الإدارة الذاتية وقطاع النفط:
تزامنت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على حقول النفط في شرقي الفرات؛ مع بدأ حملة القضاء على داعش عام 2017م إلى يوم دحرها في باغوز، والبالغة عدد أبارها 1322 بئراً، حسب إحصائيات النظام قبل عام 2011م، لكنها كانت مدمرة أو مصابة بأضرار جسيمة، سلمتها قسد إلى الإدارة الذاتية، بكل كوارثها الناتجة من الحرب على داعش، في مرحلة كانت لا تزال معدومة الخبرة والقدرات على الاستثمارات الاقتصادية، بل والإدارة بشكل عام، ولا يمكن تقييم المسائلة النفطية قبل مرحلة القضاء على داعش، لأن القطاع الاقتصادي وبشكل خاص النفطي كان بشكل مباشر أو غير مباشر قبل سيطرة داعش يدار من قبل دوائر النظام بحكم أن قوات الـ ي ب ك كانت لا تزال تستخدم للهيمنة، وليست لإدارة المنطقة، وكانت على علاقة وثيقة معها، والمربعات الأمنية كانت لها الباع الطويل في تسيير المنطقة، إلى جانب عوامل أخرى.
استمر الوضع المزري لحقول النفط قرابة سنة وأكثر، بعد هزيمة داعش، ساد المعاناة من وجود الآبار دون القدرة على الإنتاج، رغم الاستفادة من بقايا خبرات مخلفات النظام، الذي كان لا يزال بعضه سليماً في حقول رميلان، استمر معاناة المنطقة من الكوارث التي خلفتها داعش، كتلوث البيئة، والتصفية البدائية للنفط، وضخ الإنتاج إلى الأراضي لتتشكل مستنقعات من النفط الخام، وغيرها.
شرقي الفرات، وبشكل خاص المنطقة الكوردية، تحتضن قرابة ثلثي الاحتياطي السوري من النفط والغاز، وكانت تنتج بحدود 70% منه، مثلما كانت تعتبر السلة الغذائية لسوريا، إلى جانب الموارد الزراعية الصناعية، تشكلت الإدارة الذاتية على الجغرافية هذه، ذات المخزون الهائل من الموارد، دون أن يكون لهم القدرة على تحسينه أو تطويره والاستفادة منه، وتشغيل القطاع النفطي بالشكل المناسب في السنوات الأولى، ولعدة أسباب، منها التفرد في الحكم، وانعدام الخبرة، وعدم تقديم قوات الحلفاء أية خدمات في المجال الاقتصادي، والذي كان جل تركيزهم موجها لمحاربة داعش، أي تسخير القوات الكوردية والمنطقة في هذا المجال، وقد زاد من التعقيد معاملة قوات الـ ي ب ك القاسية للشارع الكوردي، والمؤدية إلى هجرة أصحاب الخبرات من الكورد، مع الأغلبية من الشباب.
ورغم مرور السنوات، وإدخال العديد من الحقول في الخدمة، ظلت سويات الإنتاج ما بين 80-100 ألف برميل يوميا وفق إحصائيات مراقبين دوليين ومنظمات اقتصادية، وبين 20-40 ألف برميل يوميا حسب إحصائيات(Washington institute for near east The)معهد واشنطن، بعضهم أسقطها إلى قرابة 14 ألف برميل، لعام 2019م. يقال أنه يتم تصدير ما يقارب 30 ألف برميل يوميا تقريباً (هذا الرقم يتعارض كليا مع الإحصائية الأخيرة) إلى الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، وجله عبر أنبوب يمتد من حقول رميلان إلى شمال كوردستان عبر دجلة، ومعظم الباقي إلى النظام، عبر شركة قاطرجي، نفس الشركة التي كانت تتعامل مع داعش. وكما يروج فإن أسعار البيع لا تتجاوز الـ 25 دولاراً للبرميل الواحد، مقارنة بالأسعار العالمية البالغة قرابة 86 دولار للبرميل، مع ذلك يقال أن النظام مدينة للإدارة الذاتية قرابة 150 مليون دولار عن مبيعاتها حتى عام 2021م، حسب معهد واشنطن.
ولا شك جميع الإحصائيات والمدخول، والأسعار، والعقود التجارية، قابلة للجدل ما دامت دون توثيق، ولا تسجل ضمن الدوريات الإحصائية الرسمية والمعترفة بها من قبل المنظمات التابعة لهيئة الأمم. ومعظم ما يظهر ليست سوى أقوال وتصريحات مسؤولين أو خبراء شركات تصريحاتهم شبه تخمينية، كما ولا يمكن الوثوق بتصريحات المسؤولين المعنيين بالأمر، ولا بسماسرة التصدير والاستيراد، ولأسباب عدة.
لكن ما نعلمه أن المسؤولين الأمريكيين، وبعد الضجة الإعلامية حول كلام دونالد ترمب، يتبرؤون من حصولهم على أية حصة من النفط الكوردي، وأن الإدارة الذاتية وبمساعدة قوات قسد، وأن النفط ومدخوله يعود بكليته للإدارة الذاتية ومصاريف قوات قسد، يقول شارلز ليستر، زميل معهد الشرق الأوسط، في هذا المجال أن “قوات سوريا الديمقراطية وتحالف من القبائل في شرق سوريا يبسطون سيطرتهم الآن على نحو 70 في المئة من موارد النفط السوري وعلى عدد من منشآت الغاز المهمة” ويضيف: “وعلى الرغم من أن معدلات إنتاج هذه المنشآت أقل بكثير عما كانت عليه قبل الحرب فإنها لا تزال تمثل مصدرا مهما من مصادر الدخل لدى قوات سوريا الديمقراطية” وهنا لم يأتي على الكميات المنتجة ولا المصدرة، وغيرها، لعدم المعرفة بها، باستثناء ما نوه إليه، أو ما قيل له أن يصرح به، التصريح لم يكن بأكثر من رسالة سياسية-قانونية.
ولأهمية ما سيطرت عليه قوات سوريا الديمقراطية، تحركت القوى المتربصة بالكورد وعلى رأسهم تركيا لتدفع بالمعارضة السورية بشقيها على تغيير بوصلة صراعها مع النظام إلى محاربة الإدارة الذاتية، والترويج على أن الكورد يحاولون الانفصال بعد استيلائهم على مناطق النفط.
وعلى هذا النسق تمت الدعاية على أن دونالد ترمب أعاد النظر في سحب قواته من شرق الفرات طمعاً في النفط، وهو ما أدى بمساعد وزير الدفاع الأمريكي، جوناثان هوفمن، إن يصرح على أن “العائد من حقول النفط لا يذهب إلى الولايات المتحدة؛ إنما يذهب إلى قوات سوريا الديمقراطية” وهو ما أثار حفيظة النظام وتركيا معا، وكثيرا ما تتبين وكأن هناك شبه تنسيق بينهم، عرابهم روسيا، على محاربة الإدارة الذاتية، وأحيانا يتم توسيع رقعة التهجم على الكورد ليشملوا الإقليم الفيدرالي الكوردستاني.
وفي الواقع جل محاربتهم هذه، إلى جانب القادم الكوردي، الوجود الأمريكي في المنطقة، وتتم على شكل ضغط سياسي-دبلوماسي، ومنها اتهام أمريكا بسرقة النفط السوري، ولتضخيم القضية، طلب أردوغان في مارس 2021، من نظيره الروسي فلاديمير بوتن التشارك في إدارة حقول النفط في محافظة دير الزور بشرق سوريا بدلاً من القوات التي يقودها الأكراد التي تسيطر على الحقول الآن.
هذا التوجه التركي، عززت رؤية قوات التحالف وأمريكا على أن لتركيا وإيران دور كبير في بقاء الخلايا النائمة لداعش في المنطقة، وتحريك قضية النفط ليست سوى واحدة من عدة محاور تدور ما بين روسيا وإيران وتركيا، لإخراج أمريكا من المنطقة الكوردية، خاصة بعدما دفع بمستشاري ترمب وخاصة جون بولتن، إقناعه على تغيير موقفه من الانسحاب وعدم السماح لتركيا بالتمدد أكثر في المنطقة الكوردية.
وكرد فعل على تلك الرسائل، قامت الإدارة الأمريكية المسؤولة عن ملف المنطقة الكوردية، بإثارة الدعاية السابقة، على أن “ترامب يريد أن تستخرج شركات أمريكية النفط السوري رغم تحذير الخبراء من أن ذلك قد تكون جريمة حرب” وفي الواقع لم تكن سوى رسائل سياسية ترهيبية لتركيا وروسيا، وتأكيد على إعادة النظر في القرار المعاكس للسحب العسكري من شرق الفرات.
الدعاية أقلقت الدول المعنية، وتم محاربة العقد، والذي كان شكليا، بين قسد مع الشركة الأمريكية (دلتا كريسنت إنرجي) لاستخراج النفط من المنطقة، والتي لم تنتقل من مجرد كونها علاقة سياسية إلى الواقع الاقتصادي التجاري. وقد كان من الأهمية هنا للإدارة الذاتية، العمل على إقناع مسؤولي الإدارة الأمريكية الموفدين إلى المنطقة للعمل على نقل الاتفاقية إلى بعدها الاقتصادي، ومساعدتهم على جلب شركات كبرى لتطوير هذا القطاع الحيوي، ونقل ما يقال على أن هناك مخطط لبناء مصفاتي نفط في منطقة رميلان إلى الواقع العملي…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
23/1/2022م