عندما اعلنت أمريكا وبريطانيا ومعها العالم الغربي الأطاحة بنظام صدام حسين بحجة امتلاكه اسلحة الدمار الشامل والتي اكتشفت لاحقا انها مجرد كذبة او ذريعة لأحتلال بلد دون تفويض أممي, ولكن كان الصمت العربي مباركا لذلك, بل ان بعض الدول العربية وقفت علنا مع اجتياح العراق انتقاما من نظام دكتاتوري عبث في الأمن الأقليمي بما يكفي” بل وان اولى عمليات القصف الأمريكي انطلقت من قواعد امريكية جاثمة في اراض عربية”, دون حسبانا يذكر لتلك الدول ان الاحتلال يعني زرع الفوضى في البلد المحتل بما يفضي الى اختلالات أمنية اقليمية لا تحمد عقباها كما نشهدها اليوم ولكن غباء الأنظمة العربية بطبيعته يعيد انتاج الفوضى اضعافا دون حسبانا للنتائج, والأسوء عندما تستعين بالشيطان للخلاص من شيطان آخر فأنك تقع ضحية حسابات الشيطان الأقوى الذي يبحث عن مصالحه وبالتالي يفرض الشيطان الأقوى شروطه عليك ويدفعك الى دفع فاتورة التكلفة.
أما روسيا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي فقد سلمت العراق لمصيره الأمريكي أنطلاقا من حسابات المصلحة الأنانية الضيقة وسكتت على احتلاله حيث رأت ان مصالحها تتقدم على أي مصلحة أخرى, وقد حسبت روسيا كثيرا لتقاسم الكعكة العراقية مع الاحتلال الأمريكي وفي مقدمتها استمرار لعقودها الأقتصادية المبرمة مع نظام صدام حسين, وقد تعطلت لاحقا الشراكة الاقتصادية مع العراق بعد أن كانت موسكو وقعت بالفعل مع بغداد قبل الغزو عقودا قيمتها 40 مليار دولار لإتمام أكثر من مائة مشروع بأيد روسية. كما كانت روسيا المصدر الأول للمعدات الصناعية والزراعية الثقيلة، ومصدر توريد وتشغيل محطات توليد الطاقة في مواقع عراقية ولكن الاحتلال الأمريكي فرض شروطه بأن الدول التي لم تساهم مباشرة في الأحتلال لا يمكن لها ان تساهم في حصة ما في الكعكة العراقية. وبصورة غير مباشرة كان خروج الروس من العراق رسالة قرأ فيها تحالف قوات الاحتلال في العراق أن موسكو لا تملك سوى النقد والدعوة لتسليم السلطة للعراقيين وإقامة حياة “ديمقراطية” دون أن تكون مستعدة لدفع ثمن، رغم انها خسرت كثيرا في الأموال والأرواح في بداية الأحتلال, ولكن مصالحها الأقتصادية مع الغرب وتداخل الأقتصاد الروسي مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي جعلها في موقف المتفرج على ما يجري للعراق من خراب شامل انطلاقا من مصالحها الأقتصادية والجيوبوليتيكية.
وفي فهم طبيعة النظام الروسي اليوم بعد تفكك الأتحاد السوفيتي فأنه لم يكن نظاما اشتراكيا او شيوعيا كما كان بل انه نظام رأسمالي هجين لم تتضح بنيته السياسية الأقتصادية وتوجهاته العامة, وللأسف تلعب ذاكرة الوعي الجمعي السابق دورا كبيرا في الدفاع عن روسيا اليوم بأنه نظام اشتراكي او شيوعي ويجب الوقوف معه ضد “الهجمة الأمبريالية الشرسة” في حربه مع أوكرانيا وهذا أمر غير صحيح ويلقي بظلاله على المزيد من تشوهات الوعي في فهم الصراع الدائر الآن بين روسيا وأوكرانيا, فقد ساهمت المنظومة الأشتراكية سابقا في الحفاظ على السلم العالمي الأمر الذي منع اندلاع اي حرب من هذا النوع وإن كانت قائمة على اساس توازن الرعب, ولكن ثقافة العودة الى الأمبراطورية الروسية التي يجسدها الخطاب القومي والشعبوي الروسي اليوم هي مصادر تهديد السلم العالمي الذي يشهد انتعاش الشعبويات والهويات الأثنية والدينية المتطرفة والقومية الشوفينية المتعجرفة والمتحالفة مع النظام الروسي رغم ادانتها للأحتلال للغزو الروسي لأوكرانيا وخاصة تلك القوى التي تنتعش الآن في اوربا الغربية, لأن ديمقراتياتها لا تسمح لها بالتمادي في استباحة الآخر, ونتذكر جيدا كيف احتج الرأي الغربي العام على احتلال العراق والوقوف ضده.
ولفهم مزيدا من طبيعة النظام الروسي اليوم يقول الكاتب الروسي ميخائيل زيغار في كتابه المعنون” كل جيش الكرملين: تاريخ روسيا المعاصرة ” وهو مخصص لدراسة الحقبة البوتينية. يقول الكاتب: ” من المتعارف عليه في روسيا، أن جميع القرارات يتخذها شخص واحد: فلاديمير بوتين. هذا صحيح جزئياً. في الحقيقة، جميع القرارات يتخذها بوتين. لكن بوتين ليس شخصاً واحداً. إنه عقل جمعي كبير. عشرات، بل ومئات من الناس يخمّنون يومياً ماهي القرارات التي يجب أن يتخذها بوتين. وفلاديمير بوتين نفسه يخمن طيلة الوقت، ما هي القرارات التي عليه اتخاذها، كي يكون ذا شعبية، كي يكون مفهوماً ويحظى بتأييد “فلاديمير بوتين الجمعي الكبير”
إن هذه أسطورة مهمة جداً: أن كل شيء في روسيا متعلق ببوتين، ومن دونه سيتغير كل شيء وصورة بوتين الحالية – القيصر الروسي الرهيب – قد صيغت له، وغالباً من دون مشاركته: من قبل الحاشية، والشركاء الأجانب، والصحافيين”.
“فلاديمير بوتين الجمعي هذا كان يشيد طيلة هذه السنوات ذكرياته، كي يثبت لنفسه أنه على حق. كي يقنع نفسه بأن أفعاله منطقية وأن لديه خطة واستراتيجية، وأنه لم يرتكب أخطاء، بل كان مضطراً إلى التصرف على هذا النحو، لأنه كان يصارع الأعداء، ويخوض حرباً قاسية ومستمرة. ويقول الكاتب ايضا لهذا فإن كتابي هو تاريخ حرب متخيلة. حرب يُحظر عليها أن تنتهي، وإلا سنضطر إلى الاعتراف بأنها لم تكن موجودة أصلاً. نحن جميعاً اخترعنا لأنفسنا شخصية بوتين التي تروقنا. وعلى الأغلب، لن تكون الشخصية الأخيرة”.
تلك هي طبيعة الحكم في روسيا كما يشير أليها الكاتب والمتحالفة مع طغمة الأوليغارشية من كبار الأغنياء الروس في الداخل والخارج والذين يبحثون دوما عن بقاء روسيا غير مستقرة وآمنة من خلال البحث الدائم في صناعة الأعداء من المقربين والبعيدين والأندفاع نحو افتعال الحروب والمهاترات مع الجيران تحت ادعاء تهديد امن روسيا القومي من خلال التهديد الأوربي الغربي” أو تهديد الجيران الذين لا يمتلكون الخبرة السياسية في ادارة المعضلات العالقة بين روسيا وبقايا الاتحاد السوفيتي سابقا”, وهو المتحالف معهم وجزء منهم في منظومة الأقنصاد الرأسمالي العالمي وخاصة في ابعاد الطاقة والغاز والتكنولوجيا والمعلومات وغيرها, ولكن الأوليغارشية تبحث عن عوامل اللأستقرار لتجد في شخص بوتين القائد الضرورة الذي يجلب لهم الأمن والأمان ويرضي طموحاتهم في الثراء غير المشروع على حساب رقاب الشعب الروسي. بوتين يقع في دائرة الصراع النفسي لحسم منظومة الحكم في روسيا وتوجهاتها الأساسية وهو يخشى دمج منظومة الحكم كاملة مع المفهوم الغربي للديمقراطية والتعددية واقتصاديات السوق, وهو لم يختار الطريق الصيني لأنه ليست شيوعيا بل وينتقد لينين وغيره من القادة التاريخين في تنازلاتهم المؤقتة السابقة في مختلف الأحلاف العالمية, فالعالم يعرف الصين اليوم بنظامها المزدوج” شيوعية في الداخل ورأسمالية في الخارج ” والعالم يتعامل معها على هذا الأساس رغم صراعات العالم الغربي معها وخاصة في جزئية حرية التعبير والتعددية السياسية وحقوق الأنسان.
أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا ورأت في الغزو عملية جراحية سريعة تستسلم فيها اوكرانيا لشروط روسيا في حل مشاكل الأقليات الروسية التي تتعرض الى خطاب الأقصاء من قبل النخبة الحاكمة في اوكرانيا وهو خطاب يستفز مشاعر الحكم في روسيا منذ سنوات ويستثير لديها استخدام القوة في حل النزاع وهو أمر غير صحيح في ظل موازين القوى الدولية, وهنا التسائل” أين حكمة الدب الروسي” خلال عقود مضت, اما من الطرف الأوكراني فهو يعكس ضعف الأداء في مواجهة هكذا تحديات وهو ناتج بالأصل من هشاشة قياداته السياسية وضعف مقدراتها للمناورة مع القيادة الروسية ذات الجذور المخابراتية, وهنا تبرز مشكلة الديمقراطية وانتخاب نخبها السياسية من قبل الشعب بما يتماشى مع حجم المهمات الملقاة على عاتقها في ادارة الصراع الأقليمي وهو شبيه في الحالة
العراقية التي تفتقد الى النخب السياسية الكفوءة” مع الفارق هنا ان العراق استخدم الدين في اقصى مداياته وزجه في السياسية من خلال المرجعيات الدينية والخطاب الأسلاموي السياسي والاثني المعرقل بطبيعته لأي ديمقراطية ناشئة. في الحالة الأوكرانية تم استنهاض الخطاب المعادي لروسيا وللأقليات الروسية وهو يعكس جهالة القيادة الأوكرانية بنتائج هذا الخطاب مع جار كانت بالأمس اوكرانيا جزء منه, وهنا تتحمل الشعوب جزء من المشكلة في اختيار قياداتها السياسية في ديمقراطيات قيد الممارسة والتهذيب.
لم يكن الغزو عملية جراحية سريعة او كما يسميها الروس عملية خاصة بل هي عملية طويلة الأمد على ما يبدوا وهناك فرق بين سيكولوجيا القوى الغازية والقوى المعتدى عليها فمعنويات الأخيرة على ما يبدوا جيدة انظلاقا من مشروعيتها في الدفاع عن نفسها ووطنها” بعيدا عن التفاصيل ” اما الغازي فحلفائه اغلبهم من النظم السياسية المشكوك في امرها وهذا يضعه في دائرة الضعف المستمر, وخاصة ان الطرف المعتدى عليه يتمتع بتحالفات اغلب دول العالم وبالتالي ينتزع الشرعية من القوى الغازية بغض النظر عن ما تمتلك من حق في الدفاع عن الأقليات القومية هناك, لأن استباحة دولة لأخرى بأسلوب الخراب الشامل يفقدك المشروعية في حق الدفاع عن قضيتك ويجب ان تكون اساليبك تنسجم مع غاياتك المعلنة, وخاصة ان الطرف المعتدى عليه لا يمتلك ربع قوتك, وهنا يطال الشك بنواياك, هل فعلا حماية الأقليات ومحاربة النازيين الجدد أم استباحة بلد وتخريبه بما لا يقف لاحقا على قدميه, تحت هواجس الدفاع والحفاظ على الأمن القومي الروسي.
بالتأكيد ان حسابات روسيا كانت خاطئة ولم تكن بالمستوى الجيد لأستشراف مستقبل العمليات العسكرية والتائج المترتبة عليها, اليوم يحاصر العالم الغربي روسيا اقتصاديا وسياسيا ويستغني تدريجيا عن نفطها وغازها ومنتوجاتها المختلفة رغم ان العقوبات هذه من النوع المرتد فله نتائجه على الغرب نفسه الذي فرضها ولكن فرص الغرب في البحث عن بدائل اوسع بكثير عن وقع اثار الحصار على روسيا, وهناك اعتراف رسمي روسي بأثر العقوبات عليها لأنها غير متوقعة من الجانب الروسي وهو يعبر عن عجز في الرؤيا الروسية لما حصل, فحتى الصين الحليف القوي لروسيا يستثمر الأزمة لمصلحته والاستفادة منها في ايجاد فرص استثمار جديده لدى الغرب جراء العقوبات المفروضة على روسيا ” مصائب قوم عند قوم فوائد ”
كما يقال أن الأمور تعرف بخاتمتها فهل استدرج الغرب روسيا الى المستنقع الأوكراني للأنقضاض عليها واضعاف قوتها في حرب استنزاف طويلة الأمد مقرونة بعقوبات اقتصادية وسياسية وذات اثار اجتماعية لا تطاق في الداخل الروسي قد تفضي الى سيناريوهات محتلفة, ام ان روسيا اختارت ظرفا دوليا ليست لمصلحتها وبالتالي تتحمل كل تبعاته, رغم بعض من مشروعيتها في الشكوى من تمدد حلف الناتو المستمر قرب حدودها بما ينذر في تقويضها واضعافها ام هي فوبيا روسيه في تمدد الأطلسي وهي جزء من منظومة الأقتصاد العالمي ومستفيد رئيسي منه اسوة بالغرب الذي لا يستغني عن روسيا وقد اضطر لذلك الآن.
كل السيناريوهات المقبلة صعبة وسوداء بنتائجها: ازمة غذاء عالمية وارتفاع اسعار جنوني في اسعار الطاقة كالنفط والغاز وشحة في المواد الغذائية وازمات اقتصادية واجتماعية وخاصة في المجتمعات الهشة التي تعتمد بشكل اساسي على الاستيراد من الخارج, ومزيدا من الاضطرابات الاجتماعية من اضرابات وبطالة وتدهور الحياة الصحية والمعيشية والتدني الأضطراري للأجور والرواتب وعدم مقابلتها لأرتفاع اسعار السلع والخدمات الى جانب ما يترتب عليه من هشاشة للأمن المجتمعي والأقليمي لمختلف دول العالم, وهنا يصح القول ان العالم قرية في سرائه وضرائه.
اما السيناريوهات الأخرى بين طرفي النزاع منفردة روسية ـ اوكرانية فهناك اسئلة كثيره بمدى توقعها وجدواها: منها تحول اوكرانيا الى ارض للتنظيمات الأرهابية الدولية, فكلا الطرفين الروسي والأوكراني يرحب بدخول مرتزقة من خارج الحدود ومن الشرق الأوسط خاصة للمقاتلة بجانب اطراف الصراع وبالتالي تتحول اوكرانيا الى ارض خصبة للتنظيمات الارهابية بمختلف الاجندة العقائدية والشلليلة ومجاميع اجرامية وهو سيناريو خطر لا يمكن التحكم به كما هو في داعش, السيناريو الآخر استسلام اوكرانيا للقوات الروسية تحت ضربات الصواريخ والخراب الهائل ولكن الموقف لا يسمح بذلك فهو انهيار لنظام ديمقراطي بتلك الطريقة المفجعة للديمقراطية امر مستبعد ومن هنا يستمر الدعم الغربي العسكري لأوكرانيا وبقائها مقاومة للغزو, من الجانب الآخر هو ان الجيش الروسي لا يرى جدوى من هكذا حرب وبالتالي يمتنع عن تنفيذ الاوامر ولكنه صعب الآن, استخدام السلاح النووي من قبل روسيا بعد التضيق عليها من قبل الغرب ولكنه خيار مستبعد لأنه يقضي على الجميع وطموحات روسيا في مقدمتها, سقوط بوتين ونهاية حكمه وارتباط بتصاعد الازمات الاقتصادية والاجتماعية داحل روسيا مع تفاقم نسب الفقر والبطالة وانعدام الحريات في الداخل, ولكن تحالف الأوليغارشية مع بوتين قد يطيل امد السقوط. والمعادلة الأكثر حسما بنتائجها هو صمود الجيش والشعب الأوكراني.
اما نحن هنا فنقول ان الحرب الروسية ـ الأوكرانية هي نسخة قذرة ايضا ومكررة من الحرب العراقية ـ الأيرانية وهي نتاج لعقول اطراف الصراع المتحجرة والتي اندفعت نحو تفضيل غريزة الموت والتدمير على غريزة الحب والبناء تحت وطأة تأثير نظرية المؤامرة التي تلغي مكانة العقل وتستفز الانفعالات الى مزيدا من التهور واللاعقلانية, والأنحياز الى حد اطراف الصراع هو انحياز للموت والقتل والخراب, وقد تعلمنا من حروبنا الداخلية والخارجية الكثير من الفضائل وفي مقدمتها حرمة دم الأبرياء من الاطفال والامهات والشيوخ وضرورة الحفاظ على الممتلكات الخاصة والمال العام.
روسيا واوكرانيا اخوة في الدم والثقافة المشتركة وفي الأصول الأثنية والعرقية والمصير المشترك واللعنة على مشعلي الحروب, ومن حفر بئر لأخيه وقع فيه !!!!.