كمين غريبو أو مواربات بلاغية: يستثمر بروكا”غريبو”هذا،المكافئ في العربية واصطلاحاتها، ل”المُغترِب”المكدّرب”اضطراب تبدد الشخصية،”إثر تبدد الواقع أوالحقيقة أوالمحيط، والمكيَّف ك”عقدة”في علمي النفس والاجتماع، ككمين مُغرِّر،أوطُعم دلالي ـ بلاغي،مرتكزا على فحاوى مثيولوجية ايزيدية موحية ،ب”نيّة”شقلبة ذهن المتلقي، وقد يلاحظ المقتفي لمقاصد بروكا، انه يريد غاليا بهذا الإستدلال ،التدليل انما على ذاته المنصهرة كليا، ب”غريبو”وعالمه المفعم بالتحدي والإثارة والمتناقضات، بل وقد يتضح ان الشاعر يرمي ،عبر حلوله المُخاتِل ب”غريبو”،التعبيرعن ذات مستلبة ،وهوية تائهة، ووجود مغيّب، فيتلاعب متوسلا بالتوريات والبلاغة، بمعان ومضامين وحقائق، كيما يستدرج متلقيه ،إلى مصيدة”الإيهام الذهني”؛بمعنى ان انتحاب بروكا على “غريبو”، قد يُفهَم منه مرة ندب “ميرمح”،وأخرى الولولة على راهنه الإنساني ،كواقع حضاري مضطرب ،أزّمه جبروت الآخرـ الشريك:”من مدن الحريق،/…أو من ذاكرة الثلج،/الذي فقد عذريته/تحت وطأة أقدام عساكر مجهولين/…ألوان مهزومة ،/ انجراحات مهزومة ،/ دماء مهزومة”. بروكا المُوارِب ،لايتقمص شخصية “غريبو”هكذا جزافا، بل ينطلق من مساحات مشابهة ،لحيثيات سيرويّة خاضها ميرمح؛ بخاصة الإغتراب الذهني والتغرّب والعنفوان والتمرد ،وكي تحبك الأحابيل بإتقان، وتموه تاليا على المتلقي، يستعين الشاعر باقترافات الأمكنة ،ويستثمرها في عمليته الإيهامية ،حيث يواظب على نصب فخاخ الْمَعانِي والبَيانِ والبَديعِ ،وحياكة حيل أسلوبية، تكاد تضل حتى العارف والخبير، فهو حين يحدث عن “دياري فلكي”مثلا، التي يعّربها محمود إلى”تلة الزمان”،يفخخ ما يريد ،ف المسمى يدلل ،كما هو معلوم، على هضبة حظرتها آلهة الزمان ؛” فلكي”،على “ميرمح”،لكن الصدف خدمت ،هنا، أن تتكنى ؛بمعنى تسطو”أكمة” قرب “تل خاتون”؛قرية بروكا ،وهي تتحول إلى “مقبرة ايزيدية”،على”اللقب القدسي”عينه:”ولا زلت انت؛/من زمن النوافذ المتأخرة ،/…، …،/التي تأتي من “غريبو”،/وهي تمضي أبعد/من”تلة الزمان”/ ومن الجنة.”.بروكا يخلط ،متوسلا ب”دياري فلكي”،الحقائق بصورة لاتدري معها ،وأيا كانت فطنتك، متى يقصد ب”غريبو”ميرمح ومتى يعنى نفسه !.
بروكا وقهر غريبو المزدوج : يمتزج لدى بروكا، المنصهر في”غريبو”الوجع ،وتتعدد صوره ،متمرجحة بين الخاص والعام والإنساني، وتتلون معاناته بمغدورتين بارزتين؛ إحداها ترعد بازيديته، والأخرى تزمجر بكردية قحوح ،حتى هاج متنفسا بالشعر،يفرج عن”تراكمات جمعية”مزمنة،ويعترض على مظلومية انسانية ملتهبة،ذات وجهين قيحيين ؛أي يجوب متنهدا برئة “غريبو”، بلاد الأرض ،ليس بحثا عن خلود ،انما فقط سعيا إلى إعتراف:”ولكي يعترف طرفا “الخط الحدوي”/ باسمك،/الاحضر،/الواسع،/ ….،/رصاصة عقب رصاصة،/حربة تلو حربة،/جزمة إثر جزمة،/تهمة باطلة تلو تهمة باطلة”.
بين غريبو وغريبو…آفاق :يُميّز”غريبو”عن “غريبو”،ان “ميرمح” غُرِّرميتافيزيقيا ،فطمح إلى عمر مسرمد ،”بينما بروكا هندز توقه، بغية ابتناء وطن عمرانه من قصائد ،ساحته ذاكرة وحلم، وركائزه طموح ،فعرج لذلك مرور “درويش على عدولة “،على “تثاؤبات آرارات “،مشبعا من”جمرات جودي وهكاري”،ملوحا ب”سيفا خلاتي”،قاطفا إياها من عطاء ربيع ،”كان نوروزا يوميا”،يرقب “حسن خطوات “باغوك”،من أعلى سفحه ،ويثب بجناحين من شعر إلى “جودي” ،ثم “آمد “ثم “سيبان خلاتي” ،حتى يعاين من علٍ ،”جراحات حلبجة”،ويغرد عن مقهورية “ديرسم “وظروف لهاث “سيامند” الى “خجي” ثم مصرعه.”غريبو”؛( بروكا)الذي يُحاصَر منذ شهقة “القطار العثماني”الحانق،على “سرخت” و”بنخت “،أضحى يحدّث عن وطن مقدد ،فينفتح حتى يرفه عن قلبه،على آغا الحرائق ؛”محمد سعيد الدقوري”،الذي قضى حرقا،وهو ينقذ الأطفال من لهب “سينما عامودا” ،ويستحضر”مهاباد”و”القاضي محمد”، ك”حيلة دفاعية”،أو”تسامي”،أو”تعويض نفسي”عن كل هذا النكوص ،في العقل الجمعي الكردي.كل أرض”سرخت “و”بنخت “وطن لبروكا ،وحكايته مع المكان حكاية عشق مفتوحة ،تحفزه”عيشانة علي”،بشذوها ،وتجتذبه حنجرة “محمد عارف “الجزراوي ،و”محمد شيخو”،فينطلق ك”أفعوان شيخمند البركيّ” ،من”وقائع أربعاءات الغبار”،على أجنحة “ديك العرش”،باندفاع يوازي هياج”ثور السماء “،كي يمرح في فضاء”كان وطنا اربعائيا ومجبولا”.
الكردي ـ الحجل بين بروكا ومحمود :بروكا متذمرا من”أوادم السقوط وحواءات الخداع”،ومثقلا من رواسب العقل الجمعي الكردي ،يقبض متكئا على الموروث الثقافي الشعبي ،على وجه شبه بين الكردي ،وحجل فخخه الصياد طُعما، ليوقع حجلا من بني جلدته في الفخاخ .المفارقة ،ان إبراهيم محمود الذي انحازإلى الحجل؛برّأه من تلفيقة “عداوة القوم “،لم ينف ،وهو يدعو إلى تصحيح الصورة النمطية، المغلوطة في الذهنية الكردية ،أن يكون الكردي”عدو قومه”.
مفردات وحَرْفية ترجمة :كُرمى ل(خاطر)”نيومارك”؛أستاذ الترجمة الذي اشترط “البراغماتية”،و”الاتصالية”،بعد أن حذّر من الركون الكلي إلى”الترجمة الحَرفية”،التي قد تفرِّغ كلمات أو نصوصا ما، أحيانا من محتواها، أو تحرمها من”مدلولات ثقافية “،أو أبعاد تاريخية أواسطورية أو قدسية /طقسية فيها، ثم تيمنا ببزوغ”الترجمة الاقتراضية”،فإن”تل الزمان” مثلا لا حصر ، قد تعجر عن التدليل السوي على”دياري فلكي”،وقد لا ترقى”العين البيضاء”،إلى إشباع شحنات طقسية،تقدح بها “كانيا سپي”،والوقع ،وهذه مسألة ذائقة، كان ربما مستساغا أكثر ،لو عبرت الكلمة بملفوظها الكردي ،إلى العربية تماما كعبور”سيباني خلاتي”هنا ،وكذلك” آمد “،و”جودي” ،و”همرين” ،و”باكوك”وهلم جرّا ،ولأثرت ،من ههناك ،المعجم العربي ،ب مفردات ذات مصدركردي.
بروكا داخل”الأعمال”،خارج غريبو و…محتوى كشكوله:”الأعمال”تبهى بمسحة رومانسية طفوحة، وتفوح بحكايا عشق تميّز بروكا وولهه، عن ميرمح المُنشغِل عن الدنيا بالخلود:”مابينك وبين عاشقتك/كانت خطوة من زنبق ،/كنت تبحث/ عن أثر مجرّة /حيث تلمسّك ألمها “.وتهدل ؛أي”الأعمال”بأغاريد إشراقية ،على شكل تجليات أشبه بصوفية، تقرب صاحبها كثيرا إلى جبران وابن عربي والحلاج .
بروكا وهو يغترف من الواقع والفلسفة، والتاريخ والأسطورة والتراث بشقيه الايزيدي ـ الكردي ،يجبل مفردات كشكوله بشاعرية أخّاذة ،وعاطفة متقدة وخيال ثرّ ،بل يبرع عبر اللفظ والدلالة والمعنى ،في ابتداع مشاهد ذات جاذبية إدهاشية،وافتعال سياقات تعتمد على المفارقة والحركية ،ولغة بروكا الشعرية تتقد بفلسفة خاصة تميزه ،وتأتلق بالتصوير المجازي والرمزية والتشكيل الحسي ،على نحو متوافق ،ومقولات “تودوروف “”الشعرية بجانبها البنيوي”،بخاصة لجهة الغموض والإلتباس والخلطً .
النهار