يستذكر العراقيون يوم 8 شباط من كل عام أحداث جريمة انقلاب شباط الدموي عام 1963. حيث قام الانقلابيون باعتقال الاف الوطنيين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب والتصفيات بأبشع وسائل التعذيب الفاشية، فخسر العراق خيرة أبنائه الوطنيين. وكانت عائلتنا الصغيرة من بين آلاف العوائل العراقية التي تعرضت لحملة الانقلابيين في إرهابهم البربري.
تناول والدي -طيب الله ثراه- بتواضع وحذر شديد بعض أحداث وتبعات هذا الانقلاب الدموي، ولكنه حاول أن يكون حذرا وتجنب الكثير من التفاصيل والشواهد بسبب ما كان يتعرض له من مضايقات وضغوط مستمرة من الأجهزة الأمنية البعثية والعارفية … تكللت جهودي بجمع مخطوطات الوالد -ذكريات معلم- ونقلها على الوورد ومن ثم مراجعتها وتنقيحها وإملاء الفراغات الضرورية، وطباعتها عام 2012 بعنوان (الرائد علي محمد الشبيبي/ ذكريات التنوير والمكابدة). وللأسف كان نشرها جداً محدودا لضعف إمكانياتي وعدم تواجدي في الوطن. وفي عام 2021 عرض عليّ الاستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة دار المدى بإعادة طباعة ونشر المذكرات وفاءً منه للوالد، فوافقته شاكرا مبادرته الطيبة. وهكذا صدرت الطبعة الثانية عام 2021 من دار المدى مشكورة لهذه المبادرة الرائدة بحلة جديدة تم فيها تنقيح الأخطاء الفنية والتقنية التي وقعت فيها الطبعة الأولى، وهي متوفرة الآن في بيت المدى في شارع المتنبي (بغداد) أو في غيرها من المكتبات التي تتعامل مع دار المدى في المدن الأخرى. سأنشر بعض ما كتبه الوالد عن أحداث انقلاب شباط وتبعاته.
السويد/ 7 شباط 2022
محمد علي الشبيبي
دور المتهم البريء
طالب يدعى “رزاق …”. كان قد دعي قبل يومين للتحقيق. أُعيد اليوم، قالوا أنه من طلاب دار المعلمين وانه مسؤول تنظيم الطلبة. كان يبدو حزينا، كاسف الوجه. لم يكلم أحد ولم يرد على أحد، أهوى على فراشه متهالكا، ومنكبا على وجهه. حاول بعضهم أن يفهم شيئا من أمره. لم يجب. لكنه أشار إلى ظهره. إنه قد جلد جلدا وحشياً. فاجري له من قبل بعض الموقوفين تدليك بمادة مهدئة. ثم جاء المنادي، دعا بأسماء عدد من الطلبة الموقوفين. هو إذن من أباح بأسمائهم. وتظاهر بالتهالك كيلا يستجوب من الآخرين.
ليلا في الساعة 11 نقلت مع عدد من الموقوفين إلى بناية المكتبة العامة. في الغرفة التي دفعت إليها وجدت ثلاثة موقوفين، أحدهم أعرف انه يدعى “جاسم أبو الثلج” الثاني عرفني بنفسه إنه مدرس وزميل لأبني كفاح، الثالث مصلح دراجات يدعى غازي البايسكلجي. المدرس مختص بعلم النفس. الذين يدرسون علم النفس قلقون. ربما حتى فلاسفتهم كذلك. كان يدخن كثيرا، ويغطي وجهه ببطانية وينفث الدخان فيختنق ويظل يسعل. ويسائلني بقلق: أنا مالي علاقة بأحد، ماذا سيسألوني. أنا لم أشترك بتنظيم. لا أعرف أحدا إلا المدرسين زملائي، ابنك كفاح صديقي، صداقة فقط.
البايسكلجي غير مكترث، يبدو أنه مطمئن لأمر. وقد نودي وعاد مبتسما، وهمس في إذني: لي بالخيالة فارس، بشرني بالخير.أبو الثلج نودي، ومرت ساعة عادوا به. كانت بجامته حمراء من جانب ظهره، إحدى قدميه سحبها سحبا. وطرح على فراشه. كان يتكلم بجرأة، معاتباً مسؤول الحرس القومي عبد الواحد شمس الدين: نسيت عبد الواحد أيام عشنا سوية أنا وأنت يوم كنا موقوفين في عهد قاسم. قاسم لم يعذبنا وقمت لك بخدمات ومساعدة. أنا ابن كربلاء وأنت من العمارة. هذا ليس مهما. المهم إن كلينا يحمل أفكارا فكيف اُعذب. كسرتم عظم الحوض مني، ورسغ يدي اليسرى! عبد الواحد يرد عليه: أفكاركم وباء، ونحن لا نمسك بسوء لو انك كشفت لنا تنظيم الشيوعيين! عبد الواحد شمس الدين كان مسؤول منظمة حزب البعث ومسؤول الحرس القومي في كربلاء.
بعد أيام جاء دوري. جاء محيي يحمل بيده سوطا مظفورا من أسلاك الكهرباء البلاستك أحد طرفيه عقدة كالكرة. كان يمشي خلفي ويلوح بالسوط فوق رأسي، فيئز السوط وكأنه يدوي. وقال: اتجه باتجاه مرمى السوط. ورماه إلى غرفة. كان فيها طاولة خلفها ثلاثة كراسي ومن جانب كرسي واحد. عرفت إذن أين أجلس! حضر أعضاء اللجنة هم كل من حميد القرعاوي، ومدير المعارف جعفر السوداني، والمعلم كاظم الفرطوسي، وشاب من العمال يدعى محيي من أهالي المحمودية وأصبح رئيس إتحاد عمال كربلاء. جعفر السوداني، مدرس عينه الإنقلابيون مديرا لتربية كربلاء. وكاظم الفرطوسي معلم ولقي منه بعضهم قسوة وحشية. وقال بعض صحبه أنه هو الذي أنهى حياة الشاب “عبد الإله الرماحي” حيث توفي بعد أن عذب أشد العذاب، وأخذ ميتا إلى النجف ولا يعلم أحد أين دفن. ويقول بعض الحرس القومي أنه رمي في الآبار القديمة في طريق الكوفة. ومحيي عامل من أهالي المحمودية أصبح رئيس لإتحاد عمال كربلاء. صاح بي العامل:- خُذْ وأجب على الأسئلة تحريريا. قلت: لا، إنما إسألوا أولا فإن رضيتم بجوابي، أدونه. وافقوا. قال العامل: 1- جاوب عن علاقتك بالحزب الشيوعي؟ 2- مدى علاقة الحزب بالنقابة باعتبارك رئيسا للنقابة؟ 3- وماذا تعرف عن أنصار السلام؟
أجبت: يا سادة لديكم موقوفون من النجف ومن الكوفة ومن كربلاء، وأنا معلم في كربلاء منذ عام 1955، فإذا أعترف واحد من هذه المدن باني عضو في الحزب الشيوعي، نفذوا ما شئتم! عن النقابة، أنا انتخبت أيام جمعية المعلمين، وتنازلت عن الرئاسة للمدرس عبد الله الخطيب، وألغيت الجمعية وتألفت نقابة بدلها. ولم أرشح نفسي، لذا لا أعرف عن صلة الحزب بالجمعية أو النقابة. وإذا كان جائزا أن ينتمي البعثي مثل صالح الرشدي والقومي مثل عبد الإله النصراوي، والسيد يحيى نصر الله والدكتور هادي الطويل من الحزب الوطني الديمقراطي لحركة أنصار السلام، فما المانع أن أؤيد الحركة أنا الذي لا أنتسب لأية فئة سياسية إنما هي علاقة شخصية صرف ومع كثير ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة.
الفرطوسي عقب: وسابقا؟. قلتُ: ذاك زمن كنتَ أنت ما تزال طفلا دون المدرسة. وقد انسحبت من تلقاء نفسي! ردّ عليّ، وما السبب؟ أجبتُ، الجواب هذه الحال التي فيها الآن هذا العدد العديد. الغربيون حتى الدول الاستعمارية فيها مختلف الأحزاب بما فيها -الشيوعي-! قال القرعاوي، أنا أعرف انك لست منظما إلى حزب.
وعدت إلى مكاني دون أن يستكتبوني شيئا. استوى المدرس جالسا وأخذ يستوضح عن تحقيقهم. وسألوك ولم يضربوك؟ آنه ما عندي شيء، صحيح مشيت معهم! وجيء بموقوفين من الذين سبق وأودعوهم في سجن الحلة وبدأوا استجوابهم. فتى من العمال يدعى جواد شخاطة كان ظهره مدمي من الضرب. أمر أن يبقى واقفا ليأخذوه -للمسلخ ثانية-!. ونودي على آخر يدعى نعمة شدهان كان ذا وجه صارم متجهم. وعادوا فاخذوا جواد شخاطة، تكرر عليه الضرب. وأعيد وقد انهارت قواه فما يستطيع وقوفا. يبدو أنه رضخ للاعتراف. الفرطوسي يحقق معه لكنه يئن ويقول: شكتب؟ ما أدري شكتب؟ خل أستريح! رد عليه، أعيدك حتى تعرف شتكتب! وبعد تهديد أخذ يكتب.
وفي هذه الأثناء جيء بنعمة شدهان. يسنده اثنان منهم. حين اجلس، قال الفرطوسي، ها نعمة؟ عندك استعداد تكتب؟ لكن نعمة لم يرد عليه. قال الفرطوسي، إني أعرف إن حزبك يعتمد عليك، ولشخصيتك تأثير قوي، بحيث لو حصل خراب بين عامل وزوجته وتوسع تكون أنت الوحيد اللي يقدر على مصالحتهم …! نعمة لا يجيب، ويصدر عنه أنين خافت. بعد فترة اخذ من جديد. وعادوا بعد نصف ساعة يحملونه ببطانية. غطوه. مرت ثلاثة أيام لم تبد منه حركة! قلت ربما مات الفتى. وعند كل وقت يرسل أهله إليه الطعام فيوضع جنبه ويقول من قدمه، أﮔـعد نعمة هذا طعامك!. إن جاؤا بالغداء أخذوا الفطور كما هو وأعادوه إلى من يجلب له الطعام. بعد ثلاثة أيام وهو مسجى لا تبد منه حركة ولا توجع، أخذوه، أين ذهبوا به، لا أعلم؟
الذين أجري معهم التحقيق، فرض عليهم أن لا يخرجوا من هذه الغرفة. وأخيرا سمح لنا. خرجت إلى المرافق، لعلي أجد سبيلا للاستحمام. هناك وجدت ما اقشعر له جسدي. وجدت نعمة شدهان مازال مسجى وحوله وتحته المياه القذرة. مازال بدون حراك. وأعادوني إلى الغرفة العامة التي كانت للكتب أيام كانت البناية “مكتبة عامة”. وجيء بفتى فلاح، يسنده اثنان من الحرس القومي، الدماء جافة على رأسه وظهره، الوجه أصفر. خلفهم الحرس القومي عبد الأمير منغص، الذي يرفع صوته محذرا أن يدنو منه أحد لمساعدته! الفتى المعذب أشار أن يريد التبول، فنهض أحد الموقوفين لمساعدته. وجاء منغص مسرعا بصق بوجه من ساعده، ثم ركض إلى المعذب ركله عدة ركلات بقدمه مع شتائم قذرة. الفلاح الفتى يدعى كاظم ناصر، عرفته بعد أمد في عام 1968، شاب جيد جدا ذا معلومات غير عادية مؤدب شهم ذكي، وتصرفه معقول. أما عبد الأمير منغص فخالي الوطاب، أرعن. وبعد أمد انتقم لنفسه منه شاب في إحدى ساحات كربلاء فأدمى فمه وهو يستغيث، وتداركه شرطي المرور وأنقذه منه بالتوسل.
حين كنت بغرفة التحقيق ذات يوم كان منغص هذا ينظف البندقية، حركها ولا يعلم أن فيها رصاص، فانطلقت واحدة. كنت أراقبه وكدت أكون الضحية. وليغطيّ خطأه صاح، طاحت بشيوعي جلب، خلي يولي، ذبوا بالشارع!. لكن آخر أنبه.
بعد أيام من الانقلاب الدموي، سيطرت منظمة حزب البعث على المكتبة العامة، لتحولها من دار للعلم إلى مركز للتحقيق والتعذيب وتحولت إلى مسلخ بشري. وقد كتبت في المكتبة عدة أبيات من الشعر بعنوان “قولي لأمك” اصف فيها حال دار العلم “المكتبة العامة”، التي أصبحت مسلخاً بشريا في ظل حكم خليط من بعثيين وقوميين يسندهم معنويا بعض المراجع الدينية الحاقدة على ثورة 14 تموز. للأسف لم أعثر على القصيدة كاملة. (للأسف أن والدي لم يسجل سوى بيتين من القصيدة! ويظهر أن الوالدة -وهي أمية- لم تحتفظ بالقصيدة خوفا من حملات التفتيش للأجهزة الأمنية، أو أنها فقدتها. ولكني مازلت أتذكر بعض الأبيات فهي تصف بدقة همجية الحرس القومي من بعثيين وقوميين. والقصيدة بعنوان “قولي لأمك” أنشر الأبيات التي ما أزال أتذكرها/ المحقق محمد علي الشبيبي).
قـولـي لأمـك أنـني | أقضي الليالي في عـذاب | |||
ويحوطني حـرس غلاظ | في بنـادقـهـم حراب | |||
وإذا سجا الليـل الثقيـل | كأنه يوم الحسـاب | |||
هوت العصي على جلود | الأبرياء من الشـباب | |||
فيعـلقون ويعذبون | مجرديـن من الثيـاب | |||
. . . . | ||||
أسفاً لـدار العلم بعد | العـلم تغدو للعذاب | |||
غرفاتها تحوي السلاسل | لا الـمطالع والكتاب | |||
والسوط قد خلف اليراع |
وعـنه في الـتعبير ناب | |||
. . . . | ||||
نيرون عاد بك الزمان |
لكي تشيع بنـا الخراب | |||
والحق أكبر أن يـداس | وأن يـمـرغ بالتـراب | |||
من (ذكريات التنوير والمكابدة) للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي