في الذكرى السنوية الخامسة لانعقاد مؤتمر “أصدقاء برطلة
ضد التغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين الأصلية في العراق“
منذ ان استولت الطغمة البعثية المتطرفة على حكم العراق في انقلابها الفاشي في 8 شباط عام 1963، إذا أغفلنا ما حصل للعائلات المسيحية في العام 1959 في أعقاب فشل مؤامرة العقيد عبد الوهاب الشواف، بدأت واحدة من أكثر العمليات الهادفة تحقيق التغيير السكاني (الديمغرافي) الفعلي في مناطق سكن وعمل المسيحيين التاريخية، في قرى وأرياف سهل نينوى والموصل، والتي تواصلت في فترة حكم القوميين اليمينيين أيضاً، ثم اتخذت أبعاداً جديدة بعد أن استولى حزب البعث ثانية على الحكم في العام 1968 وفرضه الدكتاتورية المطلقة على البلاد ومارسته سياسات معادية للأثنيات الأخرى إلى حين إسقاطه على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا بخلاف موقف مجلس الأمن الدولي والشرعية الدولية. مارس حزب البعث في هذه الفترة عمليات تغيير سكانية عبر إطفاء الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مناطق سكنية يجري بيعها وتمليكها لمن هم من غير أبناء المنطقة، ولاسيما لعائلات من نينوى وجنوب العراق وإسكانهم فيها، فقد جاء في مقال للناشط في مجال حقوق الإنسان السيد وليم وردة، وورد النص ذاته في مقال للناشطة السياسية وحقوق الإنسان الدكتورة كاترين ميخائيل، ما يلي:
لقد عمد النظام السابق إلى أسلوب إطفاء الأراضي الزراعية في قرى ونواحي وأقضية المسيحيين لغرض تحويل صنفها من زراعي إلى سكني. وتتم هذه العملية بالرغم من إرادة سكان المنطقة وضد مصالحهم وبدون تعويض يذكر. وحين يتم التعويض فيكون رمزياً مما دفع الأهالي إلى رفض تسلم مبلغ التعويض. وكان النظام السابق يوزع تلك الأراضي التي تم إطفاؤها على رجال المخابرات والأمن وحاشية ومريدي النظام ورأسه. وكان هذا الإجراء يعني دخول أناس من مناطق أخرى، وأغلبهم من المسلمين إلى مناطق المسيحيين. والوثائق تشير إلى بيع تلك الأراضي على سبيل المثال لا الحصر الى جماعات من الشرقاط والقيارة وربيعة ليأتوا ويبنوا مساكن لهم في تلكيف والحمدانية مما جلب ذلك معه الكثير من المشكلات الاجتماعية. وإذ تم إلغاء قرارات مجلس قيادة الثورة على عموم العراق فيما عدا محافظة نينوى التي التزمت حتى الآن بتطبيق مضمون قرارين سيئين هما القرار 111 لسنة 1995 والقرار 117 لسنة 2000, وهما يعنيان الاستمرار بإطفاء الأراضي الزراعية وتحويل صنفها إلى أراض سكنية وتوزيعها على مستفيدين من مناطق أخرى ومن غير المسيحيين.” (راجع: وليم وردة، من أجل إيقاف عمليات التغيير الديمغرافي لمناطق مسيحيي العراق، موقع منظمة حمورابي لحقوق الإنسان، وراجع أيضاً، د. كاترين ميخائيل، التغيير الديمغرافي مرض مزمن في العراق، صحيفة المثقف. 19/11/2018).
وبعد إسقاط الدكتاتورية توقع الكثير من المسيحيين، ولاسيما الجماعات التي أيدت الحرب ضد الدكتاتورية البعثية، وعموم الشعب العراقي، بأن الأوضاع ستتجه صوب الأفضل وستتوقف عمليات التغيير الديمغرافي لمناطق سكن وأراضي المسيحيين أولاً، ثم يستعيد المسيحيون لما نهب من بيوتهم وأراضيهم الزراعية وعقاراتهم بأساليب كثيرة وخارج الشرعية الدستورية ثانياً، ويتمتعون مع بقية أبناء وبنات الشعب بالرحة والاستقرار والكرامة والتقدم ثالثاً. ولكن، ما حصل هو العكس من ذلك تماماً، وهو ما توقعت حصوله في أكثر من دراسة ومقال ومحاضرة وندوة أجريتها قبل بدء حرب عام 2003، إذ تعرض المسيحيون أينما كانوا في العراق إلى نهب جديد وبأساليب مختلفة، بما فيها ممارسة التهديد والإرهاب والقتل والتشريد. وهو الذي دفعني ومجموعة من العراقيات والعراقيين التقدميين والديمقراطيين إلى تأسيس “هيأة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق في العام 2004 للتنبيه والتحذير عما يمكن أن يحصل من عدوان واضطهاد ضد أتباع الديانات والمذاهب وصراعات طائفية مميتة، ووقد حصل ما كنا نخشاه فعلاً وما يزال مستمراً بأشكال مختلفة.
يمكن إيراد عشرات الأمثلة عما جرى في الموصل وسهل نينوى وكركوك والبصرة وبغداد خلال الفترة بين 2004-2014، إذ تعرضت دورهم وكنائسهم للتدمير وإشعار النيران فيها واختطف وقتل الكثير من القساوسة والمواطنات والمواطنين المسيحيين قبل اجتياح داعش للموصل وسهل نينوى. وقد عمد الإرهابيون، ومنها أعضاء الميليشيات الطائفية المسلحة، إلى بث الرعب في نفوس المسيحيات والمسيحيين وإجبارهم عل ترك دورهم أو بيعها بأبخس الأثمان والهروب بجلودهم. وما حصل بعد ذلك كان أقسى وأشد، إذ ارُتكبت جرائم بشعة ضد الإنسانية وإبادة جماعية للإيزيديين بشكل خاص، وللمسيحيين وللشبك والتركمان. لقد سقطت محافظة نينوى كلها تحت الاحتلال الوحشي لعصابات داعش الإرهابية التكفيرية المجرمة، ومورست كل الموبقات والبشاعات والقتل والاغتصاب والسبي وبيع الآلاف من النساء الإيزيديات بسوق النخاسة “الإسلامي“، وشُرد مئات الألوف من الناس الأبرياء، وتقلص عدد المسيحيين والإيزيديين في العرق بنسبة كبيرة جداً. كما دمرت أجزاء كثيرة وكبيرة من الموصل وسهل نينوى، بحيث أصبح الكثير من المنازل والمحلات غير قابل للعيش والعمل، ويفترض إعادة البناء بشكل كامل تقريباً.
حتى يومنا هذا لم يعمد القضاء العراق ولا الادعاء العام إلى محاسبة ومحاكمة من كان مسؤولاً عما جرى ضد المسيحيين في الفترة بين 2004-2014 أولاً، ولا الذين كانوا السبب وراء اجتياح الموصل وسهل نينوى في 10 حزيران/يونيو من عام 2014 وما بعده، وأعني بهم رئيس وأعضاء الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة والقيادات العسكرية وبقية المسؤولين ثانياً، مما ساعد على ارتكاب عمليات تغيير سكاني جديدة في الموصل وسهل نينوى حتى بعد تحريرها من أيدي الأوباش الدواعش. لقد كان المواطنون المسيحيون والمسيحيات يتوقعون تحسن الوضع بعد تحرير المنطقة من العصابات التي دنست أرض الوطن وداست على كرامة البشر فيها. ولكن توقعات الناس خابت تماماً ومنيت بالفشل مرة أخرى، ولاسيما بالنسبة لمسيحيات ومسيحيي العراق. فماذا يجري الآن في مناطق المسيحيين؟ سأترك الحديث هنا إلى عدد من الوقائع التي يؤكدها أصحاب الأرض من بنات وأبناء الوطن المستباح بالطائفية والمليشيات الطائفية المسلحة والحشد وسياسات التمييز الديني والمذهبي والفساد الالي والإداري؟ اليكم بعض الوقائع المهمة، وهو جزي قليل من كثير جداً:
** “حذّر المطران شليمون وردوني، مدير أبرشية بغداد للكلدان من ان هناك مشكلة حقيقية وخطيرة تتعلق بتزوير تبعية أملاك عقارية تعود لمسيحيين، مشيرا الى أن الحكومة تمكنت من إيقاف 50 عملية بيع مزورة لعقارات مملوكة لمسيحيين في سهل نينوى حتى الآن، كما قال إن هناك ما يقارب 350 عملية مناقلة بيع مزورة على الاقل تتم متابعتها، مؤكداً أن الكنيسة الكاثوليكية تحاول جاهدة المساعدة في إرجاع الاملاك لأصحابها ولكن المهمة صعبة.” ويواصل المطران رودني فيؤكد: “المسيحيون في سهل نينوى يتهمون ميليشيا الحشد الشعبي بالعمل على تغيير ديموغرافية مناطقهم بجلب سكان من الشبك الشيعة وإسكانهم فيها. كاميرا “العربية” زارت أبرشية “مار متى” التاريخية في السهل ونقلت معاناة المسيحيين مع الحشد بعد تقطع السبل بهم. (راجع: الحكومة تتابع 350 قضيّة تزوير للاستحواذ على أملاك المسيحيين، جريدة المدى، رقم العدد: 4313، في 11/18/2018).
** بالرغم من تحمسه للعودة إلى بيته في بلدة “بغديدا” جنوب الموصل، فإن “زيا عزيز” البالغ من العمر 43 عامًا، لم يقضِ أكثر من أسبوع واحد هناك، قبل أن يعود مرة أخرى إلى ناحية “عنكاوا” في “أربيل”؛ خوفًا على عائلته من التهديدات الواسعة، التي يقول: إنها تطال المسيحيين على أيدي عناصر “لواء الشبك” التابع لـ”الحشد الشعبي”، ووصلت إلى حد التحرش بالنساء“. (راجع: رولا الخطيب، مسيحيو العراق.. تغيير ديمغرافي تنفذه “الحشد” بسهل نينوى، موقع العربية نت، 1 شباط/فبراير 2018).
** ” وكان النائب المسيحي “جوزيف صليوا” قد وجه في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي (2017) خطاباً إلى رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي“، طالباً منه التصدي لحالات الاعتداء التي تحصل على النساء المسيحيات في وضح النهار، من قبل عناصر اللواء 30 التابع لميليشيا “الحشد الشبكي”، متهماً إياهم بالقيام بجرائم بشعة بحقهن. واتهم “صليوا” في لقاء مُتَلْفَز –تابعته “وكالة يقين”– عناصر ميليشيا الحشد؛ باستغلال مواقعها لتحقيق تغيير ديموغرافي في قضاء “الحمدانية” شرق الموصل، مبيناً أن أبناء “المكون الشبكي” يسعون لبناء منازل بشكل تجاوزات غير قانونية، في أراضٍ تابعة للمؤسسات الحكومية. (راجع: سهل نينوى.. ميليشيا الحشد تهدد باقتلاع المسيحيين من موطنهم التاريخي، موقع وكالة يقين للأنباء، قسم التقارير–نينوى، في 29 أذار/ مارس 2018).
** ويتفق مع النائب “صليوا” في هذا الموضوع؛ مدير شؤون المسيحيين في وزارة الأوقاف بحكومة إقليم كردستان “خالد البير”، والذي أكد وجود عملية مستمرة لنقل عوائل من الوسط والجنوب؛ لإسكانهم في منطقة “برطلة” ضمن “سهل نينوى”، وأن هناك مجمعات سكنية يتم بناؤها هناك، وبشكل سريع لهذا الغرض.” (المصدر السابق نفسه).
** “وفي بلدة برطلة ايضاً ذات الغالبية المسيحية تم الاستحواذ على بعض الأراضي، وكتابة عبارات طائفية مستفزة على جدران البلدة كـ(برطلة للشبك)، بالإضافة إلى ترهيب السكان واجبارهم على بيع ممتلكاتهم، وكل هذه الممارسات كان الهدف الاساس منها إبعاد مسيحييّ برطلة عن مناطقهم، وفرض نفوذ الشبك الشيعة على هذه المناطق، وفي وقت سابق بنى هؤلاء مدرسة في البلدة اطلقوا عليها اسم (الخميني) وذلك امعاناً في سياسة التغيير الديموغرافي والتضييق على مسيحيي المنطقة، وهذا التغلغل المباشر متواجد حتى هذه اللحظة بطرق مدعومة من قبل قوى عراقية مشاركة في السلطة، ودول مجاورة. (راجع: المرصد الآشوري: التغيير الديموغرافي بحق قرى وبلدات مسيحية في شمال العراق مستمرّ…، عشتارتيفي كوم، بتاريخ 06/12/2017).
** قال عضو الهيئة القيادية في التجمع السياسي الكلداني السرياني الآشوري صباح ميخائيل في حديث لـ“السومرية نيوز“، إن “مناطق المسيحيين في سهل نينوى تتعرض لتجاوزات وعمليات تغيير ديمغرافي من خلال التحايل القانوني وتنفيذ المشاريع الخدمية“، مبيناً بأن “استمرار هذه السياسة يهدد الوجود المسيحي في العراق“. وأضاف ميخائيل أن “المسيحيين في منطقة سهل نينوى يعانون من التهميش وقلة الخدمات والبطالة“، داعيا “الجهات الحكومية والسياسية بترجمة وعودهم لحماية حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى على أرض الواقع“. (المصدر السابق نفسه).
ومن الجدير بالإشارة إلى أن عام 2013 شهد انعقاد المؤتمر الأول لأصدقاء برطلة على مدى يومين في كل من أربيل وبرطلة بسهل نينوى وتحت شعار “لا للتغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين الأصلية في العراق“. حضر جلسة الافتتاح المئات من العراقيات والعراقيين من مختلف أنحاء العراق، وكنت حينها رئيساً لمكتب اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر, وبعد المؤتمر قدمنا مجموعة كبيرة من الوثائق حول التغيير الديمغرافي لرئيس إقليم كردستان، السيد مسعود بارزاني، في لقاء مباشر بمقره في “سر رش” صلاح الدين، كما وضعنا الحكومة المركزية ومجلس النواب والقضاء العراقي أمام مسؤولياتهم بشأن هذه المشكلة، إضافة إلى توجيه رسالة إلى السيد عمار الحكيم، إذ كان من العاملين على شراء دور السكن والأراضي من المسيحيين وبأسعار خيالية في برطلة لصالح عائلات من الشبك وبأموال قيل أنها كانت قادمة من الحكومة الإيرانية. كما صدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات المهمة. ولكن لم يجر أي تغيير في الموقف ولم تتوقف عمليات التغيير الديمغرافي في مناطق المسيحيين وفي غير صالحهم، بل يمكن تقديم الأدلة على إن المشكلة تتخذ اليوم أبعادا جديدة بعد تحرير المنطقة من عصابات داعش، إذ تساهم قوى حكومية وجماعات الحشد الشعبي بهذه العملية المخالفة للدستور العراقي وحقوق الإنسان وقرارات مجلس القضاء الأعلى. ومن هنا نؤكد مجدداً على أهمية وضرورة تعبئة الرأي العام العراقي والقوى الخيرة في الذكرى السنوية الخامسة لمؤتمر أصدقاء برطلة ضد الأفعال الإجرامية التي تزيد من آلام وكوارث وأحزان مواطناتنا ومواطنينا المسيحيين وتدفع بهم إلى ترك العرق، موطنهم الأصلي، والهجرة إلى دول الشتات العراقي، وهي كارثة حقيقة جديدة يمكن أن تحيق بالشعب العراقي المستباح بالطائفية والفساد وأنواع جديدة من الإرهاب.
وأخيراً أرى ضرورة عقد المؤتمر الثاني لأصدقاء برطلة لطرح الموقف إزاء ما يجري من تغيير ديمغرافي ف مناطق المسيحيين أولاً، والأوضاع البائسة التي لا يزال يعيش تحت وطأتها النازحون، إضافة إل نقص شديد في الخدمات وعدم اهتمام الدولة والرأي العام العراقي والعالمي لأوضاع المسيحيين واتباع الديانات الأخرى في العراق من غير المسلمين، سوا أكانوا من الشيعة أم السنة، واقترح أن يكون في ربيع عام 2019 في أربيل وفي إحدى بلدات سهل نينوى.
كاظم حبيب، في 20/11/2018