بالنظر إلى أزمة أوكرانيا الحالية، يبدو أن بوتين ما زال يتصرَّف وفقا لقناعته بأن الغرب تجاهل طيلة ثلاثة عقود ما يراه الكرملين مصالح روسيا المشروعة. ومن ثمَّ فهو عازم على إعادة ترسيخ حق روسيا في وضع حدود للخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين من “حلف وارسو”، وإجبار الغرب على قبول هذه الحدود، وليكن ذلك بالدبلوماسية أو بقوة السلاح.
لا يعني هذا أن الغرب قليل الحيلة، فسيكون على الولايات المتحدة الاستمرار في المسار الدبلوماسي مع روسيا والسعي إلى تسوية مؤقتة مقبولة للجانبين، دون المساس بسيادة حلفائها وشركائها. وفي الوقت نفسه، عليها الحفاظ على التنسيق مع الأوروبيين للاستجابة لتحرُّكات روسيا غير المقبولة ومعاقبتها. ولكن من الواضح أنه حتى إذا توقَّفت الحرب التي بدأت للتو، فما من عودة إلى الوضع القائم قبل حشد روسيا لقواتها في مارس/آذار 2021. وقد تكون النتيجة النهائية لهذه الأزمة إعادة تنظيم الأمن الأوروبي الأطلسي للمرة الثالثة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي.
لقد أتى التنظيم الأول بواسطة ترسيخ “نظام يالطا” على صورة كتلتين متنافستين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأتى التنظيم الثاني بين عامَيْ 1989-1991، مع انهيار الكتلة الشيوعية ثم الاتحاد السوفيتي ذاته، وما أعقب ذلك من رغبة الغرب في جعل أوروبا “موحَّدة وحرة”. وفي نهاية المطاف، تدور الأزمة الحالية حول إعادة روسيا رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، وسعيها إلى إعادة بسط نفوذها على نصف أوروبا، بالاستناد إلى حجة أنها تضمن أمنها. وبصرف النظر عن مآلات الأزمة الحالية، من المؤكَّد أنه ما دام بوتين باقيا في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لفترة طويلة.
كان لبوتين ما أراده، تحدى الولايات المتحدة وتحالُف الأطلسي، واجتاح أوكرانيا ليفرض بالقوة ما يعتقدها مصالح روسيا. لكن الحرب لم تظهر قوة بوتين، بل أظهرت عورته: قوة عسكرية روسية متواضعة من بقايا الحرب العالمية الثانية. ولولا سلاح روسيا النووي، لتصدى الغرب لبوتين عسكرياً ودفعه وجيشه الى محيط موسكو.
على أن العسكر ليس نقطة ضعف روسيا الوحيدة، بل كل ما يرتبط بدولة روسيا واقتصادها وقدراتها العلمية المنعدمة.
في زمن الحرب الباردة، كان الإتحاد السوفياتي صاحب ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وكان يصنع الطائرات والسيارات والمعدات المنزلية.
اليوم، يحل الاقتصاد الروسي في المرتبة الثانية عشر عالمياً، وذلك قبل بدء الحرب في أوكرانيا، وقبل قيام الغرب بفرض عقوباته القاسية على موسكو. واليوم، لا يوجد في الأسواق العالمية كومبيوتر صناعة روسية، ولا تلفون، ولا تلفزيون، ولا حتى راديو.
روسيا ليست قوة عالمية، على ما سعى بوتين لتصويرها منذ تسلمه الحكم في عام ٢٠٠٠. روسيا قوة مندثرة ما تزال تقوم ببعض الصناعات العسكرية، ولكنها عدا عن ذلك، فهي محطة بنزين للعالم مع صواريخ نووية.
غريب أن بوتين لم يفهم الدرس. لسنوات، بدا ذكياً محنكاً، ولكن الأرجح أن لعنة البقاء في الحكم لعقود حلّت عليه، فصار محاطاً بالمتملقين، وخسر اتصاله مع الواقع وقدرته على فهمه وتشخيصه.
فشلت كل مشاريع بوتين لإقامة نظام عالمي بديل عن الذي تقوده الولايات المتحدة.
حاول إقامة مصرف دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وإصدار عملة دولية لتصبح بديلا للدولار الأميركي، عملة العالم. فشل بوتين، وفشل المصرف، وفشلت محاولة إقامة نقد مشترك.
وحاول بوتين إقامة تحالف اقتصادي يقارب التكامل مع الصين للوقوف في وجه الولايات المتحدة. لكن الصين لم تصوّت حتى إلى جانب بوتين في الأمم المتحدة ضد القرار الذي أدان اجتياحه أوكرانيا، بل امتنعت عن التصويت، في وقت تستعد بكين للالتزام بالعقوبات الدولية على روسيا، على عكس ما كان يأمل أنصار بوتين وتحالف الممانعة (إيران وتوابعها).
أما سبب تقاعس الصين عن إنقاذ روسيا ماليا، فواضح.
يبلغ حجم اقتصاد الصين ١٥٪ من حجم الاقتصاد العالمي، لكن هذه الضخامة ليست مبنية على اكتفاء ذاتي، بل على صادرات الصين إلى السوقين الأميركية والأوروبية العملاقتين. بكلام آخر، حتى تحافظ الصين على حجم اقتصادها، عليها الحفاظ على تجارتها مع مجموعة الدول السبع، التي تتضمن أميركا والإتحاد الأوروبي، وبريطانيا وكندا واليابان.
يبلغ حجم اقتصاد مجموعة الدول السبع ثلثي الاقتصاد العالمي، مع شبه اكتفاء ذاتي، وهو ما يجعله قادراً على فرض العقوبات على الآخرين ومنيعاً في الوقت نفسه على عقوبات الأخرين عليه.
هذه الوقائع الاقتصادية وضعت الصين أمام خيارين: إما تنقذ روسيا وتتحالف معها وتخسر أسواق الدول السبع، أو تتخلى عن روسيا لتحافظ على علاقاتها التجارية مع نصف الكوكب. وتعرف الصين أنها إن اختارت روسيا، فسيتقلص حجم اقتصادها بشكل كبير، أي أنه بدلا من أن تنقذ بكين موسكو، فسوف تغرق معها.
في الحرب الباردة المقبلة، كما في الماضية، لن تقف الصين في المعسكر الشرقي، مع أنها تشبهه، بل ستحافظ على علاقاتها بالغرب، وستسعى جاهدة في محاولتها وقف التقهقر الاقتصادي الذي تعاني منه، وهي مشكلة معروفة في علم الاقتصاد بـ “فخ الدخل المتوسط”، أي أن الصين أفادت في مراحل نموها الاقتصادي الأولى بسبب انخفاض سعر العمالة، ولكنها فشلت في أن تتحول الى اقتصاد متطور فعلقت بين عالمين، نموها لا يمكنه الاعتماد على العناصر التي دفعته للنمو في سنواته الأولى وفي نفس الوقت لا يملك القدرة على النمو كالاقتصادات المتطورة.
في الحرب الباردة المقبلة معسكران: غربي تقوده الولايات المتحدة، القطب الأوحد عالميا في ظل فشل روسيا عسكرياً وتباطؤ الصين اقتصادياً، وآخر تقوده روسيا بمشاركة سوريا وروسيا البيضاء.
الصين ستقف على الحياد ومثلها ستفعل إيران، التي تهلل لاجتياح بوتين أوكرانيا وتلعن أميركا والغرب، ولكنها تستميت لعقد اتفاقية مع أميركا تؤدي لرفع العقوبات عن نظام طهران.
وإيران هذه أضعف بكثير من روسيا والصين، بل هي تستعين بهما وتستجديهما، مثل في اتفاقية الربع قرن الاقتصادية التي عقدتها مع الصين، أو في سعيها للحصول على تقنيات عسكرية روسية صار العالم يعرف اليوم أنها فاشلة.
علّمتنا حرب أوكرانيا بعض الدروس، أولها أن النموذج الغربي في الحكم والاقتصاد مازال الأفضل في العالم، ليس مثاليا، ولكنه الأفضل بدون منازع، وأن البدائل كلها كوراث، إن كان في اقتصاد الصين الرأسمالي الموجه، أو في الحكومة الإسلامية الإيرانية صاحبة المخيلة الحافلة بالبطولات، أو في روسيا التي تظاهرت أنها قوة عالمية ليتبين أن حتى أسطول طائراتها المدنية، أيروفلوت، هو صناعة أوروبية ويطير ببرامج أميركية، وأنه بدون الغرب وتقنياته، التي تشتريها روسيا وتستهلكها، لكانت روسيا في وضع أسوأ مما كان عليه الإتحاد السوفياتي في أسوأ أيامه.
أما في دنيا العرب، فلا دروس ولا هم يحزنون، فقط استعادة لنفس نظريات المؤامرة البالية على طراز أن الغرب خشي قوة بوتين فاستدرجه الى مأزق، أو أن الصين ستتصدى للغرب، أو أن إيران قوة عالمية يعتد بها، وما إلى هنالك من أساطير تتناقلها الأجيال التي تفنى ولكن أساطيرها خالدة لا تموت.
العالم بعد أوكرانيا سيعود إلى الحرب الباردة لأنها الوسيلة الوحيدة لمواجهة قوة نووية انفلتت من عقالها. في الحرب المقبلة، ستقود أميركا وحلفاؤها العالم، وستعيش روسيا في عزلة الى أن تتوب، وستعيش الصين على الحياد.
أما إيران وأزلامها، فستبقى غارقة في نفس الشقاء، قبل حرب أوكرانيا كما بعدها.
تلوح في الأفق نُذُر هجوم عسكري روسي في أوكرانيا هذا الشتاء، إذ عزَّزت موسكو من وجود قواتها بطول الحدود الأوكرانية على مدار الأشهر الماضية بما يُتيح لها أن تُمهِّد الطريق لعملية عسكرية تحسم الانسداد السياسي في أوكرانيا لصالحها. ورغم أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” اعتاد التلويح باستخدام أدوات القوة في معرض الدبلوماسية، فإن موسكو تبدو بصدد عمل أكبر من التلويح هذه المرة. وإذا لم يتوصَّل أطراف الأزمة إلى اتفاق، فإن نيران الصراع قد تشتعل من جديد على نطاق أوسع بكثير.
دعونا نسأل لماذا قد يخاطر بوتين بقلب الطاولة جيوسياسيا واقتصاديا، في حين أنه مستفيد بإبقاء الوضع القائم إقليميا على ما هو عليه. لقد استحوذت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 في واحدة من أكبر عمليات انتزاع الأراضي التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وحين فرض الغرب عقوبات على روسيا عقابا لها على غزوها أوكرانيا فإنها لم تترك ندوبا عميقة؛ فلا يزال اقتصاد روسيا الكُلي مستقرا. وفي الوقت نفسه، تظل يد موسكو قابضة على سوق الطاقة الأوروبي عبر خط الأنابيب “نورد ستريم 2″، الذي سيُرسِّخ من اعتماد ألمانيا على الغاز الطبيعي الروسي، ويبدو الخط ماضيا في طريقه للتشغيل رغم عدة عقبات قانونية. وبالتزامن مع ذلك، تخوض الولايات المتحدة وروسيا حاليا محادثات من أجل الاستقرار الإستراتيجي بينهما، إذ التقى الرئيسان بوتين وبايدن في يونيو/حزيران الماضي في خضم جهودهما لبناء علاقة مفهومة أكثر للبلدين.