١
كانت محاضرات المغفور له الدكتور فريدون مارف مختلفة عن غيرها من محاضرات الاساتذة الاخرين حيث كانت تتخللها دوما المواقف المضحكة _ قسم كبير منها مصطنعة الغاية منها القضاء على الملل وأضفاء الحيوية والرغبة للاستماع الى المزيد من المعلومات العلمية الخارجة عن نطاق المنهج الممتعة أو مناقشة أمور حياتية يومية متنوعة بشوق ولهفة أكبر عند الدقائق الاخيرة ومع نهاية كل محاضرة خاصة في المرحلة الدراسية الاخيرة.
المفرح في الامر كان لي وزملائي الاثنين كل من (كمال علي خدر وأبراهيم يزيدين حمو) نصيب لا بأس به في المشاركة والحديث حول كل ما يجري ويقال في الصف وذلك بأعتبارنا طلبة أيزيدين في الشعبة حيث كان المرحوم الدكتور فريدون يتجه نحونا عند الحالات المعينة ويسأل عن نظرة أبناء الديانة الايزيدية ورأيهم في الموضوع المطروح حسب وجهة نظر معتقدتهم وفلسفتهم للوجود والكون.
في أحدى الايام كان موضوع المناقشة في الدقائق العشر الاخيرة لنهاية الدرس عن الرسائل السماوية للانبياء والرسل وبداية فكرة التوحيد عند البشر وحسب مبدأ وتصورات الاديان المختلفة، أستفسر منا المرحوم الدكتور فريدون عن مسألة التوحيد من وجهة نظر الايزيدية، حاولنا أيصال الرواية الايزيدية حسب المعتقد الايزيدي عن بداية النشوء والتكوين وخلق ملاك (طاووس ملك) أولا ومن بعده ست ملائكة أخرين وتنصيبه رئيسا للملائكة وتسميته بأول الموحدين للخالق سبحانه تعالى، حاولنا قدر الامكان أبعاد تهمة الوثنية والالحاد عن أبناء الايزيدية وتصحيح الفكرة الخاطئة والشائعة عن تعدد الالهة عندهم حسب أدعاءات المغرضين من أعداء ديانتنا الازليين.
٢
نيسان ١٩٨٤
كان ضمن الكادر التدريسي لكلية الهندسة/ قسم الكهرباء- اختصاص الكترون أتصالات للاعوام ١٩٨٣- ١٩٨٨ أستاذ الهندي بأسم (دكتور مورفي) وكان معتنقا الديانة الهندوسية، أستأذنت منه طلب أجازة وتأجيل الامتحان في يوم الاربعاء الذي يصادف عيد رأس السنة الايزيدية لعام ١٩٨٤، ذكرلي الاستاذ الهندوسي المتحضر جدا، الشخصية المتنزنة والهادئة، صاحب العلم الوفير والثقافة الواسعة والمتنوعة أنه لا يوجد في يوم الاربعاء الذي أقصده أية مناسبة او عطلة رسمية لا للمسلمين ولا للمسيحيين، قلت له لكن دكتور أنا لست مسيحيا ولا مسلما، نظر لي الدكتور (مورفي) هذه المرة نظرة أستغراب ودهشة دون أن يستفسر عن أنتمائي وحقيقة ديانتي..
بعد أن بلغته أنني ئيزدي الديانة، طلب مني معلومات عامة عن عقيدتي أو أعارة كتاب بخصوص الديانة الايزيدية على الاقل ..
فعلا هذا ما تم حيث سلمته أوراق مستنسخة من كتاب عن الديانة الايزيدية كان قد أعدها وطبعها على نفقته الخاصة الايزيدي الغيور (عبدالله قه رتل – من أيزيديي وه لاتى خالتا – باكوور – القسم الكوردي في دولة تركيا) على هيئة مجلة مصورة وملونة وعالية الجودة من ناحية الورق والدقة في الطباعة كان قد أهداها للمرحوم الامير خيري بك أثناء زيارته للعراق ضمن الوفد الايزيدي الذي رافق عودة المرحوم الامير تحسين بك شهر أيلول عام ١٩٨١ بعد اصدار العفو الرئاسي عنه من قبل الحكومة العراقية انذاك، وكان الكتاب أشبه بمجلة مصورة تعريفية – توثيقية عن الديانة الايزيدية بلغات (المانية -أنكليزية -عربية – كوردية بحروف أيزيدية قديمة) خاص باللذين لا يمتلكون أدنى معلومات عن الديانة الايزيدية اكثر من كونها كتاب ديني صرف او مصدر معرفي – تاريخي معتبر يمكن الاعتماد عليه.
بعد مرور أيام من تسليمي له تلك الاوراق المستنسخة عن الديانة الايزيدية، ذات صباح وقبل دخولنا المحاضرة ناداني الاستاذ الدكتور (مورفي) وسلمني تلك الاوراق قائلا ” يوجد في دولتنا – جمهورية هند الاتحادية – عدد غير قليل من المعتنقين لديانة تشبه الى حد كبير لما تعبدون انتم الايزيديين ويمتلكون من عادات وتقاليد أجتماعية قريبة خاصة بكم وكما مدون في منشوركم هذا ..”
ومن ثم أشار بكلتا يديه الى طرفي جمجمة رأسه علامة القرنين، بمعنى هناك في دولة الهند أقوام وملل يعبدون حتى الوحوش ..
٣
أيار ١٩٨٨
كان يفصلنا عن التخرج من الجامعة ايام معدودات كان يغمرنا نحن الطلبة الفرحة والسرور وكنا نتهيأ ليوم حفلة التخرج حيث أنتهينا من أغلب المواد الدراسية المقررة، ذات صباح أحدى تلك الايام دخل علينا المغفور له الدكتور فريدون ليتحدث عن تجربته وايام دراسته في المانيا عندما كان يحضر الدكتوراه في اختصاص –المايكروف.
لازلت احتفظ في ذاكرتي قوله ” المنهاج الذي أنتهينا منه توا قبل أيام كانت المادة المقررة لنا لنيل شهادة الدكتوراه أعوام ١٩٦٩-١٩٧٣..”
قاطعته وقتها قائلا ” دكتور..والعلوم، والدراسات التقنية والتكنلوجيا الحديثة للسنوات التي تلت 1973 عن الاشعاع والانتشار في مجال الكهرومغناطيس، ماذا عنها..؟! “.
جاوبني مبتسما ” هذا ما سيتناوله ويدرسه من يحالفه الحظ في أتمام دراسته العليا، طبعا هذا لا يمنع من يحاول أن يطور نفسه ويتواصل حيث لا أخفيكم سرا أن يوم واحد من التاخير والانقطاع عن التواصل في مواكبة مسيرة العلم والتكنلوجيا يكفي أن يكون المرء متخلفا عن الركب الحضاري وجاهلا عما يجري حواليه من أبداعات وأختراعات جديدة متواصلة..”.
يا ترى ما موقعنا نحن طلبة العلم والخريجيين قديما- حديثا من العراقيين الان عما توصل اليه التقدم العلمي والتكنلوجي في مختلف نواحي العلوم والمعارف خاصة وغالبية أبناء الشعب العراقي غائب عما يجري طوال السنوات التي تلت حروب الخليج الاولى والثانية وتحرير (أحتلال..) العراق ولغاية هذه اللحظة..؟!.
٤
لا اتذكر بالضبط في صباح نفس ذلك اليوم او اليوم الذي تلاه عما دار من المناقشة اعلاه قال المغفور له مبتسما حيث كانت أبتسامته العريضة وحديثه الهاديء من أهم صفاته ومن علاماته الغالبة ” الويل لكم من المدرسة التي ستدخلونها في القادم من الايام مستقبلا …؟!”.
كان صمتنا ونظراتنا الحائرة اليه تكفي أن يستمر في حديثه وأتمام ما رغب أن يبلغنا عنه …
” لا انكر أنكم كنتم ولا زلتم خير طلبة فهما وذكاءا، ها و(سيصبح- ستصبح) بعد أسابيع أو أشهر قلائل كل واحد منكم (باشمهندسا بقد الدنيا) …نعم كنتم طلبة متفوقين وناجحين في مجمل المراحل الماضية التي قطعتموها سنوات الدراسة..”
سكت لبرهة وأضاف ” لكن هذا غير كافي …أبدا…أبدا هذا لا يضمن في أنكم ستنجحون في المدرسة التي ستدخلونها بعد أيام قلائل…؟!”.
رحمك الله يا استاذي الفاضل…صدقت..فكم ناجح في مختلف مراحل الدراسية بامتياز وفشل في مدرسة الحياة اليومية والعكس صحيح..؟!.
ملاحظة/
كان المرحوم الدكتور فريدون من أحد اعلام العراق والكورد وكان من مؤسسي جامعة السليمانية عام ١٩٦٨ مع جمع من الاكادميين ومن ضمنهم المغفور له الرئيس الراحل مام جلال وقد نال لسنوات عدة منصب عميد كلية الهندسة جامعة صلاح الدين / أربيل لغاية رحيله الابدي قبل سنوات الرحمة على روحه.