تميزت الشاعرة رفعة يونس في نصوصها الشعرية بآفاق موضوعاتها التي تعبر عنها شعراً، فهي كتبت للوطن بشكل خاص وهي ابنة سلواد المحتلة وأجُبرت وهي في الثالثة عشر من عمرها على النزوح عن الوطن بعد هزيمة 1967، فلا يغيب الوطن عامة وسلواد خاصة عن نصوصها، كذلك مشاعرها تجاه الأسرى في سجون الاحتلال وتجاه شهداء الوطن، والحلم سواء الحلم الوطني أو الشخصي أو الإنساني، والمكان والإنسان كان لهما مكانة كبيرة في نصوصها، وألوان الفرح والوطن والمعاناة الوطنية إضافة للبعدين القومي والإنساني، وفي هذا المقال ارتأيت أن أبحث عن مفهوم وفكرة الأم في نصوص رفعة يونس، فالأم في نصوصها العديدة التي اخترت بعض منها مازجت بين الأم الإنسان التي رحلت، والأرض والوطن الذي نعشقه ولا يمكن أن يرحل ولكنه يعاني من الاحتلال والإغتصاب، وسنلاحظ التأثير الزمني على النصوص بين وجود الأم على قيد الحياة وبين النصوص التي كتبتها بعد رحيل روح والدتها الحاجة قدرية إلى بارئها.
في النص الأول والمعنون “أمي” تعود القصيدة إلى عام 2012 م وكانت من ضمن قصائد ديوانها “أصداء بالمنفى” والصادر عن دار أزمنة بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، سنلاحظ أن الحنين إلى الوطن متكرس بعنوان الديوان، وهذا النص من النصوص الطويلة نسبيا من نصوص الشاعرة التي تعتمد على التكثيف باللغة والمعاني، فلا تطيل النص بمقدار أن النص بتحليله يأخذ مساحة طويلة للوصول إلى ما وراء الكلمات، لكن هذا النص مع تاريخه يمثل بداية التسلسل الزمني للشاعرة وبالتالي سنلاحظ في النصوص التي تليه كيف تأثرت نصوصها بتأثير الزمان وإن بقي المكان هو نفسه بين الوطن وبين المنفى الإجباري.
نجد هذا النص مكون من ثمانية لوحات تصور في الأولى حضور الأم في حياة الشاعرة كما بنفسجة فتهمس: “ تأتينَ…على راحاتِ الفصولِ بنفسجةً”، فتنشر الفرح، رفيف الأزرقِ …شالات حولنا” فتكون النتيجة “..فينساب العُمرُ ..مرتعشاٌ”، وتواصل الوصف في اللوحة الثانية فتصف أمها بأنها “سنبلةً من حنينٍ” فهي من تزيل “صقيع الوحدة”، بينما في اللوحة الثالثة تصف تأثير حضور الأم على المحيط فتقول: “ترف طيور تغني، على وشوشات لأمواجها” فهي ترى أن الزنابق مصدرها “من صدركِ تعبقُ كلُّ الزنابق”، وتواصل الوصف بتشابيه جميلة في اللوحة الرابعة فلأخاديد وجهها بعد أن كبرت وظهرت التجاعيد “تصهل ريح، ويومض برق، رعود.. أمطار تنحني، وغيوم تختال.. تحرسها”، وتواصل هذه اللوحات الإبداعية الجميلة في اللوحة الخامسة حتى الثامنة وتلخص لوحاتها بقولها: “معك العمرُ أخضر”، “معك العمر أجمل”، “خلف أبواب العاشقين”، “معكِ العمر.. أطهر” فالأم عندها “أنقى من قطرات ندىً، من أنفاس وردٍ”، فحتى القصائد من شهد الأم، وفي مقطع خرجت من الخاص إلى العام فتحدثت عن الأمهات في قصائد الشعراء “فراش المعاني، من شهدِها.. في قصائدنا”، لتنهي النص المطول بوصف الأم بأنها “قنديل أنتِ، ونزف الزيت” ومعها العمر “يمتد واحاتٍ.. واحات”.
في نصها الثاني ويحمل نفس إسم النص الأول “أمي” وهو أحد نصوص ديوانها “مغناة الليلك” والصادر عن دار البيروني في عمَّان 2016م وكتبت النص في عام 2015 وهو مكون من أربع لوحات شعرية تبدأ بالتساؤل في لوحتها الأولى: “لِمَ تاهت في ملكوت الشّقاءِ، خطانا” ليأتي الجواب مع وصف الحال مباشرة بقولها: “حين ابتعدنا عن وجهكِ، عن طهره” والنتيجة في اللوحة الثانية “هربتْ من سمانا ..كلُّ أغاني الشّتاءِ” وعن ” الشّوقِ في العيْنيْنِ، وعن دفءِ الراحتين”، وفي اللوحة الثالثة تصف الحال الراحتين “لكم فيهما، أورق العمر.. واخضرَّ”، وتربط بين الأم والأرض بالبعد المكاني عن الأم وعن الوطن فتهمس “عن عطر ثوبك عن حاكورة أزهاره” فالثوب الفلسطيني مطرز بأزهار الأرض، فتشتاق لصوت أمها: “لصوتكِ حين ينادي، فيشرق في أفقنا.. أمل”، هذا الأمل الذي “يغرق الدنيا.. شالات حرير”، والشال هو من ترتديه المرأة مع الثوب فتشبهه الشاعرة بالماء الذي يغرق الدنيا لكن بشالات الحرير، فنلاحظ في النص الحنين للقاء والتغير في الأسلوب وتأجج المشاعر مع التأثير الزمني بعد ثلاثة أعوام من النص الأول، فهنا كان النص قصيرا ومكثفا أكثر من النص الأول.
في النص الثالث “بطاقة حبٍ إلى أمي” من نفس الديوان ونفس الفترة الزمنية نجد نفس الملاحظة من حيث تراكم الحنين والإشتياق وتكثيف النص، ونلاحظ أن هذه النصوص كتبتها الشاعرة في حياة والدتها وربما أن الغياب الذي أشارت اليه الشاعرة تعب الوالدة ومرضها وبالتالي كأنها غابت وابتعدت، فتنقش الشاعرة بطاقة حب لأمها من أربع لوحات حافلة بالمشاعر، فتصف باللوحة الأولى حجم الحنين والإشتياق والرغبات، فتهمس لها: “أشتهي أن أعود إليكِ” وهذا الاشتهاء تصف رغباتها فيه بأن تعود إليها بريئة كطفلة “بريئاً.. أعد النجوم، أقطف تيجان الأزهار، وأبكي بلا سبب”، وتواصل هذه الرغبات المشتهاة بأن تعود اليها مَلَكاً، أن تُدفن في ثلج شعرها بتعبير رمزي لانتشار البياض والشيب بشعر الأم، وتغرق في دفء عينيها وتغفو بين ذراعيها، لتنقلنا للوحة الثانية من النص بوصف أمها بالقول: “أمّي ..منكِ يضوعُ عبيرُ الحقولِ، عطورُ ربيع، رحيقُ زهورٍ”، وبعد هذا الوصف المتميز بالتعابير والتشابيه اللغوية تنتقل للوحة الثالثة وتصف كيف يكون اللقاء: “أُمّي.. وحينَ يُطلُّ عليَّ، جبينكِ مخضلّاً، كورود الصّباحِ، نقاءِ النّدى”، فتصف باللوحة الرابعة كيف ستكون مشاعرها حين اللقاء: “أمسحُ الدّمعَ عن عيْنيَّ، وأعلنُ أنّي أحبّكِ …أكثرُ”، حيث عندها ستنشر للغد شالاً أخضر وتزهو في أعماقها “عرائشُ من ياسمين”.
في النصوص التالية سنجد مرحلة أخرى في حديث الشاعرة عن أمها، فالوالدة رحلت الى ملكوت السماء، ولم يعد من لقاء إلا بالمشاعر والحنين، فتتألق هذه المشاعر في النص الرابع من ديوانها “مرافئ الغيم” حيث كتبت هذا النص والمعنون “حنين” في عام 2019م، فكان النص من ثلاث لوحات الأولى مقدمة قصيرة والأخيرة نهاية قصيرة أيضا بينما اللوحة الثانية من النص كانت متن القصيدة وأخذت مساحة أطول بكثير، ففي اللوحة الأولى من النص تتحدث عن واقعها في غياب الأم ورحيلها فتبدأ اللوحة بالقول: “لِمَ يهجرني ..دوريُّ الكلامِ، فراشاتُ المفرداتِ”، لتنقلنا لمتن النص واللوحة الثانية فتصف مشاعرها وحالتها حين يشتد بها الحنين فتبدأ اللوحة بالقول: “أمّي …حين يعبُّ بصدري، موجُ الحنينِ إليكِ، فكيفَ أُداري …صهيلَ المعاني” وتليها بمجموعة تساؤلات تصف حالها وأحاسيسها ومشاعرها وخاصة حين يطل عليها وجه الأم في الذاكرة فتقول: “كيفَ أداري المحيا، حينَ يُطلُّ عليّ، كنجمٍ بهيٍّ بليلِ المسافر”، فنحن جميعا مسافرون في هذه الحياة حتى نغادرها، فالذكريات كما النجم في ليل المسافر ” على عتباتِ السّنين!!”، فهالات وجه الأم ليست كما أية هالات فهي “كغيماتِ عطرٍ، كزهرِ اللوزِ وأجمل ُ!!”، لتنقلنا للوحة الخاتمة التي تلخص هذه الأحاسيس والمشاعر فتقول: “يا شهدَ الكلماتِ، ونبع الطّهرِ، وأنفاسَ ذاكَ الأبيضِ، في شفةِ الياسمين” فنرى لوحة مرسومة بالكلمات تترك أثرها في أعماق الروح.
في نصها الخامس “من شرفةِ عينيكِ” وهو يعود لتاريخ 2020م ومن نصوص ديوان “مرافئ الغيم” وأهدته إلى روح أمها بذكرى مرور عام على رحيل روحها للسماء، سنجد أن الشاعرة تعاملت مع روح أمها وكأن الأم لم تغادر الحياة، فهي رغم كل المعاناة بفترة مرض الأم والتي عبرت عنها شعرا، وبكل الألم بعد وفاتها لم تستطع في هذا النص استيعاب أن أمها رحلت، فتبوح مشاعرها بأربع لوحات تستلهمها من شرفة عيني الأم فتهمس لها وكأنها في جولة بحث عن أمها في أول لوحتين: “في الشّارعِ ..ذاك الممتدِّ، خلفَ ضبابِ الوقتِ، غباشِ المسافاتِ فيهِ، على جسرِ الليلِ والموتِ، عندِ حدودِ الضّياعِ”، فيطول البحث ولا تجد سوى “لغاتِ الذاكرة ِ الصّماءِ ….وجدنا”، ففي رحلة البحث “حيثُ زِحام ُ الخطى” لا تجد إلا “مساحات القهرِ فيهِ” لمن يبحثون عمن فُقدوا فالقهر ما يتبقى “للمارّينَ فوقَ رصيفِ العمرِ”، فهي ما زالت ترى في حياة أمها “جمار الصمت، وبحة ذاك الصديق” وتهمس لأمها: “تعيدين للفجر هيبته، لحنايا الروح حدائقها”، وترسم “أقواس قزح، وفضاءً يزخر بالمعجزات”، فكل ذلك تصنعه الأم “رغم جراح الطريق”، بنما نراها تصف باللوحتين الثالثة والرابعة كيف تكون الحياة من شرفة عينيّ الأم فتقول: “من شرفةِ عيْنيكِ، تحلو المدائنُ، تُزهو بأعيننا الطّرقاتُ” فالأم بحرٌ “يُبدّدُ أزرقه، ما أرهقنا، من نزيفِ الحزنِ”، وتواصل الهمس لأمها وتخاطبها وكأنها تجلس معها: “منْ شرفةِ عيْنيْكِ، تمتدُّ راحاتٌ للسّماءاتِ الحانية، تلتفُّ ذراعا المدى، باتساعاته حولنا” فبوجود الأم فقط “يُشرقُ الكونُ، تخضرُّ الذاكرةُ”.
في نصها السادس بعنوان “إشتياق” والمكتوب عام 2022م من ديوان لم يصدر بعد باحت روحها بمشاعر جياشة في الذكرى الرابعة لرحيل والدتها، في نص من أربع لوحات تراوحت بين الحنين والحزن والاشتياق والألم، وكل لوحة حوت تأثير غياب عام على روح الشاعرة بنص انصهرت به المشاعر بقوة، فخرجت في نصها عن مفهوم الرثاء المعتاد لتنقل القارئ في فضاء من الأحاسيس الجياشة.
في اللوحة الأولى تعبر عن اشتياقها للمرحومة وعن رغبتها باللقاء بها فتبدأ النص بكلمة “أشتاق” والكلمة انتهت بحرف القاف وهو من مجموعة ثاني الحروف القوية في اللغة العربية بعد حرف الطاء، فنلاحظ القوة باللفظ حين قالت الشاعرة بحزم وتأكيد كلمة “أشتاق”، وهذه دلالة على قوة المشاعر التي تنتابها وهي فعل مضارع مرتبط باللحظة وليس بالماضي أو المستقبل، فما الذي تشتاقه الآن وهي تنظر إلى “رهان العمر”، فالعمر يسير متسارعا باتجاه نهاية الرحلة الدنيوية، وهذا الإشتياق أتى أيضا من “حلكة هذا الوقت” فنحن في زمن العتمة غير المفهوم وفي “زمن الأحجيات”، ومن قلب هذا الواقع يأتينا الجواب على السؤال، فهي تخاطب روح الأم التي رحلت بالقول: “سآتيك مشتاقة” وهي ليست رغبة الموت بسبب الواقع المحيط، بل الايمان أن هناك عالم آخر جميل تنتظرها به الأم، فهي تريد أن تصل هناك بعد الانتهاء “من رهان العمر” لهدف هو: “لأمسد عشب اليدين، وقمح السهول على راحتيك”، فنراها هنا قد مازجت وصهرت الوطن بجسد الأم التي رحلت وهي تحلم بالعودة لبيتها المهجور في سلواد.
في اللوحة الثانية نراها تهمس مباشرة لروح أمها بالقول: “أقبل أنفاس الفجر” ولكن ليس في كل وقت ولكن الوقت بالقول: “حين تلامس وجهكِ” وتقصد إطلالة الفجر، وهنا نجد التناص بكلمات الشاعرة مع القرآن الكريم: “وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ” أي أقبل وانبلج، ففي تلك اللحظات سيزول عن وجه الأم “ضباب الحزن” ليكون البديل نشر “شالات من عطر”، وبالتأكيد أن العطر رائحة وعبق وليس شال، لكن قوة التعبير أن النساء يرتدين الشال حول الرقبة وعلى الرأس ويتعطرن ويرتدينه فيأخذ الشال العبق العطري ويصبح وكأنه ينشر”شالات من عطر” بدلا من “ضباب الحزن”، فنساء فلسطين يرحلن “للسفر الوردي” وتحلق أرواحهن في: “مدى.. للشبابيك المنذورة للغيم” وحلم العودة للوطن لتجد أرواحهن التائهة مأوى فالحلم تراه الشاعرة بهمسها للأم: “بغابات عينيكِ”.
اللوحة الثالثة حفلت بالاشتياق بقوة للأم فحفلت بالتذكر لثوب الأم الفلسطيني النقوش فتقول: “كم أشتاق لتلك الحدائق في ثوبك المخملي”، والمعروف أن الأزهار والورود من النقوش المتوراثة على الأثواب والمستمدة من النقوش الكنعانية، فكان الثوب الفلسطيني يضم اللون الأخضر رمز للأرض وخصبها “ويناعة أخضره” واللون الأزرق الذي يرمز لالتقاء الأزرقين الشمس والبحر “سحابة سحر الأزرق، في أمواج سماواته” وتشتاق للحنون الذي يزين الأثواب كما يزين السهول “للحنون مشتعلا”، وللحكايات التي ترويها الأثواب منذ عهد كنعان “ولزهو الحكايا.. في زهرة”، وتشتاق الشاعرة “لتلك الخطى” التي تذكرها لأمها في الوطن فتقول لها: “لتلك الخطى، في مدائنكِ الطاهرة”، لتنهي اللوحة الثالثة بالاشتياق إلى: “لدفء بحضنك.. أشتاق”، فنرى بهذه اللوحة كيف تمثل الوطن بالأم ولباسها وخطواتها ودفء حضنها كما دفء أرض الوطن.
في اللوحة الرابعة والتي كانت قمة الاشتياق بعد أربعة سنوات من الرحيل، كانت الشاعرة تروي لنا شعرا حجم مشاعرها وأحلامها فتقول: “ألثم وجه النجوم، التي خبأت الصورة”، وتتحدث عن “جرح المسافات، عن وجع العمر”، عن صبرها الذي شبهته بالجمر “جمر الصبر.. حرقته، في مرايا السنين”، لتنهي النص بمباركتها “لحن الرجوع” منادية أمها أن هذا الرجوع سيكون: “لأحضان جنتك العامرة”، فتناديها: “لأني أشتاق، آتي اليكِ، أبارك.. سحركِ”.
وهكذا حلقت بنا الشاعرة في فضاءات الأم بحياتها ورحيلها، وصهرت روحها بالوطن الذي كانت تحلم به، فكانت ترسم لوحاتها بالقلم والكلمات وألوانها نزف الروح، فحلقت بنا في فضاءات من الأحاسيس والمشاعر، أظهرت فيها الدلالات النفسية المؤثرة على النصوص الشعرية، مستخدمة بديع اللغة العربية من رمزيات وتشبيهات وتكثيف بالفكرة والنص، فكانت نصوص وجدانية متوازنة ذات حركة سلسلة لم تترك فراغا بين شطرات كل نص ولا قفزات مفاجئة، فوحدت الفكرة وتألقت بالأسلوب وكان مسرحها المكاني بين الوطن والمنفى، ولاحظنا التأثير الزمني عبر عشر سنوات على النصوص من حيث الفكرة أو الأسلوب، فأبدعت في علاقة تفاعل بينها كشاعرة وبين القارئ كمتلقي، وأبدعت الشاعرة بالوصف والأحاسيس، فوطن لا ينساه اهله رغم السنوات الطويلة، وطن جدير بالحب والحلم وتحليق أرواح الأمهات في فضاءه بانتظار فجر الحرية.
“جيوس 21/3/2022”