يتميز الروائي ( شوقي كريم حسن ) في مغامراته في الفن الروائي الحديث , في محاولاته في ابتكار صيغة خلاقة في المتن الروائي , برؤية مبدعة في صناعة الحدث السردي , الذي يمتلك عمق فكري بليغ في الايحاء والرمز الدال , أن يمزج الحدث السردي بالدراما الفعل في المونتاج المسرحي , الذي يعبر عن جوهر الواقع ومعطياته في رواية ( نهر الرمان / تجربة موت ) أنه يفتح الحساب وتصفيته بين الذات والعام , أو بالادق بين السيرة الذاتية للمؤلف والسيرة الذاتية للواقع بالمجريات الفاعلة والقائمة على الأرض فعلاً وتنفيذاً , ويضع كل منهما في كفتي الميزان , في تحدي الموت والواقع , رغم أن كفة الميزان تكون لصالح مجريات الواقع في ازمنته القائمة الماضية والحاضرة , لذلك يمارس عملية جلد الذات والواقع معاً في الحدث الروائي . وهو يسير بشكل متوازي بشقين الذات والعام , من خلال توظيف التعبير الفكري في المنولوج الداخلي , ربما الشيء المبتكر والخلاق في المنظور الروائي , أن يجعل الهرم الانساني أو الجسد الانساني بأجزائه المختلفة , اصوات تتصارع بجدلية الفعل بين الركون والتمرد . اي بمعنى آخر أن ( الانا ) موزعة على اجساد الجسم وعقلة ( الروح والعقل ) هذان الشقان يديران عملية قيادة دفة سفينة في الحبكة السردية , وهما المحركان للفعل الدرامي للحدث السردي , فالجسد متكون من القلب والروح في الشق الأول يدخل في جدلية متصارعة مع الجسد الرأس ( العقل ) وهما في نزاع وخصام , وحين يتمرد بالعصيان أحدهما على الآخر , فإنهما يبقيان في خط اللعبة المفروضة عليهما معاً , ولا يتجاوزون الخطوط الحمراء , رغم أن احداهما يفجر الاسئلة في وجه الآخر . والطرف الاخر يحاول امتصاص أو تبريد سخونة عنفوان الشق الآخر , وهذه العملية تأخذ بتبادل الادوار . ولكنها تؤدي في النتيجة الى الإحباط والهزيمة والانكسار , في الازمنة السوداء والواقع يشهد الانهيار والخراب, يشهد استخدام الفوضى والخديعة والكبت والوجع ( منذ أعوام وهي تقاوم الوجع الذي أصبح مستحيلاً , في الزمن الذي نعيش فيه , كسرت جناحك الايام , وكل ما عليك فعله , رفع رايات قبولك واستسلامك , لا طائل في المقاومة , تلك الأنقاض التي تسميها ( أنا ) لُمَّ ليلك الى وحشة وجودك المنحاز الى الرحيل وتوكل, لا طائل من وراء المماطلات التي ترغمنا جميعاً على الولاء , أنزع أردية غرورك وتكفن بالقبول ) ص7 . هذه صيرورة النزاع والخلاف بين القلب والعقل في تدهور القيمة الانسانية الى الحضيض ( الدنيا حصانها الدينار , والذي لا يملك فلساً لا يساوي فلساً ) ص7 . يعني اذا كنت تملك المال فأنت محترم واذا كنت لا تملك فأنت زبالة . واقع يجعل الانسان مجرد رقم لا قيمة له , أو يجعله ببغاء يردد مايطلب منه بالاحتقار والاستهتار متغطرس بعنجهية الارهاب المسلط على الرقاب , وعليه واجب التصفيق والرقص والغناء لتمجيد القائد المفدى ( أبن الحمار .. صفق … وغني … صفق وغني ,,,, هههههههههه …… لا بأس أصفق واغني .. أبن القحبة ……. أرقص … صار أرقص … أرواحنا لك الفدى قائدنا الممجدا ….. لا سافل غني ما يطرب الناس ويثير حماستهم . صفق .. غن .. أرقص … صفق … غن …. أرقص .. احنه مشينه للقبر …. عاشك يدافع عن قهر محبوبته …. ) ص17 . هذا المناخ الببغاوي يثير حفيضة الصراع بين الروح والجسد أو بمعنى آخر بين القلب والعقل :
( يقول القلب – ألى أين تراك ذاهب ؟
يقول الجسد – لا عليك , فقط كن تابعي
يقول القلب – أنت تريد تغيير قواعد اللعبة فالاجساد هي التي تتبع القلوب
يقول الجسد – ولم تعترض طوال وجودنا معاً , كنت أطيع ما تجود به و مارفضت حلماً, وما قلت لك لا … أنت من كان يدمر حتى لحظات استكانتي ) ص27 . والاثنين واقعين تحت حوافر حصان الطروادة . هذا الواقع المزري وأزمنته السوداء والمنحوسة وكل فارس يمتطي حصان الطروادة يحمل معه الذريعة القاتلة والمسمومة , مرة يقول جئنا محررين لا فاتحين , ومرة أخرى أئنا جئنا توحيد شمل الأمة العربية التي تحمل ذات رسالة خالدة , ومرة بجبة الدين الحفاظ على القيم الاسلامية , والواقع يغوص الى الأعماق في المستنقع العفن يصل الى اسفل العالم السفلي من الجحيم والظلم والانتهاك .
( لن أتركك تلعب بحياتي …. أنت من دفعني الى هذا القرف والخمول .
– ما دخلي …… أنت من قبل الولوج الى عالم غير عالمه … أمشي أبن السودا. .
– أمي سوداء ولكن تسكن جسداً مزين بالعفة ) ص72 .
امام هذه المحنة والخسارة الحياتية في انسداد الأفق كلياً , تلعب العرافة الدور الايجابي في إضاءة الطريق المظلم الممتليء العناكب والافاعي المتوحشة , وتقرأ طالعه برؤية حكيمة ورشيدة , وهى ترى سيرة حياته ككتاب مفتوح أمامها . وتحاول أن تخفف وطأة المحنة الحياتية :
( – بما دمت ترغب بالاجتياز فكن مستعداً لتلاقي العثرات .
( – سقوط واحد يضعف مرامك ويشل وجودك كله .
( – أنت أبن مراسيم الآثام لايمكنك التخلص من رغبات تكفلت بأبديتها , كن حذراً .
( – ماعشته مثال قاسٍ للخديعة والكذب والقبول بالاوهام !!.
( – ستكون أما محنة أسمها الحياة سيدي !! .
( – تذكر ليل الشطآن يمكنه أن يحرر روحك من غاياتها أياك التردد , أن ترددت فقدت معاني وجودك كله , الشطآن ملاذ يعطيك القدرة على الفهم , الوحدة اخصاء للواعج ليلك وعجز لفحيح أفاعيك !! ) ص78
ولكن كل الدروب مطوقة بالكلاب البوليسية , وكل الشوارع تحمل الإشارات الحمراء , فمن يتجاوز يوصم بالخيانة والاجرام بحق الوطن والقائد المفدى المكلل بالمجد والتعظيم , وانه اصبع مدسوس من الخارج , لتخريب أفكار الناس وتخريب الوطن ( نموت ونموت ويحيا الوطن . ولكن لو متنا ما سيظل للوطن بقية ؟ ؟ ) هذه عثرات الزمن الاسود ان يجعل الحياة لعبة الحظ بين الموت والبقاء في الحياة الببغاوية الخانعة . في هذا الوطن الذي تحول الى العالم السفلي , الى مواكب التوابيت أو سواتر لجبهات الحرب وحرائق الموت , لان المواطن اصبح زيتاً يصب في أفران الحروب , ومن يعصيه ويتمرد لا حياة له ( الآن أتضحت الصورة ….. أرسلك أعداء الوطن لتدمير افكار الناس وتحريضهم ضد سلطاننا الرائع القسمات وحكومته التي ترعانا بود واحترام شديدين ) ص130 .
المعنى الرمزي للبوابات السبعة في المتن الروائي :
يحتوي المتن الروائي على سبعة ابواب , وهي بمثابة بانوراما لجحيم العالم السفلي , لوطن كان يملك المجد الحضاري بالقوة والجمال والعنفوان , كان بمثابة نهر الرمان . والرمان إحدى ثلاث فواكه مذكورة في آيات القرآن الكريم . يتحول الى تجربة الموت على مشرحة الطب العدلي , هذا البعد الفكري والرمزي لدلالة ( نهر الرمان ) ودلالة ( تجربة موت ) وضع المواطن في مشرحة الطب العدلي للموت البطيء , أراد مؤلف الرواية ( شوقي كريم حسن ) أن يصفي حسابه مع الذات والواقع بحدة مشاطر العمليات الجراحية , ما عليه وما له . لذلك ان مشاهد الابواب السبعة في الحدث الروائي , تمثل الجحيم المتوحش للعالم السفلي في أبوابه الجحيمية , وكل باب أشد رعباً وجحيماً وهلاكاً وتوحشاً من الآخر . هذه حياة الواقع العراقي نسخة طبق الأصل من العالم السفلي , الذي يدفع المواطن الى الهلاك والموت , وعندها يشعر بالخيبة والاحباط والندم انه ولد في بلد نهر الرمان . مثلما فعلت ( عشتار ) في الأسطورة السومرية , ان تهبط الى العالم السفلي لملاقاة حبيبها وزوجها تموز ( ديموزي ) ومرت من ابواب الجحيم المتوحش الرعب والاهوال السبعة , ولكن حين وجدت تموز في حالة يرثى لها ( ديموزي ) شعرت بالاحباط والخيبة والندم , لم يكن ( تموز ) يمثل المجد والقوة والعنفوان , وإنما أنساناً اخر متهالك بالضعف والخنوع والانكسار . نفس الحالة في الاسطورة الاغريقية ( أوديسا ) في حالة شعرت بها ( بينولوبي ) زوجة ملك (إيثاكا ) الذي ذهب الى حرب الطروادة , فكان ( أوديسا ) يمثل افعوان المجد والقوة الشبابية , ولكن حينما رجع من حرب الطروادة , رجع في حالة يرثى لها , كالمتسول العفن والقذر كأنه الشيخ الهرم . عندها شعرت ( بينولوبي ) بالاحباط والخيبة والندم , لأنها رفضت عروض الزواج من الملوك والامراء, من اجل عجوز هرم سائر الى حتفه . هذه الحالة تنطبق على العراق في ازمنته المظلمة الماضية والحاضرة من المجد الحضاري ( نهر الرمان ) , من العالم العلوي ينحدر الى حضيض العالم السفلي , بالحياة المعذبة بالقهر والجحيم , الواقع المزري و المأساوي يمثل أبواب الجحيم السبعة للعالم السفلي , مما يدفع المواطن الى الهلاك والموت كأنه قدر العراق الابدي لا محالة :
( – ما الموت ؟ ولماذا يحتم علينا أن نمارس لعبته طوال حياتنا ؟؟ ) ص155 .
× الكتاب : رواية ( نهر الرمان / تجربة موت )
× المؤلف : الأستاذ شوقي كريم حسن
جمعة عبدالله