الروائي يوسف أبو الفوز:
أجتهد في رواياتي وقصصي لعكس تأثيرات الثقافة الأخرى على العراقي المهاجر واللاجئ
أكتب لقارئ ذكي لا أريده الاسترخاء أثناء قراءة روايتي
يوسف علي هداد، المعروف بأسم يوسف أبو الفوز، روائي واعلامي، له تجارب غنية في الصحافة العراقية والعربية وكذلك الفنلندية.. هل تجد الافضل بالنسبة لك هو كتابة الرواية أم العمل الصحفي، وهل يمكن ان تحدثنا عن تجاربك الغنية في عالم الصحافة وعالم الرواية؟
ــ أدركت مبكرا ان القصة، وبالتالي الرواية هي بيتي، فأجتهدت بصيانة هذا البيت وتأثيثه. كتبت أول قصة قصيرة بمواصفات فنية في الثالثة عشر من عمري. أكتشف ذلك أستاذ اللغة العربية، في الصف الأول متوسط، بعدها جربت كتابة الشعر والقصة والمسرحية والمقال، عشت حالة من التشتت، حتى التحاقي بالدراسة الجامعية، عام 1975، وممارستي الصحافة بشكل إحترافي، فساعدتني على اهتمامي بالقصة أكثر. علمتني الصحافة التقاط الموضوع، الاحاطة بالتفاصيل وملاحقتها، تبويب المعلومات وتحليلها، صناعة الأسئلة وبالتالي تعزيز قدراتي في الكتابة. لم اتوقف عن الكتابة الصحفية في كل الظروف والمحطات التي مررت بها، اذ كان مجالا رحبا لقول الكلمة المباشرة بوجه عسف الأنظمة الديكتاتورية والمطالبة بحياة أفضل للناس. بنفس الاتجاه واصلت كتابة ونشر القصص القصيرة، التي جمعت لاحقا بعضها في مجاميع قصصية صدرت تباعا. لم أتفرغ لكتابة أول رواية الا بعد استقراري والاقامة في فنلندا التي وصلتها عام 1995، حيث توفرت ظروف عديدة ساعدتني على ذلك، أولها المساحة الواسعة من الحرية، الاستقرار النسبي الذي ساعد في مراجعة مختلف الموضوعات والتجارب، إضافة الى تراكم الخبرة الأدبية وتأثير الاحتكاك بالأخر. أنجزت كتابة أول رواية عام 2005 واستغرق العمل فيها أربع سنوات، كانت بعنوان (تحت سماء القطب) نشرت عام 2010 عن دار موكرياني في اربيل، اجتهدت فيها لتسليط الضوء على تأثير الحياة الاوربية على الأجيال المختلفة من المهاجرين واللاجئين العراقيين المقيمين في أوروبا وفنلندا خصوصا الجيل الثاني، اضافة الى موضوعات التلاقح الحضاري والهوية والجذور. تبعها انجاز رواية (كوابيس هلسنكي)، عام 2008 ونشرت عن دار المدى في دمشق عام 2011، تناولت فيها موضوع الجماعات التكفيرية المتطرفة الناشطة في أوروبا وفنلندا وعلاقتها بالأعمال الارهابية في العراق. العام الماضي 2021 صدرت لي رواية في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في شهر تشرين الثاني / نوفمبر بعنوان (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي) تناولت موضوع موجة الهجرة في الاعوام 2014 ـ2017 من العراق وسوريا الى أوروبا وفنلندا. وفي كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي صدرت لي في بغداد رواية بعنوان (مواسم الانتظار)، وتناولت حياة ومعاناة المجتمع العراقي تحت ظل حقبة حزب البعث ونتائج الإرهاب السياسي الذي عاشه العراقيون المخالفين للنهج الشوفيني الفاشي لحزب البعث.
أستنتج هنا أنك في رواية (مواسم الانتظار) تتناول موضوعا سياسا شائكا، الا وهو تجربة التحالف بين البعثيين والشيوعيين، وإذ يقال ان الانتماء السياسي يلغي الابداع، فهل توافق هذا القول، وان وافقت، كيف ترى كونك شيوعي ومبدع في أن معا؟
ـ أن انتمائي الى الحزب الشيوعي العراقي، نابع عن قناعات فكرية وسياسية، وهذا الانتماء عزز كثيرا من شخصيتي ومنحني هوية انسان وكاتب يضع مصلحة وطنه وشعبه دائما في المقدمة، لهذا افخر جدا بانتمائي وتاريخي السياسي ونشاطي في مقارعة تعسف نظام حزب البعث الفاشي، حيث تعرضت وعائلتي للكثير من المضايقات والمعاناة، التي اجبرتني لمغادرة وطني عام 1979. ولا أجد هنا تعارض في كون الكاتب يكون ذا انتماء سياسي فكري، فلا يمكن لأي كاتب ان يكون بدون منهج فكري وسياسي وقضية يعمل ويكتب لأجلها. أن المهم هنا، هو ان لا تغلب لغة التخندق الأيديولوجي على عمل الكاتب فيتحول الى مجرد طبال وبوق لمواقف أيديولوجية وسياسية تحتمل الصواب والخطأ. وان الكاتب الحقيقي هو من يخضع نصه للشروط الفنية للكتابة، التي تتطلب منه ان يضع بطاقته الحزبية جانبا، دون التخلي عن روحه التنويرية ومنهجه الفكري التقدمي، ليكتب بروح الباحث الموضوعي. أن من يقرأ روايتي (مواسم الانتظار) سيجد هناك عدة شخصيات، أصواتها تختلف وتتعارض في الموقف والرأي، بما فيها أصوات شيوعية ناقدة لأداء قيادة الحزب الشيوعي في ادارتها لعملية التحالف مع البعث. وأستطيع القول ان (مواسم الانتظار) في جوانب منها رواية لا تعجب الصقور والمتأدلجين الشيوعيين، لأن متطلبات وشروط الكتابة هي من خلقت عوالم الرواية وليس الانتماء السياسي. أيضا أجد من الضروري جدا وجود كتاب ومثقفين في أي تنظيم سياسي وطني، خصوصا أولئك المثقفين المؤمنين حقا بالديمقراطية وحرية الرأي فهم سيكونون مدافعين عن وجود ذلك وحمايته في تنظيمات احزابهم.
وماذا تخبرنا عن روايتك الثانية التي صدرت مؤخرا في القاهرة؟
ـ الرواية تحت عنوان (جريمة… لم تكتبها آجاثا كريستي)، وصدرت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر2021 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في سلسلة الابداع العربي. تناولت الرواية بأسلوب بوليسي تشويقي، عبر الغاز ومفاجآت، احداثا جرت توافقا مع موجة هجرة العراقيين الى أوروبا وفنلندا. حاولت الرواية تسليط الضوء على أسباب ووقائع الهجرة، وتأثير الهجرة على طبيعة المجتمع الفنلندي وتعامل مختلف القوى المجتمعية معها، ومن ذلك نشاط قوى اليمين المتطرف والحركات العنصرية، وابرزت هموم ومعاناة الشباب العراقي الباحث عن الخلاص، خلال انتقالهم الى بيئة وثقافة مختلفة وحياتهم في مراكز استقبال اللاجئين. وتجتهد الرواية لتسليط الضوء على التطورات في المجتمع العراقي من بعد زوال النظام الديكتاتوري البعثي، ونتائج سياسات حكومات المحاصصة الطائفية التي غذت الانقسام والاحتقان الطائفي وغياب الأمن المجتمعي بتوفير البيئة لوجود ونشاط الجماعات المسلحة، التي صادرت كرامة الشباب الذي يضطر لمغادرة البلاد. ولم تغفل الرواية الحديث عن معاناة أبناء الشعب العراقي وما تعرضوا له من عسف واضطهاد في زمن النظام الديكتاتوري المقبور بحكم عدم ولائهم لحزب البعث الحاكم وأفردت دورا متميزا للمرأة العراقية.
سبق وصدرت لك رواية بعنوان (كوابيس هلسنكي)، وقادتنا احداثها الى العاصمة الفنلندية، ماذا عن بقية رواياتك، هل تدور احداثها أيضا في فنلندا؟ وما حجم وجود عملك الصحفي في اعمالك الروائية؟ هل يتداخل عندك عالم الصحافة مع الخيال والابتكار؟ هل اعتمدت السرد التلقائي أم اعتمدت القصد في تناول احداث جرت فعلا؟
ـ كتب يوما، الصديق الشاعر الفنلندي ماركو كويفولا عن تجربتي الأدبية في فنلندا، بأن (يوسف أبو الفوز ككاتب يطير بجناحين فنلندي وعراقي). وكان مصيبا جدا. إذا استثنيا رواية (مواسم الانتظار) فهي رواية تطير بأجنحة عراقية خالصة، كشخوص ومكان واحداث، فان بقية رواياتي الثلاث ومجموعة قصص (طائر الدهشة) صدرت 1999، تبدأ احداثها في مدن واجواء فنلندية، لكن سريعا، وتبعا لمنطق تطور الشخصيات والاحداث، يجد القارئ نفسه في العراق، بمدنه وشخوصه وهمومه. أجتهد في رواياتي وقصصي لعكس تأثيرات الثقافة الأخرى على العراقي المهاجر واللاجئ، وإبراز همومه، احلامه وطموحاته. أدرك بالتجربة بان المهاجر واللاجئ لا يقطع تذكرة سفر باتجاه واحد فهو يظل مرتبطا بجذوره ووطنه، وتبقى همومه المتراكبة عراقية وان عاشها تحت سماء أخرى وسط أجواء اجتماعية وثقافية أخرى. اما عن تأثير العمل الصحفي على رواياتي الأدبية، أجد انها ملاحظة ذكية، فكثيرا ما ألجأ الى توظيف صوت الصحفي وتقنيات صحفية، في بعض اعمالي، الروائية والقصصية، بطريقة يمكن القول انها (كولاجية). أحاول ان لا تكون مقحمة، وتأتي بشكل يخدم النص، فأمرر بعض المعلومات المباشرة كأن تكون وقائع حقيقية أو ارقام. واجتهد ان لا يكون هذا على حساب السرد الفني والخيال، بل استخدمه كأسلوب، ولنقل حيلة فنية، لإيهام القارئ وأقناعه بحقيقة ما تصنعه المخيلة، والتي أساسا تغرف موضوعاتها وشخوصها من المحيط الذي اعيشه ككاتب.
ان جوابك يقودنا للسؤال عن ماذا تشكل لك الذاكرة العراقية هنا، هل هي مجرد الطفولة، أم بدايات الصنعة الادبية، ام ان خزين الذاكرة ما زال متقدا لحد الان؟
ـ يمكن القول ان أي كاتب، لا يمكنه الفكاك من الذاكرة كأداة عمل، بل ان الذاكرة والحنين هما أبرز ادواته. واتفق مع القول بان الذاكرة جسر من خلاله نحقق استمرارينا عبر الزمن، فهي احدى وسائل بقاء الانسان وتقديره لنفسه، وبالنسبة للكاتب أجد ان الذاكرة عامل أساس في نشاط المخيلة. أن الاتكاء على الذاكرة والحنين هي مصدر قوة لأي كاتب، وهكذا فالذاكرة العراقية بالنسبة لي كانسان وكاتب نهر جاري اغرف منه ما يروي عطشي من حنين لأشياء نفتقدها، ليس الطفولة ولا البدايات والامكنة فقط، ولكن لان عالمنا المعاصر تشوه كثيرا بسبب تركة الانظمة الديكتاتورية والحروب والحملات الايمانية المزيفة التي انتجت امراض الطائفية المقيتة والعشائرية والتشوهات في المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي، فصرنا نفتقد ذلك الصفاء الإنساني حيث كان لا يهمنا ما يكون عليه الانتماء الديني والقومي لأصدقائنا وجيراننا.
ماذا يمثل لك الزمان والمكان؟ هل هما وحده واحده أم شيئان منفصلان؟
أتفق مع القول الشائع بأن العلاقة جوهرية ومتبادلة بين الزمان والمكان وايضا ما يذهب اليه بعض النقاد حين يستخدمون مصطلح (الزمكان) للدلالة المباشرة على ذلك، معتبرين الزمان هو البعد الرابع للمكان. فالزمان والمكان من عناصر الرواية المهمة وتبرز قدرة الكتاب ومهارته في معالجتهما وتوظيفهما بشكل يخدم تطور النص بشكل منطقي، حيث تبرز قدرته في معالجة نمط الزمن الروائي وانساقه، وقدرته في استخدام دلالات المكان من خلال الوصف وعلاقته بالشخصيات، فالمكان يساعد على ابراز هوية الشخصية ببعدها الاجتماعي والثقافي. وأزعم باني اكتب لقارئ ذكي، فعليه لا اريد له الاسترخاء اثناء قراءة روايتي، لهذا قلما في اعمالي اترك الزمان يسير على وتيرة واحدة، فالجأ الى عدة تقنيات منها الاسترجاع وأحيانا يكون متداخلا لأكسر رتابة خط السرد، وكذا عن المكان فاني اجتهد ليكون ليس مجرد خلفية للحدث، بل له دلالات أعمق، فالمكان يجب أن يمسك بالشخصيات والاحداث، وفي رواية (مواسم الانتظار) مثلا، لم تكن مدينتي السماوة مجرد مكان لبعض احداث الرواية، بل اجتهدت لتكون بشكل ما أحد شخصيات الرواية.
وهل تجد ان الجمال ضرورة في العمل الروائي؟
ــ لا يمكن لأي مبدع فنان أو كاتب ان يتجاهل هذا الامر، مثلما نعرف بأن مفهوم الجمال في الفن والادب تطور وأصبح علما حديثا له منظريه وفلاسفته، بل ويعد عند كثيرين فرعا من فروع الفلسفة ووصفوه بكونه علم التعرف على الأشياء من خلال الحواس. وارتباطا بالمنهج الفكري الذي أسترشد به، أقصد المنهج الماركسي، فأن كل نشاط مادي يقوم به الانسان له جانب جمالي ما، وبما ان الابداع شكل من اشكال المعرفة الاجتماعية، فأن الجمال يكمن في قدرة المبدع، الكاتب أو الفنان، في ابراز رؤيته للعالم بطريقة فنية، وتتمثل في براعة الفنان في اختيار الألوان وزوايا المنظور والخ، وطريقة الكاتب في اختيار الموضوعات والاحداث وتعامله مع الزمان والمكان ورسم الشخصيات وطريقة السرد المتبعة، وأيضا قدرة المبدع في تحقيق تكامل بين الشكل والمحتوى. طبعا لا نغفل تعامل الكاتب مع أهم ادواته في الكتابة، ونقصد اللغة، كأداة جمالية. ويتطلب القول أيضا ان الادب لابد ان يكون له دور في تغيير ظروف الانسان نحو الاحسن، بمعنى اخر ان مهمة الادب ليس فقط عكس أو تمثيل هذه الظروف، بل السعي والعمل لتغييرها، وبالتالي ان في أسلوب توعية الانسان وحثه لأجل تغيير حياته، يكمن أيضا عنصر جمالي هام.