبوذة وغير متجانسة أصلاً، لم يجمعها أي جامع سوى العداء والحقد على توني بلير لسبب واحد، ألا وهو مساهمته الفعالة مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (الابن)، في إسقاط أبشع نظام دكتاتوري فاشي حكم العراق. ويقال أن عدد الموقعين على عريضة الاحتجاج بلغ نحو مليون توقيع. فمن هم هؤلاء المحتجون؟ ولماذا الاحتججاج؟
هؤلاء هم اليسار البريطاني المتطرف المندس في حزب العمال، والذي لعب دوراً كبيراً في فشل الحزب في العديد من الانتخابات البرلمانية العامة، وذلك بسبب تبنيها شعارات ومطالبات تعجيزية ترفضها الغالبية العظمى من الناخبين البريطانيين الرافضين للتطرف و من أي كان، يميني أو يساري، مثل نزع السلاح النووي من طرف واحد، وتأميم المؤسسات الاقتصادية وغيرها، وبالتالي فنتيجة أعمال هذا اليسار كانت في خدمة اليمين المتطرف. إذ كما قال لينين: “اليسار المتطرف واليمين المتطرف يلتقيان ولكن عند حوافر الفرس”. وكذلك يضم هذا التحالف ضد بلير بعض الاعلاميين البريطانيين والعرب الذين اشتراهم صدام حسين بكوبونات النفط المعروفة، إضافة إلى نسبة من المهاجرين العرب والمسلمين المقيمين في بريطانيا الذين كانوا من المستفيدين من بقاء حكم البعث.
ولحسن الحظ، انبرى عدد من الكتاب العراقيين الأخيار في الدفاع عن السيد بلير، وفضح المتباكين على ما حل بالشعب العراقي من تداعيات سقوط الفاشية من أعمال إرهابية، من بينهم مقال الدكتور حميد الكفائي، بعنوان: (المحتجون على “فروسية” توني بلير)(1)، ومقال السيد رعد الحافظ: (وسام الفروسية لتوني بلير صفعة لأدعياء الوطنية الأنذال!)(2)
نسي هؤلاء أو تناسوا، ما حل بالشعب العراقي وشعوب المنطقة على يد النظام البعث الصدامي من ظلم وجور، وتبديد الثروات على عسكرة المجتمع، وشن الحروب العبثية، ومن ثم الحصار الاقتصادي بعد جريمة غزو الكويت، حيث تسبب النظام بقتل الملايين في حروبه العبثية، الداخلية والخارجية، إضافة إلى تدمير الاقتصاد العراقي، والقضاء شبه التام على الطبقة الوسطى، وإفقار الشعب، مما دفع إلى هجرة نحو 5 ملايين مواطن عراقي من اجل الأمن والعيش بكرامة في دول الشتات.
أما الذين عارضوا إسقاط النظام فهم بالإضافة إلى من ذكرناهم أعلاه، كانوا من المستفيدين في العراق من النظام، وهم فلول البعث الساقط، وكذلك غالبية دول الجوار التي استفادت من بقاء النظام الصدامي في الحكم وذلك ليواصل اضطهاده للشعب العراقي، وإبقاء الحصار عليه، لأن هذه الحكومات كانت مستفيدة من إيقاف تصدير النفط العراقي، وتعويض السوق بمنتجاتهم النفطية، وما در عليهم هذا الحصار من إيرادات النفط الإضافية التي بلغت قيمتها مئات المليارات الدولارات التي حرِّم منها الشعب العراقي لثلاث عشرة سنة.
وراح هؤلاء المحتجون ومن يدعمهم، يرددون كذبة كبرى مفادها أن غرض بوش وبلير من إسقاط حكم صدام هو نهب ثروات العراق، وإفقار شعبه، وتدميره لمصلحة إسرائيل!!! بينما الواقع يؤكد أن الذين دمروا العراق هم أيتام حزب البعث الذين خسروا حكم البلاد، وبالتالي خسروا مصالحهم المادية وجميع امتيازاتهم، وكذلك دول الجوار التي أصيبت بالهلع خوفاً من نجاح الديمقراطية في العراق، ووصول عدواها إلى شعوبهم. لذلك أثاروا الفتن الطائفية في العراق، وراحوا يحشدون التنظيمات الإسلامية الإرهابية المتطرفة، وإرسال القتلة لقتل العراقيين وتدمير ممتلكاتهم، ليقولوا لشعوبهم، أنظروا ما فعلت الديمقراطية الغربية بالعراق.
وهذا يعني أن المحتجين على منح بلير وسام الفروسية يفضلون بقاء حكم صدام والحصار الاقتصادي على العراق إلى أجل غير معلوم، وتحت مختلف المعاذير الباطلة. يجب أن يعرف هؤلاء أن سبب الاضطرابات ما بعد سقوط النظام هو ليس بوش وبلير، بل العراقيون أنفسهم الذين استقووا بدول الجوار ضد بعضهم البعض في صراعات طائفية واثنية، وبدوافع الأنانية والمصالح الفردية والفئوية. أما بوش وبلير فقد نجحا في إسقاط دولة المنظمة السرية وجمهورية الرعب، وأقاما نظاماً ديمقراطياً لم يعرفه العراق من قبل، وإذا حصلت الأخطاء ما بعد السقوط فالمسؤول عنه هم العراقيون الذين أساؤوا التصرف نتيجة فسادهم وعدم خبرتهم في الحكم، وكذلك الحكومات الخارجية التي تدخلت في الشأن العراقي وساهمت في إفشال العملية السياسية، لأسباب أشرنا إليها أعلاه.
والآن أترك المجال للقراء الكرام لقراءة المقال الذي نشرته بتاريخ 19/5/2007، ويحكموا ضمائرهم فيما إذا كان توني بلير يستحق وسام الفروسية أم لا؟
****
توني بلير سيخلده التاريخ بمداد من ذهب
د.عبدالخالق حسين
19/5/2007
من المفارقات الكبرى المعروفة في كل زمان ومكان أن الأبطال العظام في التاريخ دائماً يكونون مثيرين للجدل والخلاف، فينشق حولهم الناس إلى فريقين، موال ومحب بشدة، ومعادي ومبغض بشدة. وكلما كان البطل التاريخي واضحاً وملتزماً بمواقفه المبدئية كان الخلاف والجدل حوله أشد و أعنف. فهكذا كان الإمام علي بن أبي طالب الذي وصفه الدكتور علي الوردي بأنه أكثر من شق المسلمين، لأنه لم يساوم على مبدأ العدالة الاجتماعية، وتشدد في تطبيق مبادئ الإسلام كدين يطلب العدل والمساواة بين الناس، بينما رؤساء القبائل وبعض الصحابة أرادوا منه أن يميِّز بينهم وبين أبناء قبائلهم، وعبيدهم في توزيع الغنائم. لذا فكان الإمام علي شريراً وكافراً في نظر خصومه وبالأخص الخوارج، وقديساً عند أتباعه وخاصة الشيعة.
وهذا ما يجري الآن للسيد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي أعلن في الأسبوع الماضي أنه سيستقيل يوم 27 حزيران/يونيو القادم عن رئاسة الحكومة بعد عشر سنوات في قيادة السلطة و 13 عاماً في قيادة حزب العمال الحاكم. والرجل كغيره من المصلحين، اختلف الناس حوله، فمن يراه شريراً ومن يراه بطلاً تاريخياً يستحق كل التقدير.
لا أفشي سراً إذا قلت أني من المعجبين جداً بهذا القائد السياسي اللامع الذي ساهم مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في إسقاط أبشع نظام دكتاتوري عرفه التاريخ ألا وهو النظام البعثي الدموي الصدامي في العراق.
لقد تبوأ السيد توني بلير قيادة حزب العمال عام 1994 على أثر وفاة الراحل جون سميث زعيم الحزب المفاجئ بسكتة قلبية. وكان الحزب يتعافى آنذاك من مشاكل مزمنة كالانشقاقات في صفوفه والصراعات الفئوية بين جناحيه اليسار واليمين حول سياسات معينة جعلته في حكومة الظل لمدة 18 عاماً ، حيث رفضت غالبية الشعب البريطاني حزب العمال طيلة تلك الفترة عقاباً له على هيمنة اليسار الطفولي على سياساته، والإضرابات المتوالية التي شنتها نقابات العمال، والتي شلت الحياة في بريطانيا وخاصة في شتاء عام 1979 الجليدي القارص، والذي أطلق عليه البريطانيون (Winter of discontent)، أي شتاء التذمر في عهد رئيس الوزراء العمالي الراحل جيمس كالاهان. إضافة إلى تمسك هذا اليسار بسياسات ومبادئ قديمة ومتطرفة في نظر معظم الناخبين البريطانيين، ولا تلائم تطورات العصر مثل سياسة نزع السلاح النووي من طرف واحد، وهيمنة اتحاد النقابات على قرارات الحزب، والتمسك بالمادة الرابعة من دستور الحزب، التي كانت تقضي بتأميم المؤسسات الاقتصادية وفق الاشتراكية الماركسية، حيث صارت المؤسسات التي أممها الحزب بعد الحرب العالمية الثانية عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على خزانة الدولة لما كانت تسببه من خسائر مادية بدلاً من الأرباح والنمو الاقتصادي…الخ.
وبعد فشل الحزب في الانتخابات البرلمانية عام 1979، وفوز حزب المحافظين بقيادة السيدة مارغريت تاتشر، تنحى جيمس كالاهان زعيم الحزب آنذاك عن قيادة الحزب وتم انتخاب الزعيم اليساري المعروف (مايكل فوت) زعيماً للحزب رغم تقدمه في السن، والذي واصل تأييده لليساريين.
فكانت النتيجة كارثة ماحقة على الحزب، حيث أصيب بهزيمة تاريخية مذلة في الانتخابات البرلمانية العامة سنة 1983، مما اضطر مايكل فوت إلى الاستقالة مدحوراً مهموماً، ليفسح المجال للجيل الجديد من قادة الحزب حيث تم انتخاب السيد نيل كينوك زعيماً للحزب. وقد تميَّز نيل كنوك بالشجاعة والكفاءة والحيوية والحكمة وفن الخطابة والتواصل المؤثر مع الجماهير، ورغبته في تغيير سياسة الحزب وتحويل اتجاهه، من حزب مرفوض من قبل غالبية الناخبين إلى حزب قابل لنيل ثقتهم والحكم. إلا إن مشاكل الحزب كانت كثيرة وعميقة ومزمنة لا يمكن معالجتها في فترة قصيرة وذلك نظراً لثقل اليسار المعارض للإصلاح داخل الحزب. فرغم نجاح السيد كينوك في إجراء بعض التغييرات ولكن هذه التغييرات لم تكن كافية ولم يكن بمقدوره الذهاب إلى أبعد مما ذهب في غضون ثمان سنوات من زعامته للحزب، لذا فشل في انتخابين متتاليين آخرين إثناء زعامته للحزب، مما اضطر هو الآخر إلى الاستقالة، وجاء بعده الراحل جون سميث، وهو سكوتلندي وسياسي بارز، وخطيب برلماني مفوه ومؤثر، واصل عملية الإصلاح التي بدأها كينوك، ولكنه توفي فجأة بسكتة قلبية عام 1994، أي بعد عامين من توليه زعامة الحزب مما فسح المجال للشاب اللامع والمحامي القدير توني بلير لزعامة الحزب والذي حصد ثمار الإصلاح الذي تم على أيدي كينوك وسميث اللذين مهدا له طريق الفوز.
يتميز توني بلير بالكارزمائية والشجاعة الفائقة والذكاء الحاد، وحيوية الشباب النشط وجاذبية نجوم السينما اللامعين، وهو نفسه كان عازف كيتار ومغنياً طويل الشعر مثل الهبيز عندما كان طالباً جامعياً، وكان يحلم أن يكون نجماً في إحدى فرق الروك أند رول. لقد جمع بلير بين الحظ والكفاءة فحصد ثمار جهود كينوك وسميث في تحويل حزب العمال إلى حزب قابل لنيل ثقة الأغلبية لاستلام السلطة. كان محظوظاً لأن كينوك وسميث قد قطعا شوطاً بعيداً في إصلاح الحزب وتخليصه من هيمنة اليسار المتشدد، والمبادئ التي أكل الدهر عليها وشرب ومهدا له الطريق لقطف الثمار.
كذلك قامت السيدة مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء وزعيمة حزب المحافظين، بتقليم أظافر اتحاد نقابات العمال (TUC) خلال حكمها، فقلصت من نفوذهم وواجهت إضراباتهم بالشدة غير المعهودة، كما ونفذت سياسة خصخصة المؤسسات الاقتصادية الكبرى مثل شركة النفط البريطانية (BP)، وشركة التلفونات (BT)، وشركة الطيران البريطانية (BA) والمؤسسات الكهربائية وشبكات توزيعها وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الخدمية والانتاجية، وحققت نجاحاً باهراً في هذا المجال. ونتيجة لهذه النجاحات أصاب حزب المحافظين نوع من الغرور بعد نحو عشر سنوات في الحكم عندما أصدرت السيدة تاتشر قانوناً مجحفاً بحق الأغلبية مثل قانون ضريبة السكن الذي كان حسب حجم الدار وثمنه، فجعلته السيدة تاتشر حسب عدد الأفراد الساكنين في الدار (pole tax)، الذي خفَّف الضريبة على الأغنياء، وضاعفها على الفقراء. وكان هذا القانون هو الذي أدى إلى سقوط السيدة تاتشر وتذمر الشعب البريطاني من حزب المحافظين، فأرغم المتنفذون في قيادة الحزب السيدة الحديدية على الاستقالة عام 1992، وجاء بعدها السيد جون ميجر الذي استمر في الحكم لست سنوات أخرى. وعندها مل الشعب البريطاني من حكم المحافظين، فتولدت لديه الرغبة في التغيير بعد 18 عاماً من الحكم بيد حزب واحد، خاصة وإن جون ميجر اتصف بالضعف، حيث وصفه الصحفي الإنكليزي المعروف أندرو مار (Andrew Marr) في صحيفة الإندبندنت آنذاك، أن جون ميجر لم يترك أي أثر في التاريخ السياسي البريطاني، وكان كل دوره محصوراً في منع حدوث الأشياء، وإذا أراد التاريخ أن يذكره بشيء فسيقول عنه أن “جون ميجر هو رئيس الوزراء البريطاني الذي جاء بعد تاتشر وقبل بلير”.
لذلك لعبت كل هذه الظروف في صالح توني بلير، إلا إن الرجل كان مؤهلاً بالفطرة والكفاءة لاستثمار هذه الظروف، ويجعل منها فرصة ذهبية لتحقيق المزيد من التغيير والإصلاحات في حزب العمال فنجح في إلغاء المادة الرابعة المشار إليها أعلاه من دستور الحزب، كذلك ألغى سياسة نزع السلاح النووي من طرف واحد، وغيرها كثير من الإصلاحات التي بدأها نيل كينوك في الثمانينات. وبذلك فقد نجح بلير في تجديد الحزب وجعله بحق يستحق اسم (حزب العمال الجديد New Labour).
لقد حقق توني بلير بزعامته فوز الحزب بالسلطة لثلاث دورات برلمانية لحد إعلان استقالته، وهذا نجاح غير مسبوق لحزب العمال منذ تأسيسه عام 1900. كما حقق الكثير من الإنجازات للشعب البريطاني، فبنى أقوى اقتصاد لأطول مدة لحد الآن، مع أقل نسبة تضخم العملة، كما وأجرى تحسينات كبيرة غير مسبوقة في الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وضاعف عدد طلبة الجامعات، و وفى بجميع التزاماته وتعهداته التي قطعها على نفسه للشعب البريطاني.
ولكن أعظم منجز حققه توني بلير، والذي سيذكره له التاريخ، هو نجاحه في حل مشكلة آيرلندا الشمالية التي بقيت مستعصية على الحل لعشرات السنين وأودت بحياة الألوف من الأبرياء. لقد حقق توني بلير السلام لهذه البقعة، ونجح في جمع الأعداء للمشاركة في حكومة واحدة، تمخضت مساعيه عن توقيع اتفاقية الجمعة الحزينة (The Big Friday) عام 1998، التي حققت السلام في هذه المقاطعة بعد عشرات السنين من الحرب الأهلية بين الكاثوليك الجمهوريين الموالين لجمهورية إيرلاندا، وبين البروتستانت الموالين لبريطانيا. وهذا المنجز يعتبر عظيماً وفق جميع المقاييس.
وفي السياسة الخارجية، دافع بلير عن الشعوب المضطهدة وخاصة تلك التي واجهت إبادة الجنس، مثل شعوب البلقان، فأقنع الرئيس الأمريكي بيل كلنتون لإنقاذ هذه الشعوب من الإبادة على يد الفاشية الصربية رغم معارضة الأمم المتحدة والوحدة الأوربية لشن حرب على نظام ميلوسوفيج، وبذلك أنقذ بلير هذه الشعوب. كذلك في تيمور الشرقية حيث أنقذ بلير مع بيل كلنتون هذا الشعب من الإبادة على يد حكومة إندونيسيا في عهد سوهارتو. كما وبذل بلير قصارى جهوده مع بيل كلنتون وخليفته بوش في سبيل حل الصراع العربي-الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية ولكن دون جدوى. كما ونجح بلير في إقناع الدول الصناعية الكبرى في إسقاط الديون عن الدول الأفريقية الفقيرة، والتي كانت تقدر بخمسين مليار دولار… وهكذا ترك بلير بصماته على مجالات كثيرة سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.
مشكلة بلير بدأت بعد الحرب العراقية وإسقاط نظام المقابر الجماعية في العراق. فمن الناحية الإخلاقية، لقد أصر بلير على التزامه بإنقاذ الشعب العراقي من الفاشية البعثية كما أنقذ شعوب البلقان وتيمور الشرقية من قبل. ولم يكذب بلير حول ملف أسلحة الدمار الشامل كما يدعي البعض. بل هذه هي المعلومات التي وفرتها له الاستخبارات البريطانية والأمريكية. كذلك يجب أن لا ننسى أن صدام حسين نفسه كان يتباهى بقرب امتلاكه للسلاح النووي، وكان يسعى لتحقيق ذلك. وكان صدام يمتلك سلاح الدمار الشامل من نوع آخر مثل الكيمياوي الذي استخدمه ضد الشعب الكردي في حلبجة، وكذلك في الحرب مع إيران. وغني عن القول، أن سلاح الدمار الشامل لا يعني النووي فقط، بل ويشمل الكيمياوي والجرثومي أيضاً.
والكل يعلم أنه خلال الأشهر الأولى من سقوط الفاشية كانت غالبية الرأي العام البريطاني والأمريكي والعراقي مع الحرب على صدام، ولكن بعد أن تكالبت قوى الشر على الشعب العراقي، والمعادية للديمقراطية في العراق خوفاً على عروشها، ولكي لا تصل رياح التغيير إلى بلدانهم فتكتسح أنظمتهم الجائرة، لذا راحوا يجندون الإرهابيين ويرسلونهم زرافات إلى العراق لقتل العراقيين و وأد الديمقراطية الفتية فيه. وعندما تصاعد عدد ضحايا القتل الإرهابي في العراق، راحوا يبشرون بفشل الحرب ويلقون اللوم على بلير وبوش مدعين أنهما ارتكبا خطأً كبيراً في إسقاط صدام حسين وأن الحرب كانت غير شرعية…الخ.
والمشكلة أنه لم يسأل أي من هؤلاء نفسه السؤال التالي: ماذا لم يتم إسقاط حكم صدام؟
وجواباً على هذا السؤال يرجى مراجعة مقالنا بهذا العنوان (الرابط رقم 3 في الهامش).
لم ينتقد أحد بلير وكلينتون على إسقاط نظام ميلوسوفيج رغم عدم حصول قرار موافقة الأمم المتحدة، لأن العملية نجحت، ولأن ميلوسوفيج لم يمتلك المليارات من الدولارات لشراء الذمم والمنظمات اليسارية واليمينية للدفاع عنه، وعن نظامه كما فعل صدام حسين وحزب البعث اللذان نهبا ثروات الشعب العراقي والتي تقدر منهوباتهما بنحو 60 مليار دولار (مالية الحزب)، والتي مازالت تعمل في إدارة الإرهاب في العراق. فكما قال بلير عن الحرب العراقية خلال زيارته الأخيرة لواشنطن يوم 19/5/2007 “اتخذنا قرارا صعبا للغاية، واعتقدنا حينئذ ومازلتُ أعتقد أنه كان القرار الصائب”.
اعتقد جازماً أن قرار توني بلير وبوش كان صائباً وسوف يقيِّمه التاريخ لصالحهما. لقد دخل بلير التاريخ من أوسع أبوابه، وسيذكره أنه الزعيم السياسي الشجاع الذي عمل وفق ما كان يمليه عليه ضميره الحي، وإخلاقيته الراقية، فأسقط الطغاة من أمثال صدام حسين، وميلوسوفيج، وناصر الشعوب المغلوبة على أمرها، الزعيم الذي قاد حملة واسعة لمساعدة الشعوب الفقيرة بإسقاط ديونها، ومحاربة الفقر في العالم. أما التحسينات التي أجراها على حياة الشعب البريطاني فلا تقدر.
وفي الختام، من الجدير بالذكر التطرق إلى علاقة بريطانيا بأمريكا. إن العلاقة بين البلدين هي علاقة إستراتيجية وجودية ومصيرية غير قابلة للمساومة بغض النظر عن أي حزب أو أي شخص يقود السلطة في كلا البلدين. إنه في منتهى السذاجة من يعتقد أن توني بلير كان خاضعاً لجورج دبليو بوش. فهذا التحالف البريطاني- الأمريكي له جذوره في عمق التاريخ منذ استقلال أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر وإلى الآن، وهكذا كانت العلاقة المصيرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي عهد تشرتشل، وعهد تاتشر وعهد توني بلير، وستستمر هذه العلاقة بهذا التلاحم والتحالف الاستراتيجي إلى أجل غير معلوم. وهذه السياسة ليست في صالح الشعبين الأمريكي والبريطاني فحسب، بل هي في صالح البشرية جمعاء أيضاً. وهذا ليس تطرفا أو مبالغة مني كما يتصور البعض، بل أذكرهم بما كان سيحل بالبشرية لولا هذا التحالف الإستراتيجي بين أمريكا وبريطانيا، لكان العالم اليوم غابة يحكمها الطغاة من أمثال هتلر، وموسوليني، والعسكرتارية الفاشية اليابانية، ومعمر القذافي، وصدام حسين وأبنائه.
لقد تقاعد توني بلير مرفوع الرأس مكرماً ومعززاً وهو في أوج نشاطه وعنفوان عطائه الفكري والسياسي، يمتلك طاقة فكرية هائلة وحيوية فائقة، وهكذا شخص لامع ونشط لا بد وأن ينتظره مستقبل رائع وسيخلده التاريخ بمداد من ذهب.
19/5/2007
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- د. حميد الكفائي: المحتجون على “فروسية” توني بلير
https://akhbaar.org/home/2022/1/290739.html
2- رعد الحافظ: وسام الفروسية لتوني بلير صفعة لأدعياء الوطنية الأنذال!
https://akhbaar.org/home/2022/1/290646.html
3- د.عبدالخالق حسين: ماذا لو لم يتم إسقاط حكم صدام؟