مقدمة
اخذ تاريخ العراق له مسارات من نوع غير مألوف ابدا بعد ان اهتز اهتزازا شديدا غجر 14 تموز / يوليو 1958 . ومنذ اليوم الاول للعهد الجديد ، بدأت الحرب معلنة على الوضع السياسي ، بحدوث خلل بين الزعماء الجدد من العسكريين وهم لايفقهون شيئا في السياسة العراقية ، وانقسم العراق الى تيارين اثنين : تيار عراقي صرف يقوده عبد الكريم قاسم . وتيار قومي عربي يقوده حليفه عبد السلام عارف .. وبقدر ما وجد قاسم التأييد من قوى اليسار بقايا جماعة الاهالي والوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين والبارتيين .. الخ ، وجد الثاني التأييد من القوميين والناصريين والبعثيين والحركيين والاسلاميين وبقايا حزب الاستقلال .. الخ ، وعندما اعتقل عارف من قبل قاسم بعد خلاف شديد بين الاثنين ، زادت حدة الانقسام بين الاتجاهين السياسيين في العراق ..
وقد دفع العراق نهرا من الدماء نتيجة ذلك الانقسام السياسي الذي أضر بالصالح التاريخي العام وادخل البلاد في متاهة الفوضى والضعف والتمردات .. وبقدر ما كان الزعيم قاسم يؤمن بالعراق وطنا له خصوصيته واولوياته ، بقدر ما اتهم من قبل خصومه بعدو القومية العربية والوحدة العربية ووصف بالشعوبية والمكر والخداع . وكان هناك من يذكي النار العراقية من خلال الاذاعات والصحف والمجلات في حرب باردة صارخة عربية . وخير من عبّر شعبويا عن انتقال العراق بين زمنين او بين نظامين شاعر مجهول من الفرات الاوسط اسمه حيحي من آل فتلة ، والذي قال في مناسبة تتويج فيصل الثاني عام 1953 ، وهو يلمّح بشكل واضح للانقسام الذي كان يعيشه العراقيون :
عراقنا حزبين يا هل ناس
حزب لابن الوليد وحزب لابن العاص
سمجتنا يا فيصل خاست من الراس
اتوّج بالله اتّوج .. بلكت تلحك عالذنبات !
وفي زمن جديد كان يتزعم العراق فيه عبد الكريم قاسم ، قال الشاعر نفسه ، وهو يصف الحال وعبد الكريم معا :
من عكب ماي المقطّر ، كمت أشرب ماي آبار
وصارت حكة الحنطة بربع دينار
كل عشرة أبشّت صرنا وأحنا أحرار
من ميلة حظه وحظنا وياه .. هو يسولف ونحن انصدّج بيه
( المقطعان رواهما لي الصديق الاستاذ الدكتور فاضل السعدوني منذ عشرين سنة مضت )
14 تموز 1958 من حركة انقلابية الى ثورة شعبية
لا اريد ان احلل العوامل والاسباب وراء قيام الحدث ، فقد كتب عنها الكثير ، ولكن ما يهمني اليوم رصد طبيعة هذا الحدث المفاجئ الذي هزّ العالم ، وبدء تاريخ جمهوري جديد بعد تاريخ ملكي قديم ، وتبدّل الرموز والاشباح بين زمنين أثنين .. وتحوّل العراقيين من حالة الى سلسلة حالات سنرصدها عن كثب لاحقا .. ففي نهاية الخمسينيات ، دوى انفجار مرّوع فجر 14 تموز / يوليو 1958 ، بقلب نظام الحكم الملكي في حركة انقلابية سريعة قادها كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ومن ورائهما مجموعة من الضباط الذين اسموا انفسهم بـ ( الاحرار ) ، وسرعان ما غدت 14 تموز ثورة شعبية هادرة ، اذ هبّ الناس لتأييدها ، وقتل الملك فيصل الثاني وعبد الاله والعائلة المالكة ونوري السعيد ( وسحل في الشوارع مع الامير عبدالاله ومثّل بجثتيهما وجثث اخرى لأناس قتلوا في عنفوان الحدث ) في مجزرة دموية راح ضحيتها العديد من الابرياء ، وحوكم عدد من رموز العهد الملكي من قبل محكمة الشعب التي ترأسها ابن خالة الزعيم قاسم واسمه العقيد فاضل عباس المهداوي واعدم وزير الداخلية سعيد قزاز وجماعته من وزارة الداخلية ، واعتقل وتشرد المئات من كبار السياسيين القدماء سواء كانوا من المدنيين والعسكريين وهم اعيان ووزراء وسفراء وقادة كانوا من المحسوبين على النظام القديم الذي اسمي بـ ” العهد البائد ” ، وأهين عدد آخر من رموز العراق القديمة والضباط على ايدي ميليشيا المقاومة الشعبية باسم الجمهورية ( الخاكية) – حسب توصيف عبد السلام عارف ، و ” الخالدة ” – حسب توصيف عبد الكريم قاسم .. واستقبل الملا مصطفى البارزاني في بغداد استقبالا كبيرا بعد ان جاء من منفاه في الاتحاد السوفييتي رفقة المئات من الساسة الكرد مع زوجاتهم ، ومنح له قصر نوري السعيد في الصالحية ليقيم فيه ، وقد اعلن البارزاني امتعاضه من قاسم بعد خروجه من مقابلته الاولى له .. وبعد مرور فترة زمنية قصيرة ، اعلن البارزاني تمرده المسلح وثورته الكردية على حكم قاسم ، فقام الاخير بضربه من خلال الجيش بطائرات هوكر هنتر 1961 ..
لقد فقدت الدولة هيبتها في العراق منذ الساعات الاولى للثورة ، فليس من العقل ان يتمّ تحريض الناس عبر الاذاعة على الهياج والتمرّد وممارسة النهب والقتل .. وليس من الهين على الحكام الجدد ضبط الامور في الساعات الاولى حتى تم اعلان الزعيم قاسم منع التجول كي لا تنفلت الامور من ايدي المسؤولين الجدد في مخاض دموي بشع .. ان كل الذين التقيت بهم من اهالي بغداد عندما كانوا مراهقين او صبيانا او شبابا الا وقالوا : لقد خرجنا الى الشوارع وكل واحد منهم يصّور مشاهد ما علق في ذاكرته عن سحل كل من عبد الاله ونوري السعيد بتوصيف مثير للقرف !!
وجرت تصفية حسابات تاريخية مبعثها انقسامات اجتماعية وصراعات طبقية وفوارق ثقافية .. اذ كانت النقمة قد وصلت اعلى درجاتها عند الناس جراء التعبئة السياسية والاعلامية المضادة .. فضلا عن كبار المسؤولين في النظام الملكي لم يدركوا خطورة التبدلات السياسية في العالم ، ناهيكم عن ان القوى السياسية المعارضة عبرت عن نفسها باسم التقدمية واليسارية والقومية العربية ضد الظلم والرجعية الملكية والاحلاف والعمالة للاستعمار والتحالف مع شيوخ العشائر .. الخ من الاتهامات السياسية ( التي لم تستطع الانظمة الجمهورية كلها القضاء عليها حتى اليوم ) . لقد تحّول العراق من ايدي ديناصورات في السياسة الى ايدي مراهقين وعساكر لا تفهم شيئا في السياسة وشؤون الحكم والادارة ، وخير دليل على فقدان هيبة رجال الدولة ما عبر عنه عبد السلام عارف في خطاباته البهلوانية !
الاسئلة الحائرة
1/ لماذا بقي الانقسام بين العراقيين في تقويم هذا الحدث الكبير حتى يومنا هذا ؟ بمعنى انهم لم يتفقوا حتى اليوم على قواسم مشتركة في تقويم التاريخ .
2/ هل كان للجمهوريين اي منهج سياسي حقيقي يقضي على آفات المجتمع العراقي المزمنة ؟ واذا كانت الامم الاخرى تجد في علمها رمزا ثابتا لها ولدولتها وشعبها ، فان العراقيين قاموا بتغيير علمهم وشعار دولتهم بعد تبدّل كل نظام سياسي ، مما يدّل على اضطرابهم وانعدام تمييزهم بين الدولة وانظمتها السياسية !!
3/ هل حوربت هذه الثورة ، ام انها حملت في جوفها بذرة الانقسام لدى كل من قائديها الاثنين ، فانقسم الشعب بانقسامهما ، مّما جرّ بعد ذلك الى فواجع وكوارث وحروب واحتلالات ؟
4/ هل كان الحدث احد نتاجات الحرب الباردة في العالم ابان الخمسينيات على غرار احداث عام 1941 في العراق والتي عدت احد نتاجات الحرب العالمية الثانية ؟
5/ السؤال الاخطر : ما دور القوى الخارجية في صنع الحدث ، وخصوصا بريطانيا والولايات المتحدة والجمهورية العربية المتحدة اي دور عبد الناصر بالذات الذي لم ينكره أحد أبدا ؟
6/ ان معلومات متناقضة شتى عمن اتخذ قرار تصفية العائلة المالكة فجر 14 تموز 1958 ، ( وقتل الملك الشاب البرئ بالذات ) ، ولكن ما دام لم يعلن أحد من المسؤولين الجمهوريين عن تبرؤه من ذلك على مدى سنوات لاحقة ، فان المسؤولية تطال الضباط الاحرار أنفسهم ، وخصوصا قاسم وعارف ؟
7/ ولكن ثمة اسئلة اخرى تقول : من سمح بتسليم جثة الامير عبد الاله الى الجماهير الغاضبة لسحلها وتقطيعها اربا اربا ؟ ولماذا تم الاحتفاظ بجثة الملك فيصل الثاني وايصالها الى المستشفى دون ان تسلّم هي الاخرى الى الغاضبين ؟
8/ وسؤال آخر يقول : لماذا تمّت تصفية الجميع بالرصاص حتى الخدم ، في حين تبقى الاميرة هيام ابنة امير قبيلة ربيعة وزوجة عبد الاله حية ترزق لم تقتل ، وقد عاشت طويلا بعد ذلك اذ اقترنت بابن عمها ، اذ يقال انها رحلت قبل سنتين او ثلاث في العراق – رحمها الله – ولا ندري هل تركت اية مذكرات او اجوبة وافية عما جرى في تلك اللحظات التاريخية العصيبة من فجر 14 تموز ؟
9/ مر على الحدث اكثر من ستين عاما ولم يزل الشعب العراقي على انقسامه بين مؤيد ل 14 تموز وبين معارض له ! بل وان بعضا ممن شارك في الحدث وكان شابا صغيرا ، غدا اليوم مخالف لمشاركته اياه ، خصوصا وانه بات يقرن ما كانت عليه الاوضاع على العهد الملكي لما آلت اليه على العهود الجمهورية ..
10/ واخيرا ، اعتقد ان الزمن كفيل بفرز المواقف ، ومجئ اجيال قادمة ستكون هي صاحبة الحكم تاريخيا لا اجيالنا المعاصرة فقط التي فجعتها السياسات والمؤدلجات والشعارات ، اذ ان تفاصيل الحدث لم تزل تعالج سياسيا بعيدا عن التاريخ .
تنشر هذه الحلقة بتاريخ 22 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 على موقع الدكتور سيار الجميل
http://sayyaraljamil.com/
انتظروا الحلقة 8 القادمة من اجل فهم رموز واشباح عهد عبد الكريم قاسم