أنسداد سياسي، أستعصاء سياسي، مأزق سياسي، “بن بست سياسي” * وغيرها من التوصيفات التي تعبّر عن “عمق” الخلافات البنيوية لسلطة المحاصصة، ليست سوى ترجمة للأزمات التي تتناسل بشكل مستمر منذ الإحتلال لليوم. وبالحقيقة فأنّ أقطاب سلطة المحاصصة اليوم هي نفسها التي بنت وهي في المعارضة صورة وردية عن عراق ما بعد البعث، بقسوته وجوعه وفقره وأهداره للمال العام، والنتيجة بعد ترحيل البعث عن السلطة وأستقدامهم أي المعارضة للسلطة تبيّنّ أنّهم كانو يبنون لنا عراق كما قرى بوتمكين **. فالقسوة أستمرّت لتكون مجتمعية بأدارة هذه الأحزاب، والجوع بقى هو الآخر يحتل مكانته في المجتمع، والفقر زادت مساحته، أمّا هدر المال العام فحدّث ولا حرج، كل هذا وموارد الدولة زادت عمّا كان عهد البعث بمئات المرّات نتيجة أرتفاع اسعار البترول في السوق العالمية وزيادة أنتاجه وتصديره.
لقد برزت أنتفاضة تشرين كثورة ضد سلطة المحاصصة وقبرها، لبناء عراق حلم به أولئك الشابات والشباب. وقد أرعبت تلك الأنتفاضة اركان سلطة الفساد ووراءها دول اقليمية تريد أن يبقى الوضع السياسي هشّا وضعيفا، فعراق ضعيف يعني أستمرار هيمنة هذه الدول على مقدراته، وأستمراره كسوقا مفتوحة لبضائعهم. وقد نبّهت تلك الأنتفاضة قيادات هذه الأحزاب الى نقطة غاية بالأهميّة، وهي أنّ خلافاتهم مهما كانت كبيرة فأنّ أتفاقاتهم من تحت الطاولة أو من فوقها هو الأهم لديمومة سيطرتهم على الأوضاع السياسية بالبلاد، وبالتالي أستمرار عملية نهب ثروات البلد وبناء امبراطوريات مالية وأقتصادية على حساب مصالح الناس ومستقبلهم. وهذا يعني أنّ سلطة المحاصصة تريد كما الدول الأخرى عراق ضعيف وميّت سريريا، دون الأعلان الرسمي عن وفاته و خسارتها سرقاتها ونهبها للمال العام. فهل هذه القيادات فقدت رشدها، أو اصابها الجنون لتخسر مواقعها من أعلان وفاته وأصدار شهادة الوفاة تلك، لأنّ اعلان وفاة العراق يعني خسارة هذه الأحزاب لسلطتها، وبالتالي خسارتها للثروات التي تجنيها من خلال الفساد والرشاوى والأتاوات ..!؟
يريد البعض من المتابعين للشأن السياسي العراقي توصيف الوضع السياسي العراقي اليوم وبعد نتائج الأنتخابات الأخيرة، من أنّه دلالة على تفتت التحالفات القديمة، الشيعية – الشيعية، السنيّة – السنيّة، الكوردية – الكوردية، فهل الوضع هو كما وصف هؤلاء السادة، ونحن نعيش أزمة عدم تشكيل حكومة، وصراع على منصب غير ذي أهميّة كما منصب رئاسة الجمهورية؟ الحقيقة هي أننا نستطيع أن نرى على السطح شكل من أشكال هذه الخلافات، فهل هي جديّة، وهل نستطيع أن نراها في العمق؟ هنا علينا التوقف مليا مبتعدين عن الضجيج الأعلامي حول الخلافات بين البيوتات الحاكمة، لننظر الى الاسباب التي تعطّل تشكيل الحكومة، وهل هي اسباب نتجت وتنتج عن خلافات جوهرية على شكل الدولة ونظرتها للمجتمع وأدارتها للأقتصاد وتوفير حاجات الناس ليعيشوا بكرامة، أم أنّ الخلافات هي خلافات شخصية للهيمنة على المناصب الحكومية التي تدرّ أرباحا اكثر، كوننا نعيش بازار بمعنى الكلمة؟
يتحدث التيار الصدري اليوم عن حكومة أغلبية سياسية، فماذا تعني الأغلبية السياسية بنظره؟ علينا بداية التأكيد على أنّ الأغلبية السياسية التي يدعو اليها الصدر ليست أغلبية مطلقة، بل أغلبية نسبية أو بسيطة، وهذه قد تكون مفتاحا للبدأ بفتح أبواب مغلقة عديدة لو كانت هناك أرادة سياسية حقّة وقادرة على حسم الموقف بشكل جدي وصارم خدمة لمصالح شعبنا ووطننا. ودعوة الصدر لحكومة أغلبية سياسية تضم جزء من الكورد وهم جزء من نظام المحاصصة الطائفية القومية، وجزء من السنّة وهم أيضا جزء من نظام المحاصصة الطائفية القومية، وجزء من الأطار الشيعي وبالأحرى كل البيت الشيعي عدا المالكي وهم اساس نظام المحاصصة الطائفية القومية، هي ترجمة بلغة بسيطة لأنتاج نظام محاصصة طائفية قومية جديد، هذا أن كنا قد غادرنا هذا النظام اصلا.
الصدر وتياره اليوم أمام خيارين، أولهما هو رفض انضمام الأطار الشيعي باكمله في الحكومة القادمة، وهنا يكون قد أثبت للرأي العام العراقي قبل انصاره عدم أنصياعه لأوامر طهران، وهذا ما يمنحه مجالا اوسع للحركة والمناورة لتنفيذ ما طرحه أمام ناخبيه من شعارات، وأهمها حصر السلاح بيد الدولة ومحاربة الفساد وتقديم رؤوس عليها القيمة منهم الى القضاء لمحاكمتهم وأسترداد ما نهبوه، لكنّ ما هو موقف بقية حلفاءه في حالة أتخاذه لقراره هذا وبينهم اعداد كبيرة من الفاسدين الكبار؟
الخيار الثاني هو أن تكون كتلته وهي اكبر كتلة برلمانية ومعه المستقلين معارضة أيجابية حقيقية، أي تثمين أي قانون يساهم في أستقرار البلاد على مختلف الصعد، والعمل على سنّ قوانين تؤمّن مصالح الناس وتحافظ على ثروات البلاد. وبموازاة ذلك، تعمل على مراقبة أداء الحكومة مراقبة دقيقة ومحاربة الفساد وكشف ملفّات الفساد السابقة وملاحقة المتورطين فيه.
يبدو من خلال الصراعات الظاهرية التي تلقي بظلالها الخجولة على المسرح السياسي البائس اليوم، من أن السلطات في العراق ماضية في أنتاج الأزمات، وأنّ من يقودون البلاد ليسوا رجال دولة، والحكومة التي يعمل الصدر على تشكيلها ستضع أزمات البلاد في برّاد، لتعود تلك الأزمات من جديد بعد تشكيل الحكومة مباشرة وتقسيم الوزارات بين المنتصرين، نقول بين المنتصرين لأن المهزوم الوحيد في هذه المهزلة هو شعبنا المكتوي بأستهتار طبقة سياسية طفيلية وفاسدة بمقدارته ووطنه ….
الدروس المستوحاة من الأنتفاضة وسعتها المستقبلية هي من سترسم العراق الجديد، وليس صراع البيوتات الحاكمة.
* مصطلح فارسي، ويعني الطريق المسدود.
** قرى بوتمكين ” قرى زائفة أنشأها غريغوري بوتمكين على ضفاف نهر الدنيبر لخداع الإمبراطورة يكاترينا الثانية أثناء رحلتها للقرم.
زكي رضا
الدنمارك
14/4/2022