.
يتفوق شغف مهندسة النفط العراقية صفا السعيدي، لمهنتها على قيود مجتمع محافظ وأبوي إلى حدّ كبير، يرى في عمل المرأة بمهن تعدّ حكراً على الرجال وتتطلب النوم أياماً طويلة خارج منزل العائلة، أمراً مستغرباً ومرفوضاً.
كسرت صفا (29 عاماً) التي تعمل اليوم في شركة غاز البصرة هذه القيود منذ سبعة أعوام صعدت خلالها السلم الوظيفي من مشغّلة إلى مهندسة، ثمّ قائدة فريق، وهو عملها الحالي مع شركة غاز البصرة التي تضمّ نحو 180 امرأة من بين حوالي خمسة آلاف موظف.
تقطن الشابة في المعسكر التابع للشركة والذي يبعد مسافة نحو 30 دقيقة عن بيت العائلة. تعيش في غرفة خاصة شهراً كاملاً، وتعود شهراً إلى منزل أهلها في البصرة أو تستغل هذا الوقت في ممارسة هوايتها المفضلة: السفر.
عندما ينتهي نهارها في العمل، تخلع صفا زيها الأزرق وخوذتها لتضع ثياب الرياضة وتمارس الهرولة في المعسكر، أو داخل النادي الرياضي الموجود فيه للاسترخاء.
هذه الحياة والمهنة “التي أشعر أنها اختارتني ولست أنا من اختارها”، كما تقول، لا تزال تقابل بامتعاض من بعض أقاربها. وتروي “غالباً ما أسمع منهم أنك اقتربت من سن الثلاثين وسيفوتك القطار، ستصبحين عانساً. أضحك فقط، لا أجيب”.
لا تحدّ تلك الملاحظات طموحها. وتقول “أتمنى الوصول إلى منصب إداري لأنه نادراً ما نرى نساء بمنصب مماثل، رغم أن العراق يحتوي على العديد من النساء المميزات والقويات”.
“مغامرة”
منذ بداية مشوارها المهني، لم تكن مهمة صفا سهلة في بلد ترى فيه “الغالبية أن المساواة بالتعليم الجامعي بين الجنسين أمراً مهماً، لكن من جهة ثانية، المواقف إزاء الحقوق المتساوية في العمل فيها تمييز ضد النساء”، وفق تقرير “للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (إسكوا).
وتغلبت رغبتها في “التعلم من الميدان” وحس “المغامرة” لديها، على كلّ العراقيل والعقبات الاجتماعية التي تضع النساء في قوالب المنزل والزواج والاهتمام في العائلة فقط، لا سيما في مدينة مثل البصرة، أو في الجنوب العراقي عموماً ذي الغالبية الشيعية، والذي لا يزال متديناً ومحافظاً إلى حد كبير.
وتخبر صفا “ولدت وكبرت في البصرة، والبصرة مدينة صغيرة في جنوب العراق. ومجتمعنا لا يتقبل أن تعيش الفتاة خارج المنزل”.
تتذكر أوّل عملٍ لها مع شركة “شل” البريطانية كمهندسة إنتاج بعدما تخرجت من جامعة البصرة من كلية هندسة النفط في 2014. تقول “كان عملاً ميدانياً يتطلب المبيت خارج البيت”. حينها، عارضت والدتها فكرة الإقامة خارجاً، لأنها “كانت تخشى كلام الناس وتخاف علي، وتخشى أن يؤثر الأمر على فرصي بالزواج وعلى السمعة”.
وتضيف “شكّل تحدياً صعباً، لكنني تبعت قلبي وذهبت في هذا الاتجاه”، رغم ساعات الدوام طويلة، من السادسة فجراً حتى السادسة مساءً، مع أنها كانت الشابة الوحيدة من فريق المشغلين في حقل مجنون النفطي في جنوب العراق والأصغر سناً.
“كل امرأة قادرة”
الأمر كان يستحق المحاولة، لأن شجاعة صفا دفعت فتيات أخريات إلى ترك الوظيفة الإدارية التي تمّ حدهنّ بها والتحول إلى الميدان أيضاً والنوم في المعسكر.
وتقول “شجعت فتيات أخريات على الانضمام إلى مجال الإنتاج وهذا مجال قليل أن تعمل به نساء حتى عالمياً، مؤكدة “عندما أرى أن هناك تغييراً بدأ يحصل في العراق، أفرح”.
بالشغف نفسه، تتحدّث المهندسة الكيميائية دلال عبد الأمير (24 عاماً)، عن مهنتها، وهي تعمل اليوم في مجال الإنتاج التشغيلي في شركة غاز البصرة أيضاً.
وتروي “كان حلم طفولتي العمل مهندسة لأنه مجال يمكن أن تبدع به، سواء كنت رجلاً أو امرأة” في بلد يعدّ العراق “الأسوأ من حيث مشاركة النساء في القوة العاملة في العراق هي الأسوأ في العالم حيث تبلغ 13%”، وفق تقرير للإسكوا.
وجاء العراق في المرتبة 152 من أصل 153 في مؤشر العالمي لـ”الفجوة بين الجنسين” لعام 2020.
ودخلت دلال في 2021، شركة غاز البصرة عبر برنامج خريجين ضم ثلاثين شخصاً، بينهم عشر شابات.
يقول المدير الإداري للشركة مالكوم مايس “لم نذهب إلى جامعة البصرة قائلين نريد نساء، بل ذهبنا وقلنا نريد ألمع طلابكم (…) كنا نبحث عن ثلاثة أشياء: التميز الأكاديمي، اللغة، والمهارات الشخصية أي القدرة على التواصل مع الناس”.
هذه الوظيفة الأولى لدلال بعد التخرج … الوظيفة الأولى “في مهنة يهمين عليها الرجال”، كما تروي لفرانس برس، ما وضعها “في دوامة من الخوف بدايةً”. وتقول “كنت أشعر أنني أقل وأنني لن أصل إلى المستوى المطلوب، كنت أخشى السؤال خوفاً من الاعتقاد أنني لا أملك الكفاءة أو أنني أقلّ منهم”.
لكنها اليوم أكثر ثقة بنفسها، وأكثر شجاعة محطمةً تدريجاً قيود “الخوف والتردد” اللذين كانا يراودانها.
تضيف دلال “أقول للشابات أنتن لديكن نفس القدرة والإمكانية التي يملكها الرجل، لا يتميز عنك بشيء. هذه الوظيفة علمتني ذلك، لا تخافي لا تتردي وتظني أنك غير قادرة، كلا، كل امرأة قادرة”.