بدأت تنتشر المعلومة في الأونة الأخيرة، من قبل كبريات شركات الإعلام، وجاء على ذكرها بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين، وعدد من المحلليين، بغض النظر عما إذا كانت من ضمن مجريات الحرب النفسية، ضد روسيا، أم أنها شكوك مبنية على مؤشرات، كإقدامه على حرب كان بالإمكان تجنبها، وطريقة اجتماعه برؤساء الدول، والتعامل مع أعضاء حكومته، كالبعد عنهم بالجلوس على رأس طاولة طويلة، وهو ما نوه إليه فلاديمير زيلينسكي بتهكم، وكرد فعل على سخريته جلس وعلى نفس الطاولة التي جمعه وقادته العسكريين بمسافة تزيد عن عشرة أمتار، متلاصقا مع مجموعة من مضيفات الطيران، إلى جانب النبرة القاسية التي بدأ يستخدمها مؤخرا في تصريحاته، وهو الرئيس المعروف بهدوئه وحنكته.
تترسخ الفكرة، أو التهمة، بعد عرضه القدرات العسكرية الروسية التي تبجح بها طوال العقد الماضي إلى المسائلة التقديرية، وفيما لو استمرت الحرب أسبوع آخر، بغض النظر عن المقاومة الأوكرانية، والمساعدات الواسعة من دول الناتو، وحرص الجيش الروسي على المدنيين، ستصبح مكانة السلاح الروسي على المحك، ومعها رجاحة العقل الذي فضل الحرب على الحوارات، بعدما كان مهيمنا على الوضع سياسيا ودبلوماسيا.
رغم أن الحروب تجلب الكوارث قبل الانتصارات، وخسارة المنتصر لا يقل عن الأخر، مع ذلك فمعظم صفحات تاريخ البشرية مدونات ووصف لخالقي الحروب وكوارثها، وقتلة الشعوب، وهو خير أثبات على أنه لا يزال العقل البشري يعاني من النقص، ومن السهل حتى لقادة الدول التيه بين الحكمة والجهالة.
فرغم أن موقف جون كيندي عام 1962م، لا يقل عما أقدم عليه بوتين الحالي، يوم نشرت دعاية على أن الاتحاد السوفيتي غرزت صواريخ نووية على أراضي كوبا، وقيل أن البشرية كانت على مسافة خمس دقائق من البدء بحرب نووية، إلى أن أثبتت السي أي أيه للرئيس كيندي على أن الصور ليست بأكثر من دعاية لحماية كوبا، ولا توجد أية صواريخ نووية، فتراجع ووقف التصعيد، لكن الناتو والعالم الغربي برروا حينها موقف الرئيس الأمريكي، كدفاع عن الحدود الأمريكية، إلى أن وجد البعض إشعال الحرب العالمية خطوة صائبة من قبل الأمريكيين، واليوم ينددون بالموقف الروسي، علما أن الناتو بتمدده يطرق أبواب موسكو قرابة عقدين من الزمن، ويخرقون بشكل سافر اتفاقية أيسلندا، والتي وضحناها في مقالنا السابق.
والخلاف بين دول الناتو والمعارضين للحروب أن هؤلاء ينطلقون على أن ما أقدم عليه فلاديمير بوتين جريمة بحق الشعبين الروسي والأوكراني، لعدم الاستمرار في الحوارات، وما يجري هي حرب عائلية، بدأ العالم يظهرها على أن عميدها يعاني من حب العظمة، ويرفض خروج أحد عن طاعته، وأن أوكرانيا تواجه طاغية تناسى العلاقات التاريخية والجذور المشتركة، يطمح إلى إذلال كل من لا يقبل إملاءاته، أو قبول العيش في ظل الطغيان والفساد والفقر؛ الرئيس الذي تمادى على التاريخ السوفيتي وأقدم على نقد لينين تحت منطق تأسيسه للجمهورية الأوكرانية من مقاطعات مشتتة، المفهوم الذي لا يتوافق مع الدراسات السوفيتية والروسية، وخبرائها ومؤرخيها.
لربما وهنا بالتحديد، يتناسى فلاديمير بوتين أن معظم الدول الأوروبية كانت في مراحل تاريخية ليست ببعيدة منقسمة إلى دويلات وممالك، توحدت، أو شكلت الجغرافيات التي هي عليها الأن، على خلفيات صراعات وتكتلات سياسية، خلال القرن الماضي، وأوكرانيا لم تكن باستثناء، ومسيرة تكوين الدول وتلاحم القوميات لا تزال جارية حتى اللحظة. فقبل سنوات كادت أن تنشأ دولة شيشانية لولا العنف المستخدم من قبله، وهو بذاته فصل مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، وخلق منهما جمهوريتين، فعل مثلها في جورجيا، ويصر على وحدة سوريا تحت ظل نظام شمولي مجرم؟ والبشرية ترى كم تغيرت جغرافية العالم السياسي-الإثني خلال أقل من نصف قرن من الزمن، ولا تزال التغييرات مستمرة كديمومة متواصلة.
هذه التناقضات في المواقف، وعلى خلفية فرض الرؤية الذاتية على المصالح الروسية-الأوكرانية، تم جرف روسيا إلى مستنقع لا يحمد عقباه، وعلى الأرجح سيستمر الغوص فيه، ولا يتوقع التراجع عنه، فدخول الحرب أسهل بكثير من الخروج منه، وهو في الواقع لا يفكر حتى اللحظة بالإقدام على أي اتفاق، بل قصفه للمفاعل النووية للطاقة الكهربائية، قبل يومين تصعيد خطير على المستوى العالمي، وهي رسالة تهديد للبشرية، مثل توصيفه لرئيس أوكرانيا (زيلينسكي) بالنازية والإجرام، أو دعمه لبشار الأسد، أي بما معناه لا نتوقع إعادة النظر في التناقضات السياسية التي أقحم فيها الاستراتيجيين الروس وخبرائها، وهي نابعة، على الأرجح، من خلل ما في سوية التفكير والأحكام، والتي دفعت بشرائح واسعة من مؤيدي روسيا من الشعب الأوكراني إلى تغيير مواقفهم، والدفاع عن وطنهم ضد الجيش الروسي.
طغيان منطق العنف لدى بوتين على الدبلوماسية والحكمة السياسية، دفعت به ليتناسى دور الاقتصاد في الصراعات الدولية، وهنا الكارثة الأكبر لقادم روسيا، ودورها العالمي، القطاع الذي لو تم التركيز على تطويره لكان بإمكانه أن يضع روسيا ضمن قائمة أفضل دول العالم، ولفرضها على دول الناتو، بل وأوكرانيا والدول الاشتراكية السابقة، وأرضخهم بكل سهولة، ودون اللجوء إلى القوة.
لكنه وللأسف وقف على عتبات القوة العسكرية، وبدأ يستخدم لغة مختلفة عن العالم، بعدما كان يصنف كأحد أفضل الرؤساء في الحنكة السياسية، وبلغ مكانته كرئيس شعبي عن طريق تصحيح العديد من المسارات التي نهضت بروسيا ومن ضمنها الواقع الاقتصادي، وهذا ما كان يقلق الغرب بأجمعه، وفي فترة هز الداخل الأمريكي، ولو أستمر بالعمل في النهوض الاقتصادي التكنولوجي لتتمكن من إرضاخ الجميع، وهيمن على مساحات مهمة في الاقتصاد الأوروبي أوسع بكثير من قطاع الطاقة، ولجذب معظم الدول المجاورة إلى أحضان الشعب الروسي.
لكن الانحرافات التي حصلت في إستراتيجيته، هدمت معظم الصروح، وعرقلت التطور، والتي لا علاقة للحرب الجارية بسويات مدارك خبراء الروس وسياسييهم، ولا بالقيم والأخلاق، ولا تتوافق مع المعرفة وخبرة الإستراتيجيين، المشهورين عالميا في لغة السياسة والتعاملات الدولية والدبلوماسية، ولا علاقة لهؤلاء بوصفه لرئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي بالمجرم والعنصرية النازية، وهو يهودي الأصل، والبعض من عائلته قتلوا في المعتقلات الألمانية، مرشح الأغلبية من الشعب الأوكراني، ويدافع عن مجرم سوريا الأول بشار الأسد، الطاغية الذي قتل مليون إنسان سوري، ودمر الوطن. لربما يمكن صرف ما يقدم عليه، على أنها سياسة، لكن تتبين أنها سياسة فاشلة، تجرفه إلى الهاوية، وهو بدوره يسحب الشعبين الروسي والأوكراني إلى جحيم الحرب.
وبالمقابل، أمريكا وأوروبا، يلعبان بحنكة وخباثة، يفرضون امبراطوريتهم ويعومون مصالحهم، وأصبحوا ينهشون من مخلفات السوفييت السابقة، وأخرها كان التلاعب بمصير الشعب الأوكراني، وتدخلوا في انتخاباتهم وكان لهم دور في الثورة البرتقالية، ومن ثم في إضرابات عام 2014 والتي أدت إلى هروب الرئيس المنتخب نحو روسيا.
كل هذه الأفعال، مبررة ضمن مسيرة الصراع بين الأقطاب العالمية، والتي تنعدم فيها القيم أمام السياسة والمصالح، وهي التي دفعت بروسيا التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولا يمكن نفيها، حتى وعندما تم تبرئة ترامب من بعض التجاوزات القانونية، ولا يستبعد أن تكون مخطط جر روسيا للهجوم على أوكرانيا، من ضمن الردود والمعارك المخفية المتبادلة، وقد كانت من الحنكة جذب أوكرانيا وغيرها من الدول الاشتراكية السابقة بالقناعة لا بالقوة.
فما ينتج من مجريات الأحداث والصراع الدائر؛ ولغة العنف هذه، ليس فقط الشعب الأوكراني سيدفع ثمنها، بل الشعب الروسي والأوروبي وربما العالم أجمع، مثلما دفع العالم ثمن لغة هتلر والحزب النازي. فهل سيتمكن استراتيجيو روسيا وعباقرتها ومفكريها من إقناع الرئيس المحبوب والمتحول إلى دكتاتور روسيا، بالبحث عن مستخرجات تتلاءم ومصالح الشعوب والمنطقة والعالم؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
27/2/2022م