لا تتعلق أزمة أوكرانيا بمجرد تعرض أمن دولة ذات سيادة للتهديد فحسب؛ بل هي معركة من أجل فرض نظام عالمي جديد.
في هذه المعركة؛ يرقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مستوى التوقعات المتشائمة لصانعي السياسة والمحللين الغربيين.
وعلى عكس الرئيس الصيني شي جين بينغ؛ يسعى بوتين إلى قلب النظام العالمي الحالي، على الأقل فيما يتعلق بهيكل الأمن في أوروبا والقارة بأكملها، بينما يفضل شي ضمان مكانة الصين في النظام العالمي الحالي، الذي يطغى عليه هيمنة النفوذ الصيني، ولكنه من خلال ذلك يطمس بشكل خطير الخطوط الفاصلة بين النظام العالمي الحالي والتغييرات الجذرية الذي يمكن تطرأ عليه.
وحسب الرئيس وودرو ويلسون؛ فإذا كانت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى تهدف بالأساس “لجعل العالم آمنًا بهدف إرساء ديمقراطية”، فاليوم، يهدف بوتين “لجعل العالم آمنًا” للحكام المستبدين”، حسب ما قال الكاتب جدعون رحمان في صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية.
وما يشترك فيه بوتين وشي ويتقاسامانه مع مجموعة مهمة من قادة العالم الآخرين؛ بما في ذلك ناريندرا مودي في الهند والرئيس المجري فيكتور أوربان، والرئيس الأمريكي السابق دونالد جيه ترامب، هو أنهم يفكرون من الناحية الحضارية وليس الوطنية، وبذلك؛ فإنهم يحددون حدود أممهم في إطار حضاري بدلاً من إطار قانوني معترف بها دوليًّا.
هذا ما كان يتحدث عنه بوتين هذا الأسبوع، وهو جالس على كرسي والملل يكسو وجهه، لمدة 90 دقيقة، أعلن خلالها اعتراف روسيا بجمهوريتين أوكرانيتين منفصلتين؛ حيث تهدف نظرة بوتين للتاريخ إلى تبرير الانتهاكات المدعومة من روسيا على الأراضي الأوكرانية، وتحديد الحدود الحضارية لما يسميه هو العالم الروسي؛ حيث يتم تحديد حدود هذا العالم من خلال الروس أو أتباع الثقافة الروسية في أي منطقة معينة.
هذه هي الخلفية لاقتراح بوتين: أن أيًا من الدول التي ظهرت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي – باستثناء روسيا – ليست دولًا حقيقية وأن أوكرانيا لا تملك تقاليد تثبت أنها دولة راسخة، وذلك على غرار ما حدث عند تبرير صدام حسين لغزو العراق للكويت سنة 1990؛ فإن منطق بوتين يجرد معظم الدول في أوروبا وخارجها من الشرعية، وينطبق الشيء نفسه على مزاعم شي بشأن بحر الصين الجنوبي لتبرير الجهود التي يبذلها للسيطرة على الشتات الصيني العرقي.
كان ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، محقًّا عندما أشار مؤخرًا إلى أن هذه مجرد بداية للسياسات الداخلية والخارجية الاستبدادية للرئيس الروسي.
هذا لا يهم بوتين وغيره من القادة ذوي النعرة الحضارية الذين يرون أن في عالمهم القوة تمثل الحق.
ويُثبت اعتراف روسيا في سنة 2008 بجمهوريتين انفصاليتين في جورجيا، وضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، وتعزيز المتمردين الانفصاليين في منطقتي دونيتسك ولوهانسك في أوكرانيا، والوجود المؤقت – الذي تحول لدائم – لعدد كبير من القوات الروسية في بيلاروسيا هيمنة منطق القوة على فكر بوتين.
وما لم يلاحظه أحد هو أنه منذ سنة 2014؛ تحدث بوتين عن كازاخستان مستنكرًا تاريخها الوطني مثلما يفعل في الوقت الراهن مع أوكرانيا، وقبل أسابيع من تدخل القوات الروسية في وقت مبكر من هذه السنة في كازاخستان لقمع الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة ثم انسحابها سريعًا، استخدم بوتين سؤالًا لا صلة له بالموضوع الأساسي – طرحه تلفزيون كازاخستان – لتذكير جمهوره بأن “كازاخستان دولة ناطقة بالروسية بكل معنى الكلمة“.
لهذا السبب؛ كان ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، محقًّا عندما أشار مؤخرًا إلى أن هذه مجرد بداية للسياسات الداخلية والخارجية الاستبدادية للرئيس الروسي.
وعلاوة على ذلك؛ تبشر مزاعم بيسكوف بأنه بات هناك “طلبًا متزايدًا في العالم لقادة متميزين وذوي سيادة، وأصحاب قرارات حازمة” تكشف حقيقة أن بوتين أصبح نموذجًا لطبقة من قادة العالم لم تعد تجد من الضروري التشدق بسيادة القانون، وبالنسبة لهؤلاء القادة؛ يمثل الاستيلاء على الأراضي والتهديدات العسكرية وزعزعة الاستقرار والتضليل واغتيال المعارضين هي قواعد اللعبة الجديدة.
يمكن لفلاديمير بوتين، حتى الآن، أن ينظر إلى تأجيجه وتلاعبه بأزمة أوكرانيا على أنه نجاح رغم الإدانات الدولية الكثيرة لروسيا، كما كان واضحًا في مناقشة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والحذر الذي علقت به الصين على الأزمة.
ولنظرية بوتين عن المكانة المركزية لأوكرانيا في تأمين نفوذها على المسرح العالمي تاريخ طويل في القومية الروسية المتشددة؛ إنها فكرة اعترف بها كبار المسؤولين الأمريكيين بالفعل منذ عقود. وحيال هذا الشأن؛ أشار مستشار الأمن القومي البولندي زبيغنياف بزاجينسكي للرئيس جيمي كارتر في التسعينيات إلى أنه “دون أوكرانيا، لا تصبح روسيا إمبراطورية، ولكن مع إخضاعها أوكرانيا وضمها، تصبح روسيا بشكل تلقائي إمبراطورية”.
ما سيحدث بعد ذلك ليتمكن بوتين من تحقيق هدفه هو أمر يمكن تخمينه. ومع ذلك؛ فإن اعترافه بالجمهوريات الانفصالية يعني أنه على الرغم من امتلاك السلطة البرلمانية لنقل القوات عبر الحدود الروسية، إلا أن شنه لغزو واسع النطاق على أوكرانيا قد يكون أمرًا غير مرجح.
وفي الصدد ذاته؛ اقترح جنرال أمريكي متقاعد على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن الأسبوع الماضي أن روسيا يمكن أن «تستثمر» في العاصمة الأوكرانية كييف، ولم يكن الجنرال يقصد بحديثه الاستثمار المالي؛ بل استخدمه لوصف سياسة الحصار التي سينتهجها بوتين بدلاً من الاحتلال الذي بات من السياسات التي عفا عليها الزمن منذ انتهاء الحرب الباردة.
وعلى الرغم من محاولاته تأكيد عكس ذلك؛ إلا أن بوتين لا يتصرف بشكل غير عقلاني أو بهياج، وعلى العكس من ذلك؛ فهو رجل “حافة الهاوية” (وهو مصطلح سياسي يعني السعي إلى تحقيق مكاسب سياسية من خلال تصعيد أزمة دولية)، وهو ما يفعله بوتين الذي أثبت أنه خبير عبقري في التخطيط؛ فهو يعلم أن مطلبه بانسحاب الناتو من أوروبا الشرقية والتعهد بمنع أوكرانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي أمر غير واقعي.
وفي ظل الاعتراف بالجمهوريات الأوكرانية الانفصالية؛ أظهر أنه ليس قلقًا بشأن العقوبات الأمريكية والأوروبية، فقد جمعت روسيا حوالي 600 مليار دولار من الاحتياطيات وخفضت بنسبة 50 بالمئة من حجم التجارة التي تتم بالدولار.
ونتيجة لذلك؛ يمكن لفلاديمير بوتين، حتى الآن، أن ينظر إلى تأجيجه وتلاعبه بأزمة أوكرانيا على أنه نجاح رغم الإدانات الدولية الكثيرة لروسيا، كما كان واضحًا في مناقشة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والحذر الذي علقت به الصين على الأزمة.
وإلى جانب إرسال رسالة قاسية إلى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق؛ كشف بوتين عن نقاط ضعف الغرب في وقت تمر فيه الديمقراطية الليبرالية بأزمة وتتعرض للهجوم من قبل عناصر غير ليبرالية وغير ديمقراطية من اليسار واليمين، وبعضها يتمتع بالتعاطف الروسي على الأقل.
بوتين قد يتعامل مع أمريكا مختلفة بحلول نهاية هذه السنة إذا خسر الرئيس الأمريكي جو بايدن انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ أو مجلس النواب، وعلى نحو مماثل؛ يمكن أن يتعامل بوتين مع زعيم فرنسي أكثر تعاطفًا إذا فشل الرئيس إيمانويل ماكرون في صد منافسيه
من المؤكد أن بوتين قد منح حلف الناتو والتحالف الغربي فرصة جديدة، لكن الولايات المتحدة وأوروبا لم تثبتا بعد أنهما على استعداد لمواجهة التحدي، ولم يطوروا نهجًا يعترف بأن الزعيم الروسي يلعب لعبة طويلة على الرغم من تقييمه باعتباره خبيرًا في التخطيط وليس خبيرًا إستراتيجيا.
ومن غير المرجح أن تُظهر العقوبات أن الولايات المتحدة وأوروبا قادرون على منع بوتين من إقامة نظامه العالمي الجديد في دول الاتحاد السوفييتي السابق أو في الأراضي التي يمكنه أن ينشئ فيها بؤرًا استيطانية مصطنعة للعالَم الروسي من خلال دعم تعليم اللغة الروسية كما يحاول أن يفعل في جمهورية أفريقيا الوسطى.
لقد أثبتت العقوبات – مهما كانت قاسية – أنها غير فعالة في فرض السياسة، إن لم يكن تغيير النظام، فعلى سبيل المثال؛ لم تجبر العقوبات القاسية حتى الآن جمهورية إيران الإسلامية على الخضوع، وتعتبر روسيا في وضع أفضل لاستيعاب تأثير العقوبات.
أضف إلى ذلك؛ أن بوتين قد يتعامل مع أمريكا مختلفة بحلول نهاية هذه السنة إذا خسر الرئيس الأمريكي جو بايدن انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ أو مجلس النواب، وعلى نحو مماثل؛ يمكن أن يتعامل بوتين مع زعيم فرنسي أكثر تعاطفًا إذا فشل الرئيس إيمانويل ماكرون في صد منافسيه من اليمين المتطرف في انتخابات نيسان/أبريل.
وتقول الصحفية والكاتبة آن أبلباوم إن لعبة بوتين الطويلة تتمحور حول فشل الديمقراطية الأوكرانية، ويأمل أن يساهم ذلك بدوره في فشل الولايات المتحدة ويضمن أن يكون خطابها الديمقراطي أجوفًا.
وتقول أبلباوم إن “هذه أهداف كبيرة، وقد لا تكون قابلة للتحقيق. لكن الاتحاد السوفييتي المحبوب لدى بوتين كانت لديه أيضًا أهداف كبيرة غير قابلة للتحقيق، فقد أراد لينين وستالين وخلفاؤهم خلق ثورة عالمية لإخضاع العالم بأسره لدكتاتورية البروليتاريا السوفيتية، بيد أنهم فشلوا في نهاية المطاف، لكنهم تسببوا في الكثير من الضرر أثناء المحاولة، وسيفشل بوتين أيضًا، لكنه يمكن أن يُحدث الكثير من الضرر أثناء المحاولة، ولن يقتصر الضرر على أوكرانيا فحسب”.
المصدر: مودرن ديبلوماسي