للاستياء من موسكو جذور تاريخية عميقة في أوكرانيا، ففي المجاعة الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، مات نحو أربعة ملايين أوكراني خلال تطبيق السلطات السوفيتية، تحت قيادة الديكتاتور جوزيف ستالين، سياسة المزارع الجماعية، التي اعتمدتها الحكومة لتغيير الزراعة التقليدية في الاتحاد السوفيتي وتقليل القوة الاقتصادية للفلاحين، إذ أُجبروا على التخلي عن مزارعهم الفردية والانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة.
زار مراسل بي بي سي، فيرغال كين، مدينة كاركيف الشرقية بالقرب من الحدود الروسية، والتقى ببعض من الناجين من المجاعة.
هرعوا إلى إغلاق الباب وإغلاق نوافذ المنزل الخشبي الصغير التي كانت تهتز بسبب اقتتال الرجال في الخارج. يتذكر بترو موهلات، البالغ من العمر الآن 95 عاما، أولى ما كان يعرف بـ”غارات الطعام” في شتاء عام 1932.
كان عمره خمس سنوات عندما وصل “اللواء” الشيوعي إلى القرية. طلبت جدته من الأطفال الإسراع إلى أي مكان يمكنهم الاختباء فيه.
يتذكر قائلا: “كان الأمر مخيفا للغاية. كانت لدى اللواء أدوات حراثة كالشوكة والرفش وكانوا يأتون إلى كل منزل بحثا عن الخبز والطعام…استخدموا أدوات حديدة للدخول، ثم ذهبوا إلى جميع الحظائر في محاولة للعثور على أي خبز مخبأ أو مدفون في الأرض”.
وبناء على أوامر ستالين، صادر المسؤولون الشيوعيون الطعام ومنعوا الفلاحين من مغادرة قراهم للبحث عن الإمدادات. لقد كانوا يُعاقبون على مقاومتهم ورفضهم لسياسة المزارع الجماعية القسرية.
تصف أوكرانيا مقتل ما يقدر بأربعة ملايين شخص في المجاعة بين عامي 1932-1933 بـ “هولودومور” والتي تعني حرفيا القتل عن طريق التجويع.
واليوم وفي ظل مخاوف من غزو روسي لبلادهم، تؤجج ذكريات ما عاناه الأوكرانيون على يد الكرملين السخط والاستياء من موسكو.
يقول السيد موهلات: “كان على والدي أن يعطي كل شيء للمزرعة الجماعية، البقرة والحصان وحتى الدلو الذي كان لدينا، لقد جعل الأمر والدتي غاضبة لأبعد الحدود”.
يعيش موهلات في كوخ بالقرب من قرية كوفيهي، على بعد حوالي 60 كيلومترا (37 ميلا) من الحدود الروسية، على طول طريق ضيق ذي أشجار كثيفة تتساقط فيه الثلوج حيث تصبح الحقول مظلمة عند المغيب. بالنسبة للناجين الباقين من المجاعة، هذا مشهد يستحضر أشباح الماضي.
تتذكر أولكساندرا زاهاروفا، البالغة من العمر 98 عاما، الجوع الذي استمر طويلا، والبحث اليائس عن الطعام ووجوه الموتى.
“ما الذي كان بإمكاني أن أراه ؟” تتساءل أولكساندرا بطريقة بلاغية، وتمضي للقول: “لقد رأيت أناسا ماتوا.. وآخرين حفروا حفرة كبيرة وألقوا جميع الجثث فيها”.
تمكن والدها من الهرب وسافر إلى غرب أوكرانيا مصطحبا ما تبقى من ممتلكات العائلة الثمينة، في محاولة للحصول على الطعام مقابلها.
تقول: “لكنه لم يحصل على شيء..لقد فقدنا كل شيء”.
خدم حفيد أولكساندرا، دميترو، الذي كبر وترعرع على سماع قصصها عن المجاعة الكبرى، مع الجيش الأوكراني في شرق البلاد. إنه الآن مع وحدته يستعد للدفاع عن البلاد في حالة حدوث غزو.
على الرغم من أن أجزاء أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق، عانت أيضا من سياسات ستالين الزراعية المدمرة والقمع الوحشي، إلا أن الخسائر في الأرواح في أوكرانيا كانت هي الأكبر.
تنكر روسيا أن الأوكرانيين كانوا مستهدفين سياسيا بالمجاعة لأن جوزيف ستالين كان يخشى من تنامي المشاعر القومية لديهم، فقبل ما يزيد قليلا عن عقد من الزمن كانوا يقاتلون من أجل إقامة دولة مستقلة، لكنهم هزموا على يد الجيش الأحمر(الجيش السوفيتي).
إن واقع أن المحكمة العليا الروسية أمرت مؤخرا بإغلاق منظمة ميموريال Memorial، وهي أقدم منظمة غير حكومية في روسيا مكرسة للكشف عن الاضطهاد في الحقبة السوفيتية، يشي بالكثير بالنسبة للمواقف الرسمية الروسية.
فقد اتُهمت المنظمة بتصوير الاتحاد السوفياتي على أنه دولة “إرهابية” بدلا من “الاعتزاز بماضينا المجيد”.
في الطابق السفلي المظلم البارد لمعهد كييف للذاكرة الوطنية، يخيم شبح الماضي على المكان، فهذا هو المكان الذي اختفى فيه سجناء، ومن بينهم الكثير ممن اعتقلوا خلال حملات القمع والاضطهاد التي صاحبت المجاعة.
كنت قد ذهبت لزيارة مدير المعهد، الدكتور أنطون دروبوفيتش، عندما أخبرني أن المبنى كان مقرا للشرطة السرية ذات مرة، لقد قُتل جده على يد نظام ستالين.
لم يكن لدينا سوى أضواء هواتفنا المحمولة، مشينا على طول ممرات ضيقة، متجاوزين شبكة الخلايا السرية التي مر الآلاف من خلالها في طريقهم للتعذيب والموت.
يحرص الدكتور دروبوفيتش على الإشارة إلى أن المسؤولية عن أهوال تلك الفترة لا تقع على عاتق ستالين وحده، إذ لم يكن من الممكن أن يحدث القمع وفرض سياسة المزارع الجماعية القسرية لولا مشاركة أعداد كبيرة من المسؤولين الشيوعيين الأوكرانيين.
إنه يرى في محاولات روسيا الحديثة لفرض إرادتها على أوكرانيا أصداء مقلقة للماضي السوفيتي.
“إنهم يحمون ستالين، ويخفون الحقيقة، ويهاجموننا… إنهم لا يعترفون بنا كدولة مستقلة، لكن لماذا؟ لا نفهم السبب”.
كما تعلم جميع الدول، فإن الذاكرة سلاح قوي، وقصة المجاعة الكبرى التي حصلت في ثلاثينيات القرن الماضي تعد أساسية لفكرة أوكرانيا عن نفسها كدولة تتحدى الهيمنة الروسية.
عند تذكر رعب المجاعة، تشعر أولكساندرا زاهاروفا بأن هناك مسؤولية تقع على عاتقها لنقل ما تتذكره من أهوالها.
لكن عندما سألتها عما إذا كانت قادرة على التمتع بحياة جيدة بعد النجاة من المجاعة الكبرى، تروي كيف مات اثنان من أطفالها في مجاعة لاحقة. نعم لقد نجت، لكنها لم تكن حياة يرغب أي شخص في أن يعيشها.