من يتابع الحرب الروسية الظالمة على أوكرانيا الجريحة، وما يعانيه الشعب الأوكراني المسالم من القتل، والتشريد، وتدمير مدنه الجميلة، لا بد وأن يصاب بالإحباط، والحزن العميق. ولكن السؤال هنا: من المسؤول عن هذه الحرب المدمرة التي تهدد بحرب نووية ماحقة تقضي على الحضارة، وتعيد من تبقى من البشر إلى العصور الحجرية؟
نجد الجواب على هذا السؤال في عنوان مقال للكاتب والصحفي الأمريكي المخضرم توماس فريدمان نشره في صحيفة نيويورك تايمس حديثاً: “هذه هي حرب بوتين، لكن أمريكا وحلف الناتو ليستا بريئتين”.(1 و2)
أعرف مسبقاً أن هذه المقالة ستعرضني إلى تهمة الإيمان بنظرية المؤامرة، ولكن في جميع الأحوال، ولكوني كاتب لبرالي مستقل، وحريص على قول الحقيقة حسب ما يمليه عليًّ وعيي وضميري، لذلك لا بد من قول الحقيقة ومهما كانت مرة، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
إذ لا يمكن أن ندافع عن أمريكا ونلقي كل اللوم على بوتين، ونشارك في حملة شيطنته، في الوقت الذي حتى أشد الناس حرصاً في المؤسسة السياسية الأمريكية على مصلحة أمريكا مثل وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كيسنغر، والكاتب والصحفي توماس فريديمان اللذين حذرا أمريكا من مغبة التحرش بروسيا، والموقف من أوكرانيا. فكيسنغر أعيد نشر مقال قديم له بعنوان: (تسوية الأزمة الأوكرانية، تبدأ من النهاية)، كان قد نشره عام 2014، عندما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وألحقها بروسيا بالقوة، جاء فيه: “يتم طرح القضية الأوكرانية في كثير من الأحيان على أنها مواجهة: ما إذا كانت أوكرانيا تنضم إلى الشرق أو الغرب. ولكن إذا ما أريد لأوكرانيا البقاء والازدهار، فلا يجب أن تكون في أي جانب ضد الآخر، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما.”(3)
ونفس النصيحة جاءت من توماس فريدمان في مقاله المشار إليه أعلاه عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وكيف نفهم هذه الحرب فيقول: “المكان الوحيد لفهم هذه الحرب هو رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يعد أقوى زعيم روسي منذ ستالين، وتوقيت هذه الحرب هو نتاج طموحاته واستراتيجياته ومظالمه. ولكن، مع كل ذلك فأمريكا ليست بريئة تماما من تأجيج حرائقه”.(1 و2)
كما إنني كتبتُ قبل 8 سنوات مقالاً بعنوان: (لماذا يحتاج الغرب إلى عدو دائم)(4)، ذكرتُ فيه أن الشعوب الأوربية كانت في حالة حروب مستمرة فيما بينها طوال التاريخ، ومنها حربين عالميتين. لذلك اتخذوا بعد الحرب العالمية الثانية من الاتحاد السوفيتي الذي كان حليفهم في الحرب على المانيا النازية الهتلرية، اتخذوا منه عدواً دائماً يخيفون به شعوبهم ليل نهار، إلى أن تخلصوا منه عام 1991. ومن ثم اتخذوا من تنظيمات الإرهاب الإسلامي والإسلاموفوبيا عدواً مشتركاً لهم ليحافظوا على وحدتهم ومنع اندلاع حروب جديدة فيما بينهم. والآن اتخذوا من روسيا والصين العدو المشترك، وكأن البشرية لا تستطيع العيش بسلام دائم ما لم يكن لها عدو مشترك.
وحتى وقت قريب كان أكثر المحللين السياسيين يعتقدون أن حروب البلقان في التسعينات من القرن الماضي كانت آخر الحروب الأوربية، وأن حلف الناتو انتهى مفعوله، ولا داعي لوجوده. ولكن فجأة راحت دول الناتو، وعلى رأسها أمريكا، تلح وتصر على انضمام أوكرانيا إلى الناتو. لماذا؟ أليس الغرض منه استفزاز روسيا؟
فأمريكا وحلفائها في الغرب، لها إستراتيجية ثابتة وخاطئة في نفس الوقت، مفادها إعادة النظام العالمي الجديد بقطبية واحدة، وأن تكون هي (أي أمريكا) الدولة العظمى الوحيدة في العالم، لا ينافسها أي منافس. هذا الحلم تافه وقد أثبت فشله، وكلف أمريكا والعالم الكثير. لقد سعت أمريكا خلال أكثر من أربعين سنة بعد الحرب العالمية الثانية إلى تدمير الإتحاد السوفيتي، القطب الآخر الذي كان يقف في وجهها، ويساعد حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. لذا اتبعت أمريكا مختلف الأساليب لتدمير الإتحاد السوفيتي، مثل سباق التسلح، و حروب أفغانستان لاستنزاف الطاقات السوفيتية، والتي أدت بالتالي إلى تفكك الاتحاد السوفيتي إلى عدة جمهوريات مستقلة، ومنها متعادية فيما بينها، وانهيار منظومة الدول الاشتراكية في أوربا الشرقية، وتبنيها النظام الرأسمالي الديمقراطي، وانضمام أغلبها إلى الوحدة الأوربية وحلف الناتو.
فرغم تحول روسيا (الوريث الشرعي للإتحاد السوفيتي)، إلى نظام رأسمالي وديمقراطي، إلا إن طلب بوتين للانضمام إلى الوحدة الأوربية وناتو رُفِض لأن روسيا دولة كبيرة يصعب ابتلاعها!(5). فكل هذا التحول نحو الديمقراطية والرأسمالية من جانب روسيا لم يشفع لها كونها أكبر دولة مساحة، وذات طاقات اقتصادية ضخمة وعسكرية أضخم، إذ تمتلك روسيا ترسانة نووية تضم نحو 6 آلاف من الرؤوس النووية. لذا فسياسة الغرب بقيادة أمريكا تؤكد على عدم السماح لأية دولة كبرى مثل الصين وروسيا أن تتقدم وتشكل قطباً آخر ينافسها على زعامة العالم.
وبمثل ما خلقت أمريكا من أفغانستان طعماً لاستنزاف طاقات الإتحاد السوفيتي وانهياره وتفكيكه إلى جمهوريات صغيرة لا خطر منها في المنافسة، كذلك تعمل الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن ومن ورائها دول حلف الناتو على جعل أوكرانيا طعماً لجر الرئيس الروسي بوتين إلى حرب استنزاف، وذلك عن طريق إسقاط أية حكومة أوكرانية موالية لروسيا، ودعم أية حكومة يمينية معادية لروسيا، وحثها على الانضمام إلى الوحدة الأوربية والناتو. وهذا يُعتبر استفزازاً للرئيس الروسي بوتين، الذي عبر عن مبدئه مرة أنه (إذا كانت الضربة القادمة لا بد منها فكن دائماً البادئ.) لذا اعتبر بوتين محاولات ضم أوكرانيا للوحدة الأوربية والناتو تهديداً وجودياً لروسيا لا يمكن السكوت عنه، وهو يشبه أزمة نصب الصواريخ السوفيتية في كوبا عام 1962، في عهد الزعيم السوفيتي نكيتا خروشوف، الذي استفز الرئيس الأمريكي جون أف كندي آن ذاك، واعتبره عملاً عدوانيناً على أمريكا، وهدد بضرب كوبا رغم أن الأخيرة تبعد عن الحدود الأمريكية بنحو 2445 كم. فكيف يراد من بوتين السكوت عن انضمام أوكرانيا للناتو النووية وهي دولة لها حدود مشتركة مع روسيا بطول 1974 كم براً، و321 بحراً.
وللمزيد من الاستفزاز، وبدعم من أمريكا، تم إجراء تعديلات على دستور أوكرانيا عام 2019، كرست فكرة عدم التراجع عن حق البلاد في عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بغض النظر عما ستجلبه هذه المحاولة من عواقب وخيمة من بينها احتمال قيام روسيا بشن الحرب على أوكرانيا، والتي حذر منها كيسنغر في مقاله المشار إليه أعلاه أنه “إذا ما أريد لأوكرانيا البقاء والازدهار، فلا يجب أن تكون في أي جانب ضد الآخر، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما”.
والسؤال هنا ما هي غاية أمريكا وحلفائها من التضحية بأوكرانيا، وتقديمها كطعم لجر روسيا إلى شن حرب عليها، والتخلي عنها بعد أن ورطوها في هذه الحرب غير المتكافئة؟
الجواب هو إعادة تجربة أفغانستان التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي، ولكن هذه المرة في أوكرانيا من أجل استنزاف الطاقات العسكرية والاقتصادية لروسيا وبالتالي إنهيارها وتفكيكها إلى جمهوريات مستقلة ومعادية فيما بينها. هل هذه نظرية المؤامرة؟ كلا، بل هي مؤامرة حقيقية بكل معنى الكلمة،لأن كل ما يجري على أرض الوقع يشير إلى هذا الهدف. وكل ما تستطيع أمريكا والدول الغربية تقديمه لأوكرانيا هو الاحتفال الإعلامي الضخم على مدار الساعة، وشيطنة الرئيس الروسي بوتين، وسكب دموع التماسيح على معاناة الشعب الأوكراني، والاكتفاء بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. وفي نفس الوقت رفضت أمريكا طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمساعدة بلاده عسكرياً حتى بحدها الأدنى مثل حظر الطيران فوق أوكرانيا، حيث امتنعت دول الناتو عن تلبية هذا الطلب بحجة أن “إنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، قد يؤدي إلى دخول الناتو في صراع مفتوح مع روسيا“.
أما الحصار الاقتصادي فأغلب الخبراء الاقتصاديين في العالم يؤكدون انه لا يؤذي روسيا فحسب، بل وسيؤذي جميع دول العالم، وبالأخص الدول الغربية، حيث تصاعد الأسعار وتضخم العملات واستفحال أزمة الطاقة وغيرها من الكوارث الاقتصادية على الجميع بلا استثناء.
يبدو أن أمريكا لم تستفد من دروس التاريخ القريب والبعيد، فقد تدخلت في بلدان عديدة حاولت التحرر من أنظمتها الدكتاتورية المستبدة، وكانت النتائج فيما بعد كارثية على هذه الشعوب وعلى أمريكا نفسها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر بعضا من هذه التدخلات الأمريكية عن طريق مخابراتها المركزية (CIA):
1- التدخل في إيران عام 1953 ضد حكومة الدكتور محمد مصدق الذي انتخب مرتين سنة 1951 و1953. وهو ديمقراطي علماني خريج جامعة السوربون الفرنسية، إلا أن المخابرات الأمريكية السي آي ايه والبريطانية MI6 خلعتاه في عملية مشتركة بإنقلاب عسكري قاده عميلهم الجنرال زاهدي. فلولا هذا الانقلاب لما حصلت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني عام 1979، التي كلفت إيران وأميركا وشعوب المنطقة الكثير من المآسي لحد هذه الساعة.
2- التدخل الأمريكي ضد حكومة ثور 14 تموز 1958، بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم في العراق والإطاحة بها بإنقلاب عسكري دموي يوم 8 شباط 1963 والذي جاء بحزب البعث للسلطة، وما رافق ذلك من مجازر رهيبة يندى لها جبين الإنسانية. ومن عواقب هذا التدخل وصول المجرم صدام حسين للسلطة فيما بعد واستخدامه في شن حرب عبثية على إيران الإسلامية، ومن ثم غزوه للكويت، وما كلف ذلك من حروب مدمرة لإخراجه من الكويت عام 1991، ومن ثم إسقاطه بحرب تحرير العراق عام 2003 من حكمه الجائر وما دفعه الشعب العراقي من تضحيات بشرية ومادية لا تقدر، وبالتالي دفعت أمريكا نفسها أكثر من 4 آلاف قتيل ونحو 40 ألف جريح من قواتها، وأكثر من تريليون دولار تكاليف إسقاط حكم البعث الصدامي في العراق.
3- دور أمريكا فيما جرى في أفغانستان منذ الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال محمد داوود خان بعد عودته من دورة عسكرية في أمريكا عام 1973 وما تلته من انقلابات انتهت بوصول الحزب الشيوعي الأفغاني إلى الحكم، حيث قامت أمريكا بدعم التنظيمات الإسلامية بما فيها “القاعدة” و”طالبان” الإرهابيتين، والتي انتهت بتورط الاتحاد السوفيتي في حرب استنزاف لعشر سنوات أدت إلى تفككه، ومجيء حكم طالبان إلى السلطة. ثم انقلب السحر على الساحر، حيث تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى أبشع هجمات إرهابية نفذها تنظيم “القاعدة” المدعوم من حكومة طالبان، والتي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك ومبنى البنتاغون بالعاصمة واشنطن، واضطرت أمريكا لشن أطول حرب في تاريخها لعشرين سنة انتهت بانسحابها من أفغانستان وتسليم الحكم إلى طالبان، وبخسائر بشرية ومادية بلغت أرقاماً فلكية.
وهذا غيض من فيض من السياسة الأمريكية، الغرض منها التخلص من منافسيها في العالم.
ولذلك أعتقد جازماً أن ما يجري في أوكرانيا هو بالضبط ما خططت له أمريكا، بالتضحية بأوكرانيا في هذه الحرب الجائرة، الغاية منها استنزاف طاقات روسيا وإنهاكها في حرب عصابات طويلة الأمد. وهذه الحرب كسابقاتها لا بد وأن تنتهي بكوارث على الجميع بما فيها أمريكا نفسها.
abdulkhaliq.hussein@
ـــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- – توماس فريدمان: هذه هي حرب بوتين، لكن أمريكا وحلف الناتو ليستا بريئتين
This is Putin’s war, But America and NATO aren’t Innocent Bystanders
https://www.nytimes.com/2022/
2- لقاء تلفزيوني مع توماس فريدمان يحذر من إذلال بوتين في أوكرانيا | #مع_جيزال
https://www.youtube.com/watch?
3- هنري كيسنغر: تسوية الأزمة الأوكرانية، تبدأ من النهاية
Henry Kissinger: To settle the Ukraine crisis, start at the end
4- عبدالخالق حسين: لماذا يحتاج الغرب إلى عدو دائم؟
http://www.ahewar.org/debat/
5- فوراين بوليسي: عندما أحبّ فلاديمير بوتين حلف الناتو
https://www.aljarida.com/