من بين ما أتفق عليه ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، في اجتماع إيسلندا عام 1985م، إنهاء حلف وارسو (كنت حينها في الإتحاد السوفيتي-جامعة موسكو أحضر لرسالة الدكتوراة، جرت حوارات حادة بين الطلاب الروس الذين كنا نجتمع في غرفتي بشكل شبه يومي، أغلبهم لم يتوقعوا تنفيذه) وهو ما تم في عام 1991م، مقابل التخفيضات العسكرية للناتو في جميع أنحاء أوروبا، وعلى أثرها تراجعت المشاركة الأوروبية من نسبة 34 إلى 21 %، وعلى ألا تتمدد الناتو في دول أوروبا الشرقية مستقبلا، وقد أكد على هذا السفير الأمريكي لدى الإتحاد السوفيتي حينها، على أن الغرب أعطى التزاما واضحا بعدم التوسع، كما وقال، هانز غينشر وزير خارجية ألمانيا الغربية في إحدى محادثاته مع شيفرنادزة وزير خارجية السوفييت، على أن الناتو لن يتوسع نحو الشرق.
وحول حقيقة وجود هذا البند ضمن المحادثات، وكدحض لبعض الشكوك التي نشرت فيما بعد، يقول غورباتشوف في مذكراته المنشورة عام 1966م، على أن البند كان من ضمن الاتفاقية، ولكن بعد انهيار الإتحاد السوفيتي بسنوات، لم تلتزم الناتو وخاصة أمريكا وبريطانيا بالنص، رغم التنازلات المتواصلة من قبل روسيا من أجل توجيهها نحو السلام، وقد بين بوتين في عام 2001م في اجتماع كرملين لسكرتير الناتو حينها جورج روبرتسون عن قلقه حيال توسعه نحو دول حلف وارسو السابق، وتجاوزهم ميثاق باريس، تبعها تصريح من روبرتسون، تم تفسيره على أنه بإمكان روسيا الانضمام إلى الحلف، أو أنهم لا يمانعون من انضمامها. وبغض النظر عن مصداقية الخبر، وقانونيته والشكوك التي رافقت صحته من عدمه، وغاية نشره، والذي أكده فيما بعد فلاديمير بوتين في حوار على قناة (بي بي سي) البريطانية، في نفس العام، قائلا: أنه لا يستبعد الانضمام إلى الحلف بعدما يتم التكافؤ في المراكز، وأضاف على ذلك بعض الشروحات، وكانت مرفوضة عمليا من قبل أمريكا تحت حجة أنها ستخلق صراعات ضمن الحلف.
مع ذلك لم تخفف الناتو من توسعها، بل استمروا بأحداث التغييرات في المنظومة، بناء على ميثاق باريس لعام 1997م والتي وافقت حينها روسيا على ضم بعض الدول الاشتراكية السابقة لها، ولحقتها توسع في العلاقات السياسية والدبلوماسية، إلى درجة تم بعد سنة من الميثاق، فتح ممثلية إعلامية للناتو في موسكو، وممثلية لروسيا في مركز الناتو. وما شد الحلف على التوسع عودة فرنسا إلى التحالف العسكري، والذي رفع نسبة المشاركة الأوروبية فيها ثانية وبقوة، وذلك بعد قرابة 30 سنة من انسحابها منه في عهد تشارل ديغول، عندما طلب من الأمريكيين سحب قواعدها من الأراضي الفرنسية، إلى درجة قال وزير خارجية أمريكا (دين روسك) عن غضب وتهكم (هل هذا يتضمن جثث الجنود الأمريكيين المدفونة في مقابر فرنسا؟).
بدأت تظهر بعد السنوات الأولى من اتفاقية أيسلندا، تحويرات إيجابية على عمل الناتو، ونشرت على أنها تتجه من النظام العسكري مهمتها الدفاع عن الأعضاء، إلى منظمة لنشر السلام، وهو ما دفع ببعض الدول غير الأعضاء المشاركة فيه، وكما ذكرنا، كانت على رأسهم روسيا وقاموا معاً بإنشاء برنامج الشراكة من أجل السلام عام 1994م، وتم العمل على تفعيله، كخطوة لخلق الثقة بينها وبين دول السوفييت السابقة، وعلى أثرها أصبحت عضوة مراقبة للسلام في الناتو، وتم عقد الميثاق المذكور، وغيرها من توسع في العلاقات، وحينها انتشرت دعاية على أن روسيا ودول الناتو يعيدون دراسة العلاقة بين دول الحلفاء التي تم تدميرها يوم طلب ستالين في عام 1949م الانضمام إلى الحلف، ورفض، وأعادها خروتشوف في الخمسينات، والذي أدى إلى ظهور القطبين والحرب الباردة، وقامت الإتحاد السوفيتي بتأسيس حلف وارسو عام 1955م كرد فعل. لكن مسيرة السلام لم تستمر، بل تأزمت العلاقة، بين روسيا والناتو؛ قبل عقدين من الزمن، أي بالتحديد في عام 1999م على خلفية مشاكل يوغسلافيا.
لكن ما جرى بعد اتفاقية إيسلندا بسنوات قليلة، وخاصة خلال العقدين الماضيين، من توحيد ألمانيا، وانهيار يوغسلافيا وتدخل الناتو المباشر في العملية، وغيرها من التغييرات الجيوبولوتيكية الكبرى على المنظومة العالمية، سياسيا وعسكريا، إلى جانب أحداث نيويورك، وحربي الخليج الأولى والثانية، أدى إلى ظهور تحوير سلبي واضح على ما تم الاتفاق عليه، وعادت الناتو إلى نظام الدفاع العسكري وترجيحها على نشر السلام، خاصة بعدما تجاوزوا بنود مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية عام 1997م، وفتحوا الباب ثانية للتوسع، قبلها كانت بموافقة روسيا لكن بشروط وبموافقة الطرفين، لكنهم وتحت سقف نظام التحالف بنظام عمل العضوية الفردية، ضموا دول أخرى، وكان هذا تحايل على اتفاقية غورباتشوف – ريغن، وميثاق باريس، وتبين على أثرها، ليس فقط عدم التزام الناتو بالاتفاقية، تحت حجة أنها لم تعد سارية المفعول، بسبب عودة روسيا إلى سباق التسلح، وتطوير ترساناتها العسكرية، ونقضها لبرنامج السلام، وروسيا من جانبها أعتبر عدم التقيد ببنود المجلس وبرنامج الشراكة، نقض لكل الاتفاقيات وعلى رأسها بنود اتفاقية أيسلندا، لأن ما تم عمليا تحت العمل الفردي أو مجلس الشراكة، انضمام معظم أوروبا الشرقية، وزيادة نسبة المشاركة الأوروبية بشكل عام، وهو ما اعتبرته روسيا تهديد مباشر لأمنها الداخلي، ودفعت بها إلى تقسيم جورجيا بعدما طالبت بالانضمام إلى المجلس المذكور، أي عمليا كانت مقدمة للانضمام إلى الناتو، وهو ما كانت أوكرانيا تطالب به.
وفي الواقع السياسي العسكري دول حلف الناتو وعلى رأسها أمريكا عملوا على ألا يظهر القطب المنافس ثانية في العالم.
من حيث المنطق الجيوسياسي روسيا امتداد للسوفييت، ولا تزال محافظة على البند المتفق عليه، بعدم إعادة تشكيل حلف عسكري مشابه لحلف وارسو، ولكنها تملك صلاحيات الدفاع عن الذات وعن أوروبا الشرقية المفروضة عدم ضمها إلى الناتو من طرف واحد، وهذا ما تعتبره روسيا خرق للاتفاقية. ومجريات الحوارات بين روسيا وأوروبا كان يتم على هذه المنهجية. ولربما الوجه الخطأ في المطلب الروسي، والذي زاد من عداء العالم لها، هو:
1- أنه لم يركز على خلفيات نص الاتفاقية، والخروقات التي تم، ربما لأنها لا تزال عضوة مشاركة من أجل السلام، أي هناك شراكة رسمية أو غير رسمية، لم يتم التصريح به كاتفاقيات دولية.
2- إلى جانب أنه لا يحق لها فرض الشرط على أوكرانيا خاصة عن طريق القوة، لأن دول الناتو هي الملتزمة بالاتفاقية، وعليه مواجهة الناتو وليس الهجوم على أوكرانيا وشعبها، كما وأن الحل بالسلاح وهي عضو في برنامج الشراكة من أجل السلام، زادت من تعقيد القضية، وأعطت لدول الناتو حجة على أن روسيا هي التي خرقت الاتفاقية، خاصة وأنهم لم يوافقوا على ضم أوكرانيا، مع العلم ومن هذا المنطلق أصدر بوتين تصريحا بعد الحرب بيومين، بأنه على الناتو الانسحاب من الدول المنضمة بعد عام 1997م، وهنا ستكون الكارثة فيما لو تم الصراع عليه بعد الانتهاء من اجتياح أوكرانيا.
فما أقدم عليه فلاديمير بوتين، والذي لا شكوك حول وطنيته وحبه لروسيا، بحل القضية عن طريق الحرب، أضعفت حججه عالميا، وتم تغييب بنود الاتفاقية، وبدل أن يتم الحديث عنها، ركز الإعلام على جريمته بحق الشعبين، الروسي والأوكراني، المتآخين، وعلى مدى قرون طويلة، بل الأخين، اللذين أسسا إمبراطورية مشتركة، وكانا أهم عنصرين في تكوين الإتحاد السوفيتي، من أحدهما خرج لينين ومن الآخر تروتسكي. جمعتهما الجغرافية واللغة وحروب التحرر، وفرقتهما حرب العنجهية والطغيان. ومحاولات الخروج إلى عالم الرفاهية ليست بجريمة يمكن حلها بالحرب.
وتناسيه أنه لا تزال هناك أثار كوارث الحرب، ويعاني منها الشعبين، وأنه لا يزال في روسيا وأوكرانيا العديد من المحاربين القدماء الذين يتذكرون مآسي الحرب العالمية الثانية، وكيف كانوا معا في الجبهات، يجمعهم وطن واحد وهدف مشترك، وما أقدم عليه لا يضر بالناتو، بل بالشعبين الروسي والأوكراني. فهل بوتين فقد عقله، وهو ما سنتحدث فيه في المقال القادم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3/3/2022م