في حياة كل واحد منا، يتم التعرف على أشخاص معينين، وهم يُظهرون جانب النبْل والكرم والطّيب والشجاعة والتواضع والعطاء دون مقابل، حيث يصعب عليه نسيانهم، لأنه يذكرهم باستمرار، ليكونوا مثالاً أخلاقياً لغيرهم بقدوتهم هذه .
وبعض المواقف تكون مختلفة عن غيرها، فالأعمال التي تترك انطباعات جيدة وعظيمة تكون مراتب بالتأكيد.
ولا بد أن من يقرأ كلاماً كهذا، أن يتذكر أشخاصاً من هذا النوع، وهو يمتلىء راحة نفسية، ويبتسم بينه وبين نفسه، وهو يتذكرهم، أو بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال، يسمِع من حوله أمثلة مشابهة، وحسب الزمان والمكان .
قد يسأل أحدهم: ما مناسبة هذا الحديث ؟
والجواب المباشر هو: ليس من مناسبة، لأن الإنسان الطيب والمتفاني والسموح والمحب موجود دائماً، وليس لأنه أصبح يمتاز بمثل هذه الصفات لمرة واحدة أو مرتين. وهنا أقول: أما بالنسبة إلي، فإن الحديث يخص من تأثرتُ بطيب أخلاقه وحسن سلوكه العظيم في القول والفعل، وأعتقد أن هناك كثيرين سيبتسمون ما أن أذكره، لأنني وجدت ذكره مناسباً.
إنه شخصية إيزيدية. ويا لها من شخصية إيزيدية مفعمة بالحيوية والعطاء الروحي، حيث تتلمذتُ على يديه لمدة عامين، وكان من وجهة نظري وغيري، وما أكثرهم من إيزيديينا، نبراس العلم والتفاني والعطاء دون مقابل، ولتكون نتيجة أعماله المثمرة والمفيدة بآثارها في نفوس من تعلموا على يديه، وتعاملوا معه لسنوات كبيرة، وقد تجلت في ذلك التأثير الكبير على المسيرة العلمية في مجمع شاريا. نعم، مجمعنا شاريا الذي كبرتُ فيه، وما زلت أتفاعل مع أفراده، وهم أهلي وأخوتي وأحبتي كلهم، وإذا كان من ذكِر لأحدهم علي في هذا الجانب، فإنه سيكون في الصف الأول من هؤلاء بمكانتهم المشرقة .
وإذا تحدثت قليلاً عن حياته، وكيف أصبح يعرَف هكذا، فلا بد أن تقديره يزداد من يعرفه أكثر، ولدى من لم يسمع به هنا وهناك، وهو يستحق أن يأتي ذكره باستمراره للدور الذي ذكرته .
لقد أحيل على التقاعد قبل سنوات.
أما عن حياته، ويا لها حياة مأساوية، فأذكرها باختصار شديد، لأنها تمثّل حياة إيزيديينا وهم ينتقلون من فرمان لآخر، وهم يعيشون أوجاع الفرمانات التي تعرضوا ويتعرضون لها ويعانون منها إلى اليوم.
إنه من أحفاد عشيرة الباسان والذين تعرضوا للابادة الجماعية على ايدي أخوان لهم وهم كورد، أولئك الذين عرِفوا بالتحجر في أفكارهم والتزمت في معتقداتهم ، وهو ما يؤسَف له أشد الأسف، وذلك في كوردستان تركيا، سوى أن الذين نجوا من أجدادهم وآبائهم من الفرمان، مارسوا حياتهم من جديد، ومنحوها معنى وقيمة، دون أن ينسوا آلام ما جرى لهم.
والآن أشير إلى ذلك الرجل الإنسان حقاً، وأعني به الاستاذ شكري حسن سلو ….والذي كان في كل ما يعرَف به قولاً وفعلاً، قدوة في مجمع شاريا قرية قلعة بدر.
لقد وصفتُه بالرجل الإنسان. نعم، أؤكد ذلك كثيراً. لقد كان رجلاً بشخصيته الكبيرة، وإنساناً، لأن قلبه ينبض بالاحترام والتقدير والحب والعلم والمعرفة للجميع .
نعم، كنا نحن الإيزيدية مصدر مطامع الاقوام المجاورة لحدودنا ومن يتعايشون معنا نتيجة خصوبة الأرض والأجواء المعتدلة في كافة فصول السنة، لهذا كانوا في صراعات وحروب مستمرة مع الأعداء والطامعين، لقد تعرضوا الى إبادات جماعية لا تحصى. وبالرغم من قوة العدو عدداً وعدة كانت هناك مقاومة مضرب المثل من قبل أبطال الإيزيدية من أجل الحفاظ على جغرافيتهم وديانتهم وهويتهم، نتيجة هذه المثابرة العالية وقابليتهم للصبر الطويل، وصبرهم على تحمل المسؤولية التاريخية .
ولقد وقعت أكثرية الفرمانات في العهد العثماني وقبلها في العهود الإسلامية وخاصة زمن العباسيين واستمرت هذه الحملات الهمجية الى القرن العشرين مع امتداده في القرن الذي تلاه الى اليوم، وتم التنكيل بهم وتهجيرهم وقتلهم بالإبادات الجماعية وانهاء وجودهم وتغيير جغرافيتهم بشتى الطرق الممكنة والمخالفة لأبسط الأعراف والقوانين الدولية .
إن جميع الابادات متشابهة مع بعضها بعضاً من حيث القتل الجماعي، مع اختلاف العنف والقتل والآلام ،فهناك السبي وبيع السبايا والأطفال في سوق النخاسة، وهدم المدن والقرى، وهدر الاقتصاد والثروات، والتهجير القسري، منعهم من ممارسة طقوسهم الخاصة، والتكلم بلغتهم، والأقسى :تغيير الدين عنوة .
كانت قبيلتهم تقطن تركيا في مناطق (سيرت) شرقاً، لكن نتيجة حملات الابادة قتل العديد من أبنائها وتقلصت جغرافيتهم شيئاً فشيئاً الا أنهم تعرضوا الى أبشع عملية إبادة حقيقية في يوم 14-5-1916 من قبل الدولة العثمانية الظالمة، ولم ينجوا منهم إلا (30) فرداً فقط وحين الوصول الى المنطقة الآمنة مات (5) منهم من الجوع والعطش وبقى (25) شخصاً من كلا الجنسين، يقال أن عدد الشهداء هو 380 . (م/بحث لداود مراد ختاري عن قبيلة باسان)
وقد عرفت هذه الحملة بربط النساء والفتيات لجدائل بعضهن بالبعض الآخر، ورمي أنفسهن في النهر حفاظاً على عفتهم وهويتهم كذلك..
ولكن من تبقَّى من أهلنا عند وصولهم لبر الأمان بين لالش ولحفا قايديا جرى إسكانهم الأرض وانخرطوا في الحياة.
ويُذكر أن آغا لحفا قائيديا أسكنهم في منطقته في قرية شيخ خدرى في لحفا قايديا وهي سبعة قرى (سينا /شيخ خدر /شاريا/قلعة بدر/ركاڤا/خرشنيا/گرى بان) بعدها حثهم على شراء قرية قلعة بدر من العرب الذين توافدوا إلى المنطقة واستولوا على اراضي تلك القرية لفترة من الزمن بعد مذبحة الاشورين في سيميل فاستوطنوا الارض وملكوها.
وقد علموا أبناءهم في المدارس إلى أن تخرجوا واصبحوا معلمين ومدرسين وصحفيين وفنانين وكتاباً وشعراء ومهندسين عظاماً، وفي الوقت نفسه شاركوا الملا مصطفى زعيم الكورد في ثورته القومية حيث وجدوا أنفسهم داخل ثورته الكبرى وهو يتكفل بحماية جميع مكونات كوردستان القومية والدينية ولهذا كان التحقاؤهم به حيث توافد إليه جميع الكورد ، كما هي روافد النهر الواحد، نهر القومية الهادر .
وعندما قام صدام بهدم قرى لحفا قايديا وأسكنهم في مجمع شاريا قسراً لم يتقاعس الأستاذ شكري ولو ليوم واحد أو يستكين أو يتردد في تعليم طلبة المجمع فقام بنقل نفسه من دهوك وبدأ بتشجيع الطلبة للانخراط في التدريس ، فبدأ بعدد قليل جداً لا يتحاوزون أصابع اليد في ثانوية شاريا من الأول الثانوي وفي كل سنة، كانت الأعداد تزداد، واكتملت الصفوف الثانوية في شاريا ، بطلاب العلم وتخرج المئات منهم ليلتحقوا بالجامعات وأصبحوا دكاترة ومهندسين ومحامين وغيرهم …
وليكون جرّاء هذه الأعمال العظيمة محل تقدير واحترام من قبل اهالي المجمع، وهي معروفة على مستوى محافظة دهوك
وباسم هؤلاء الذين خرجوا من رحم المعاناة ولم يستسلموا، وقد شيدوا الديار وهم خير قدوة نهتدي بهم، ونحرص على حفظ أسمائهم في القلوب كذلك .
إن الذي أريد التأكيد عليه، هو أكثر من نقطة، أكثر من إشارة من خلال ما ذكرت، هي مصدر فخر، لكل روح نابضة بالقيم الخُلقية الإنسانية، وبالنسبة إلى إنساننا الإيزيدي بصورة أخص، ومن ذلك، هو أن الإنسان الذي يعرَف ضعيفاً أحياناً، إلا أنه قد يكون قوياً إلى أبعد الحدود، وملؤه الصبر والإيمان بعقيدته الدينية والإنسانية، حيث إن إيمانه بإنسانية عقيدته وأهله وقومه، يمنحه القوة أكثر، كما هو وضع أهلنا الإيزيديين الذين ذاقوا الأمرَّ من أعدائهم الأغراب، وحتى من ضعاف النفوس من شعبنا الكوردي، وفي الفترات التي أشرنا إليها إبان تعرض الأرمن للإبادة الجماعية، وقد كانوا هم أنفسهم يتعرضون لها وبأشكال مختلفة، وإذا كان من فضل يسجَّل لمن كانوا حماة لهم، ومحتضنين إياهم، فإن القائد القومي الكوردي العظيم ملا مصطفى البارزاني، يكون في الصدارة، وهو قدوة كوردستانية هنا، والذي نبذ التطرف الديني، وجعل من التسامح الديني شعاراً له ولمن جاء بعده، ليكون الجميع متساوين في حقوقهم وواجباتهم.
وطالما أن الحياة قائمة، فإن هؤلاء الكبار بأسمائهم وعطاءاتهم سوف يتواجدون، وعلينا أن نتفاءل بالحياة من خلالهم، وتقوى إرادتنا معهم، حباً بما هو إنساني، ودفاعاً عما هو إنساني كذلك، وردّاً للأعادي أنّى كانوا وكيفما كانوا !