2- قطاع النفط في مرحلة داعش:
من يحصل على حفنة من الأموال بدون شرعية يعرف بالسارق، وهم أشخاص أو شريحة أضرارهم ثانوية. والذين يعبثون بحركة الأسواق ويعرضونها إلى التدمير لأرباحهم يوصفون بتجار الحروب، شرورهم كارثية للاقتصاد ولمعيشة الطبقة الفقيرة والمتوسطة في مراحل زمنية معينة. أما عندما تنفتح أبواب الفساد في إدارات الدولة، وينهب الدخل الوطني، يكون النظام الحاكم في الواجهة؛ تحت هيمنة شرائح ليس فقط شمولية استبدادية، بل مافياوية، لا تهمها تدمر الأوطان وهدم الثقافات، وظهور المنظمات الغارقة في الشرور، بل وكثيرا ما تساهم في توجيهها، كالنظام السوري، الذي نهب قطاع النفط على مدى أربعة عقود من الزمن، وساعد على ظهور داعش والنصرة، ومعظم ما تسمى اليوم بالمعارضة التكفيرية والسياسية القابعة في أحضان تركيا وقطر، وبعضها في حماية إيران.
فداعش كانت نتيجة حتمية لما بلغته كوارث أنظمة المنطقة. سلبياتها كمنظمة تكفيرية، أعمق مما يمكن اجتثاثه كما يتم عادة مع تجار الحروب، وتدميرها للاقتصاد لا تقارن بما زرعته من الأوبئة الفكرية والمفاهيم الشريرة في البيئة الهشة؛ التي كانت قد هيئتها الأنظمة المنوهة إليها. وهنا لن نقف على ما خلفته من الدمار في ثقافة المناطق العربية السنية، في سوريا والعراق، خلال السنوات الثلاث من سيطرتها، فهي تحتاج إلى الكثير، بل سنختصر على ما فعلته بالقطاع النفطي، حصراً في غربي كوردستان؛ شرقي الفرات.
صدرت بعض الدراسات على أنه بعد قدوم داعش عام 2014 وسيطرتها على معظم حقول النفط شرقي سوريا، بما في ذلك حقل العمَر في دير الزور، والذي يُعدّ الأضخم في البلاد، ناهزت مبيعاتها 40 مليون دولار شهريا عام 2015، بحسب وزارة الدفاع الأمريكية، علما أنها كانت تبيعه لتركيا وسلطة بشار الأسد بأسعار متدنية مقارنة بالأسعار العالمية.
قبل صدور التحذير من مجلس الأمن الدولي عام 2014 (لكل جهة يتم ضبطها بالتعامل في النفط مع الجماعات الإرهابية، والتي لم تستمع إليها لا الحكومة السورية ولا تركيا في البداية، إلا بعدما قصفت روسيا قوافل الصهاريج المتجهة إلى تركيا، العملية التي بينت للعالم مدى دعم تركيا وسلطة بشار الأسد، للمنظمة الإرهابية ليس فقط عسكريا، بل اقتصاديا) كان قطاع النفط السوري تحديدا أحد ركائز البنية التحتية الاقتصادية لمنظمة داعش، لسهولة تصديرها إلى تركيا وبيعها للنظام.
ولتبيان هذه، علينا أن نعود إلى (مارس 2015) (عندما برز اسم جورج حسواني لأول مرة، وعُرف كوسيط بين داعش وحكومة الأسد، حسواني المسيحي السوري، يحمل الجنسية الروسية، ويملك شركة مقاولات تدعى هيسكو، يدير مكتبها في موسكو شقيق زوجته) الوقت الذي كانت الحكومة السورية تتكبد الخسائر المادية الفادحة والتي فاقت 200 مليار دولار بحسب المركز السوري لبحوث السياسات، ولولا الدعم الإيراني الذي كان وفق التقديرات أيضاً يتراوح بين 6 و14 مليار سنوياً لما استطاعت الحكومة السورية الصمود، الأموال التي ساهمت على ديمومة الأربعين مليون دولار شهرياً كرقم كان يجنيه داعش من حكومة الأسد مقابل النفط.
(انكشفت هذه المعلومات من وثائق تمكنت القوات الأمريكية الخاصة من الحصول عليها عام 2020 في واحدة من أكبر العمليات الاستخبارية التي قامت بها، حيث تبين أن المسؤول عن النفط لدى داعش كان يُدعى أبو سياف، قاد الصفقات التي تم بموجبها بيع النفط للحكومة ولتركيا وتلقى أموالاً ضخمة نتيجة لذلك. أستلم بعد قتله أبو محمد المغربي)
كانت الصهاريج، والتي بلغت في عام 2015 قرابة 2500 صهريج، تتزود بالنفط من عدة حقول من بينها حقل “العمر“ الواقع في دير الزور، مقابل مبلغ مالي كان يدفع لمكتب أبو حمزة المصري، (ألف ليرة سوري) للبرميل الواحد”. ليتوجه رتل من الصهاريج إلى مناطق الحكومة السورية وبمرافقة من عناصر داعش كحماية، إلى أول حاجز للنظام في منطقة ريف حلب الجنوبي الشرقي، والرتل الأخر إلى الحدود السورية التركية وعن طريق بوابة مدينة الباب.
وعند دخولها مناطق الحكومة السورية، كانت تتحول ملكيتها لشركة “القاطرجي” فينقل النفط إلى مصفاة حمص (شركة القاطرجي صنعتها سلطة بشار الأسد كواجهة للتغطية على تعاملها مع تنظيم إرهابي أمام الرأي العالمي، خاصة بعد تحذير مجلس الأم).
من بين الوثائق الداعشية المستولية عليها القوات الأمريكية، كانت إحداها تحمل الرقم (156) ويعود تاريخها إلى 11 فبراير 2015 وهي مرسلة من وزارة الخزانة يذكر فيه أن “التنظيم” يطلب من مكتب أبو سياف المسؤول عن النفط، “تأسيس علاقات استثمارية مع رجال أعمال مرتبطين بتركيا وبنظام بشار الأسد”.
ومن الغرابة رغم أنها صنفت كأحد أخطر المنظمات الإرهابية في العالم، لم تضع عليها أية دولة إقليمية حصارا اقتصاديا، ولولا الأمريكيين والأوربيين، لبلغت دخلها الاقتصادي المليارات من الدولارات، بعكس ما يجري اليوم من المخططات المشتركة بين القوى الإقليمية وأدواتهم، من الحصار الاقتصادي إلى المؤامرات السياسية-العسكرية، ضد الإدارة الذاتية، والمنطقة الكوردية حصراً، رغم الفارق السياسي والثقافي بين الطرفين المذكورين.
حصلت الإدارة الذاتية على نصف ما كانت بيد داعش من حقول النفط، وهي مدمرة بشكل كامل، مع ذلك حيكت مخططات عنصرية خبيثة لمواجهتها ومنعها من استثمار هذا القطاع الاقتصادي الحيوي، وحركت الكثير من الدبلوماسية لمنع الدول الكبرى والأوروبية في عقد صفقات لإنقاذ القطاع وتطويره، وتأمين حاجة المنطقة من المواد البترولية الأولية، وهذه تذكرنا بما قامت به نفس الدول الإقليمية قبل عقدين من الزمن بحق الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، ومحاربته من اتهامه بنهب نفط العراق، وبيعه لإسرائيل، وغيرها.
وهذه تدل على أن القوى الإقليمية، كانت لها دور رئيس في تعميق منهجية بيئة المناطق التي سيطرت عليها داعش، وساهمت ليس فقط في انتشار الفكر الأصولي، والتي لا تزال تحتضن الكثير من خلاياها النائمة، وتحصل المنظمة على كميات ضخمة من الأموال، إلى جانب مساعدات الدول الإقليمية، وخاصة المعادية للكورد، بل عملت وخططت على تدمير البنية التحتية لقطاع النفط في المناطق التي توقعت إنها ستسيطر عليها القوات الكوردية، ونتذكر ما أقدمت عليها إيران وتركيا لإخراج منطقة كركوك من جغرافية الإقليم، لضرب دخلها الوطني، ووضعها تحت رحمة بغداد اقتصاديا.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
23/1/2022م