ايفان سرغييفيتش تورغينيف بريشة الفنان الروسي ايليا ايفوموفيتش ريبين
تحتفل الأوساط الأدبية في روسيا والعالم في هذه الأيام بمناسبة مرور 200 عام على مولد الكاتب الروسي الكبير ايفان تورغينيف (1818-1883) ، فتعقد المؤتمرات عن إبداعه وتفتتح المعارض وتجري الإحتفالات في الأماكن التي عاش الكاتب أو قضى فترة النفي فيها، بينما تقدم المسارح العديد من مسرحياته الكثيرة . وإفتتح الرئيس فلاديمير بوتين نصب تورغينيف بوسط موسكو. إن أعمال هذا الكاتب الفذ تعد بمثابة مرآة حياة المجتمع الروسي في فترة عصيبة سبقت إلغاء القنانة وبعده، ونشوء الممهدات لإجراء اصلاحات شاملة في الدولة. وآنذاك آمل تورغينيف مثل الكثيرين من النخبة المثقفة في روسيا في أن زمن التغيير آت لا محالة، بيد أن هذا الأمل كان مجرد سراب يحسبه الضمآن ماء، لكنه إذا اقترب منه لا يجد سوى الرمال.
لقد ترك تورغينيف أثرا عميقا في الأدب الروسي بما كتبه من روايات ومسرحيات وقصص. وتبقى أعماله -” مو مو ” و” مذكرات صياد ” و” الأبناء والبنون” و“عش النبلاء“و“في العشية ” و” شهر في القرية” وغيرها بكونها من روائع الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا . كما يعود إليه الفضل في تعريف أوروبا بكنوز الأدب الروسي التي أبدعها بوشكين وغوغول وسالتيكوف – شيدرين ، وكذلك بالفولكلور الروسي على لسان إبطاله من الفلاحين والفقراء ، حيث كان في الفترة الطويلة التي عاشها في المهجر على صلة دائمة بكبار كتاب فرنسا والمانيا وانكلترا. علما إنه إختار بنفسه حياة المهجر لأنه تتوفر فيها الحرية في الإعراب عن أراءه بصدد الوضع في وطنه. زد على ذلك عاش الكاتب في أيام شبابه في المانيا حيث درس في جامعاتها ومن ثم في فرنسا وبلدان اوروبية أخرى لإعجابه بما فيها من الرقي المادي والعقلي والحرية النسبية وهو ما لم يجده في وطنه. علما بأنه سار في هذا الدرب العديد من الأدباء والفنانين والموسيقيين الروس آنذاك حيث عاش في فترات مختلفة كل من دوستويفسكي في المانيا وغوغول في ايطاليا وغوركي في كابري وهلمجرا. وهكذا عاش في اوروبا ايفان تورغينيف الارستقراطي سليل أسرة النبلاء والثري والذكي والمتعلم، وكان منصرفا الى نفسه ناعم البال، وإنهمك في الكتابة، ولم يشغل باله سوى التعلق بالممثلة بولينا فياردو التي رافقها في كل مكان خلال جولاتها الفنية.
ولج تورغينيف عالم الأدب في سن مبكرة منذ أن إنتقلت عائلته من الضيعة سباسكويه – لوتوفينوفو الى موسكو في عام 1824 . وكان سبب إنتقال العائلة هو إتاحة الفرصة للولدين ايفان ونقولاي للحصول على التعليم اللائق في المدينة. وكان الأب يتمنى أن يلتحق ولداه بالمعاهد العسكرية . لكن ايفان رفض ذلك وإلتحق بقسم فقه اللغة في جامعة موسكو . وفي هذه الفترة كان غالبا ما يرتاد الصالونات الأدبية بموسكو حيث كان يحتدم الجدل حول مصائر روسيا وأصالتها القومية وتاريخها وحول الثقافة الغربية. كما كان غالبا ما يرتاد مسارح المدينة، وكتب عندئذ أولى مسرحياته التي قدمت لاحقا على خشبة المسرح وحققت نجاحا كبيرا.
لكن الأمر الغريب إن هذا الكاتب الذي أمضى الشطر الأكبر من حياته في المهجر كتب عن الحياة الريفية وحياة النخبة الروسية بصدق يحسده عليه الكثير من معاصريه القاطنين في روسيا. وتناول تورغينيف بعض القضايا بحدة مثل موقفه من بقاء وضع الأقنان البائس وانتشار الروح العدمية ” النهيليزم” في أوساط الشباب ووضع المرأة المجحف، كما صورها في شخصياته من ” صبايا تورغينيف” ذوات المصائر المؤلمة. وسخر في رواية ” الدخان ” من أفراد النخبة الذين يأتون الى بادن–بادن في المانيا للإصطياف، وقارن فيها مجتمع النخبة في روسيا بمثيلته المجتمع في
محرري جريدة “سفريمنيك“، الواقفون من اليسار ليف تولستوي و د. غرغوريفيتش، والجالسوم من اليسار أي غونجاروف و أي ترغينيف و أ. أوستروفسكي و أي. دروشينين – عام 1856
المانيا والبون الشاسع الذي يفصل ما بين هذين المجتمعين. وقد أثارت هذه الرواية إستنكار حتى صديقه دوستويفسكي ذي النزعة السلافية والفقير الذي كان يختلف عنه في كل الصفات وعاش حياة العوز والفاقة وعانى من المرض في نلك الفترة. إذ كان دوستويفسكي من إنصار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وتمسك بإفكار دعاة “الإنتماء الى تربة الوطن “(بوتشفينيكي) وليس مثل تورغينيف الذي كان ملحدا ومن دعاة “الإنتماء الى الغرب“(زابدنيكي). وكان تورغينيف يتمنى أن يتخلص المجتمع الروسي من رواسب النظام القديم الذي إعتبره إمتدادا لتقاليد أزمان سيطرة المغول والتتار على روسيا خلال قرنين من الزمن، حيث يتسلط القيصر على جميع مرافق الحياة ومصائر الناس. وقد رد دوستويفسكي على نشر رواية ” الدخان ” بكتابة رواية “الممسوسون” (الشياطين) التي ضمنها صورة كاريكاتوريه للبطل كارمازينوف. ويشير الباحثون الى إحتدام الجدل بين الكاتبين في اللقاء بينهما في بادن– بادن، وحاول دوستويفسكي إقناع تورغينيف بأن المجتمع الغربي يسوده الفساد وإنعدام القيم وليس المجتمع الروسي. ولكن بلا جدوى.إذ كان تورغينيف يؤمن أشد الإيمان بأفكار “التقدم ” التي يجب أن تسود في نهاية المطاف بروسيا. ورفض كل الرفض الثورات بأي شكل كان. ولكنه آمن في الوقت نفسه بوجود سمات خاصة لدى الإنسان الروسي يجب الحفاظ عليها، هذه السمات التي ترتبط بالمناخ والتقاليد والتاريخ . لهذا نجد الكاتب يتطلع في آن واحد الى الشرق والغرب كما يرمز الى ذلك شعار الدولة الروسية ذو رأسي النسر المتطلعين نحو الشرق والغرب.
إن ردود الأفعال على صدور الطبعة الأولى من ” الدخان ” جعلت تورغينيف يؤكد في مقدمة الطبعة الثانية من الرواية إنه لا يرغب في الرد على جميع التهجمات عليه في الصحافة الروسية بسبب هذه الرواية، كما نصحه بعض الأصدقاء، لأن الرد سيكون بمثابة تبرير لما كتبه . لكن هذا بالذات ما لا يرغب فيه البتة . إن الانتماء الى الوطن – روسيا أمر لا يريد أن يبحثه مع أحد لأنه لا يشعر بالذنب أبدا عما كتبه حول الوضع الحقيقي للنخبة الروسية الضائعة وسط التيارات السياسية المختلفة التي سادت في البلاد بعد إلغاء نظام القنانة. وكتب في مقدمة الطبعة الثانية خلال وجوده في بادن – بادن :” إن أية حجج لن تقنع أولئك الذين لا يريدون او لا يستطيعون إدراك الفكرة الكامنة في أساس شخصية بطل الرواية بوتوجين، وهي الشخصية التي تسئ أكثر من غيرها الى الشعور الوطني لدى الجمهور. دع هذه الشخصية تتحدث عن نفسها بنفسها. ويكتفي المؤلف بأن يكسبها سمات جديدة عديدة، تفسر بقدر أكبرأقواله حقيقة جوهره وفكره. ولن يرد المؤلف على الإتهامات الموجهة إليه بأنه مارق وملفق ولا يعرف روسيا بصورة نزيهة وهلمجرا“.
وتحضرني بهذه المناسبة ما قاله الكاتب الراحل غائب طعمة فرمان حين سألته عن السبب الذي يجعله لا يتناول في رواياته حياة العراقيين في المهجر، (كما فعل تورغينيف في رواية ” الدخان“)، فقال أن السلبيات في الشخصيات العراقية بموسكو التي لقيها كثيرة. لهذا لا يريد التطرق إليها. ويبدو أن تورغينيف قرر في زمانه أن يلج هذا الدرب الوعر– الكتابة عن الروس في المهجر – مهما كانت العواقب. وفي الواقع إن هذه الرواية تعتبر الأكثر إشكالية من بين جميع أعمال تورغينيف المعروفة ، لكنها لا تجد الإقبال الكبير لدى القراء الذين يميلون عادة الى مطالعة ما تجلب لهم المتعة والتسلية وليس التأمل والتفكير. وتحدث تورغينيف في ” الدخان” عن أجواء الغموض في الوضع السياسي والاقتصادي في روسيا بعدإلغاء نظام القنانة والتي عانى منها شخصيا . فقد عاد الى ضيعته سباسكويه ليجد الفوضى والخراب وتمرد الفلاحين على جيرانه من أصحاب الأطيان. ووصف الحال في رسالة وجهها الى صديقه ي.لامبرت بما يلي:”يقول بعض علماء الفلك إن الشهب تتحول الى كواكب بأنتقالها من الوضع الغازي الى الوضع الصلب. أن الوضع الغازي العام في روسيا يحيرني ويرغمني على الإعتقاد بأننا ما زلنا بعيدين عن بلوغ وضع التشكل بهيئة كوكب. فلا يوجد اي شئ قوي وصلب – لا توجد بذرة في أي مكان، ناهيك الحديث عن شرائح المجتمع – فلا وجود لها في الشعب“.
إن حياة تورغينيف مليئة بالتناقضات ، ويمكن القول إنها “رواية” بحد ذاتها. وهذه “الرواية ” تحظى بإهتمام الباحثين على الدوام منذ صدور كتابه ” مذكرات صياد“. ويبدو لأول وهلة أنه كان كان رجلا محظوظا وسعيدا حيث لم يعاني من صعوبة العيش والفاقة أبدا، وكان يجد دوما الترحيب في الأوساط الأدبية في جميع العواصم الأوروبية. ولكنه لم يجد ” العش” العائلي الذي يستقر فيه بصورة دائما، فغالبا ما كان يعيش لدى الأصدقاء. وعندما توفي بقي جثمانه محفوظا في التابوت في قبو الكنيسة الروسية في باريس بإنتظار سماح القيصر بنقل جثامه ودفنه في روسيا. ولكنه أستقبل خير إستقبال في محطة القطار حيث نقل جثمانه الى المقبرة في بطرسبورغ . واليوم يجد تورغينيف تكريما لم يعرفه في حياته قط ، وهذا حال رجال الفكر العظام في العالم في مختلف الأزمان .
موسكو – عبدالله حبه