في مرحلة قصيرة تمكنت أمريكا والناتو من نقل الصراع بينها وبين روسيا وحلفائها، إلى صراع بين بوتين والعالم، فبدأت تظهر وكأن روسيا خسرت ليس فقط هيمنتها، بل أصدقائها الاستراتيجيين في العالم، والذين كانوا من المتوقع أن يشكلوا معا حلف المواجهة، بعدما كانت روسيا تنهض وتتوسع كأحد قطبي الصراع العالمي، متقدمة في السلاح، وفي عالم الأنترنيت والتحكم في ملفاتها، وكإمبراطورية كادت أن تنمو على نمط مغاير للإمبراطوريات الكلاسيكية المعتمدة على قوة السلاح، مستفيدة من مخلفات الاتحاد السوفيتي، بمنهجية الرأسمالية العالمية الحديثة، وهو ما كان يرعب أمريكا وأوروبا، لكنها وبعدما أقحمت ذاتها وحلف المستقبل في الصراع الكلاسيكي وحيث التبجح بقوة السلاح، ومحاولة إعادة مخلفات الشيوعية، خسرت ذاتها والمستقبل واحتماليات نجاح الطفرة الجديدة، ولن تنقذها إلا ما قد تنجم عن فتح الأبواب مع الصين بدون شروط مسبقة، والتراجع عن الاجتياح وإعادة النظر في الانحراف السياسي – الاقتصادي الذي تم، ورغم أن الدولة العظمى -الصين، والتي تقف في وجه أمريكا بمنطق مغاير لما يفعله بوتين، تتردد حتى الأن في مواقفها، على خلفية المغامرة التي وضعت مصير القوة الروسية على المحك، إلا أن احتمالية قبول التحالف مرجحة.
وضع بوتين دون حلفائه وإستراتيجييه، أوروبا، بل وربما العالم، أمام كوارث الحرب، ومآسيها، وكأنها مقدمة لدمار تتجاوز جغرافية أوكرانيا، وشعبها والشعب الروسي، كما نشاهدها أحيانا في أفلام الهوليود، حيث المجاعات، والهجرات، وانتشار الأوبئة، مصير البشرية الذي يصبح في مراحل وحالات ما لا قيمة له أمام تبجح رؤساء العالم وعنجهيتهم، فبعضهم أحيانا لا يقلون جهالة عن الأطفال وخلفيات صراعاتهم على احتكارات شخصية، ففي لحظات يصبحون أكثر الناس بعدا عن مجالس الحكماء وآرائهم وقراراتهم، وأقربهم إلى الانتهازيين والمنافقين والخبثاء، والمجرمين، المختفين وراء ربطات العنق والقمصان البيضاء.
هؤلاء الذين يقفون وراء تبجح بوتين، والناتو، وما يجري الأن في شرق أوروبا، والتي هي إعادة للمسرحية السياسية التي خلفت رواية نيفيل تشامبرلين (رئيس وزراء بريطانيا) محاور هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، وقد كان بعمر جو بايدن (رئيس أمريكا) محاور فلاديمير بوتين، فرغم أنه كان يعاني من فوبيا ركوب الطائرات، اضطر لاستخدامها مرة واحدة فقط، عندما طلب هتلر محادثات سريعة، وإلا سيهاجم تشيكوسلوفاكيا، التنازل النفسي والدبلوماسي أدى إلى تصاعد العنجهية عند هتلر وقادة حكومته، مع ذلك لم يتمكن رئيس الوزراء من إنقاذ أوروبا والعالم من الدمار الذي ألحقه بها هتلر وحزبه النازي.
لربما درس استراتيجيو أمريكا وأوروبا هذه التجربة وقدموا لجو بايدن ورؤساء أوروبا رؤيتهم وتحليلاتهم حول التحولات النفسية في شخصية بوتين ومدى تأثيره على مستشاريه، وهو ما أدى إلى تنامى شكوكهم في بلوغ نتيجة مرضية من حواراتهم مع بوتين، تكرس هذا المفهوم بعد معاملته الدبلوماسية غير اللائقة مع رئيس فرنسا، مع العلم، وبغض النظر عن صحة أي من الجانبين، لم يتنازل أي منهم عن مواقفهم وأحقية رؤيتهم، واستمر الطرفان في فرض مصالحهما وبحدة، وعلى أثرها أصبح الغرب، كدفاع غير مباشر، يتحدث عن شبه مرض نفسي حول حالة بوتين الأخيرة، وكرد فعل، نقل بوتين الصراع على نوعية النظام، وحكومة موالية له؛ إلى منهجية الصراع ضد النازية في أوكرانيا، حسب قوله وبناء على خطابه الحاد قبيل بدء الحرب، المفهوم الذي بدأ الإعلام الروسي يروج له وبقوة كتبرير جديد للاجتياح العسكري.
في الواقع لم يتنازل قادة الناتو وأمريكا عن مواقفهم، إلى جانب ما يخططون له، ليس لأنهم يروجون بأحقيتهم فيما يقدمون عليه من التجاوزات إلى حد العبث بالحدود الروسية، بل خوفا من التمادي المتوقع للحلف الروسي المستقبلي، قبلما يتحول إلى الخوف من التمادي البوتيني بعد أوكرانيا. فمعظم المحللين في الغرب رجحوا منطق احتمالية تصاعد الغرور عند الرئيس بوتين، المشخص كدكتاتور، والفارض ذاته كطاغية روسيا المطلق، أن يطلب من الدول الناتو الجديدة الخروج من الحلف أو الطلب من الناتو سحب قواته من الدول التي كانت في السابق ضمن النظام الشيوعي، وهنا ستضطر الناتو وأوروبا الدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش الروسي، حينها ستبدأ الكارثة الكبرى.
ولا يستبعد أن أمريكا والدول الأوروبية اتفقوا على عدم التصعيد في مرحلة الحوارات؛ كمنطق لكسب الرأي العام العالمي ومن ثم عرض الشروط قبل فرض التهديدات، وهو ما لم يتقبله بوتين ومستشاريه، والرد الروسي لم يكن على سوية الخبرة السوفيتية العميقة في مثل هذه الحالات، وبالتالي بدأت تظهر البدايات المتشابهة بين ما يجري الآن والمرحلة السابقة للحرب العالمية الثانية، ترافقها أنتشار العديد من الأسئلة الشكوكية، على الإعلام العالمي وفي صفحات التواصل الاجتماعي، حول ما ينوي بوتين فعله، وما سيكون عليه العالم:
1- هل أوروبا مقدمة على حرب شاملة قد لا تكون عالمية، لكنها ستخلق كوارث على مستوى العالم؟
2- هل بوتين يرعب أوروبا وأمريكا مثلما أرعبهم هتلر في السنوات الأولى من الحرب؟
3- هل هذا ما أراده أمريكا وخطط له، وإن كان؛ فهل الغاية منه أسقاط الدكتاتورية، أم فرض دكتاتورية الناتو على العالم؟
4- ما فائدة أمريكا والناتو من التصعيد والصرامة في الموقف، والمؤدي إلى احتمالية انهيار الاقتصادي العالمي وأوروبا في المقدمة والذي سيرافق ما سيصيب الاقتصادي الروسي؟
5- هل يعيد التاريخ ذاته بصفحاته الكارثية وبهذه السرعة؟
6- هل نهاية بوتين ونظامه ستكون على حافة نجاحه أو فشله في أوكرانيا، أم أن الشعب الروسي والعالم أمام مسيرة طويلة من الكوارث، وهل ستكون نهايته كنهاية هتلر؟
7- هل دخلت روسيا في مستنقع مشابه لمستنقع الإتحاد السوفيتي في أفغانستان؟
8- هل روسيا تملك إمكانيات تحمل النزيف الاقتصادي، أم أنه كرد فعل سيهاجم دول أخرى مجاورة، وبالتالي سنرى أوروبا على أبواب حرب كارثية، وليس كما يقال بداية حرب باردة ثانية؟
9- أم أن الصراع سيتوقف على أطراف أوكرانيا؟
10- والأهم من سينجح في هذه الحرب، روسيا، أوروبا، أمريكا؟ والمعروف أن أول الخاسرين هو الشعب الأوكراني والروسي، ومن ثم العالم، وقد بدأت بوادرها تظهر على الأسواق العالمية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
27/2/2022م
منطقة المرفقات