بعـد اعتقال اخـي حاذق مباشـرة، ذهبـت الــى محــل عملــي فــي مستشــفى بعقوبــة المركــزي الــذي يبعــد عــن بيتنــا ســاعة بالسيارة، وطلبــت إجــازة لمـدة ثلاثــة أيــام، ثــم توجهت الــى كــراج النهضــة واستقليت الحافلة الكبيرة المتوجهة الــى السليمانية وكان برفقتي اخـي قحطـان الـذي عاد أدراجه الــى بغــداد.
فــي السليمانية التقيت بأخــي ماموستا كمــال الــذي كان يقــود محليــة الســليمانية مـن بيـت سـري وفـي ظـروف قاســية، أخبرته باعتقال حاذق، فأهتــز بدنــه مــن هــول الصدمـة، وراح يرتب لـي مستلزمات إلتحاقي بحركــة الأنصــار. بــدا الخــوف يساورني كلمــا دنــت الســيارة مــن سيطرة التفتيـش. الوجــوه القاسية كانــت تنظــر إلــي بعينين مملوءة بالريبة والتوجس.
شعـرت بطـول المســافة رغم قصرها، كمـا ان دوران عجلات السيارة باتت ثقيلة. كانــت لحظــات صعبــة، وتفكيــري تركــز فــي الخلاص مــن جحيــم الدكتاتوريــة وايضــا فـي صـورة أمـي التـي تخيلت حزنهــا المفرط وهـي تفقـد فلـذات كبدهـا فـي صبـاح واحـد، أحدهمــا وقــع بأيدي الوحــوش الضاريــة والأخر مــازال فــي عالــم مجهــول.
فــي سيطرة عربــد، يتقــدم العســكري باتجاه سيارة الاجرة، ويلقي نظــرة ســريعة علـى المـرأة المتجلببة بعباءة سـوداء وتجلس فــي المقعد الخلفي والتــي كانــت تتصـرف وكأننــا لا نعــرف بعضنــا. ســألني العســكري:
- هويتك
قدمت له دفتر الخدمة. تمعن قليلا. قــال العســكري:
– شــنو هــذا. ليــش الخــط بهالشكل…. َ
مالَ بالدفتر بحركــة مــن يــده اليمنــى وبمسـاعدة إصبعـه الصغيـر مـن يـده اليسـرى يمسـك حافــة الصفحــة لكــي لا تنطوي.
أجبته بطريقـة واثقة وبنبرة فيها شـيء مـن اللطافـة:
– جـان خطـه مـو حـلـو، علسـاس يعدلـه. خطيـه راد يكحلها، عماها.
وتابعت حديثي:
- بــاوع بالصفحــة الثانيــة مرتــب وواضــح ومكتـوب بأنـي مؤجـل مـن الخدمة العسكرية لمـدة سـنة.
وقـال وهـو يمـد يـده مـن خلال النافذة الــى داخــل السـيارة ليعطينــي دفتــر الخدمـة وهــو يرنــو الــى الطريــق دون ان ينظــر الــى وجهــي:
- وين رايح.
- رايح ال دربندخان.
- اتفضل مع السلامة.
- شكرا.
تحركــت السيـارة قليلا ثــم توقفــت، واستقليت سيارة أخـرى، لاندكروزر يقودها شــاب فــي الثلاثينات مــن عمــره. بينمـا ظلــت المــرأة فــي ســيارة الأجرة، والتــي لاحقاً التقيت بهـا حـال وصولي الـى القريـة. بعـد مسـافة قصيـرة مـن انطلاقها، انعطفـت السـيارة وخرجــت عــن الطريــق السـريع، دلفــت إلـى اليسـار، لتنطلق باتجاه الجبـال العاليـة مخترقة طريـق الحصى، حيـث هنـاك بيــن وديانها معاقل الأنصــار.
توقفـت السـيارة لبرهة. ترجـل السـائق منهـا واخـذ يتظاهر وكأنـه يفحـص المحرك، بينمـا كنـت أقوم بتبديل ملابسي القديمـة بالسروال الكـردي الـذي يتناسـب مـع البيئـة الجبليــة، وبعدهــا انطلقت السيارة باتجاه احمـد آوى. مـازال الخـوف مـن التعـرض الـى كمين قائمـا، فالقـوى المواليـة للنظـام تنتشـر فــي المنطقــة وربايــا الجيــش تتمتــرس فــوق القمـم. حــال وصولــي الــى قريــة احمــد آوى، وقــع نظــري علــى مجموعــة مــن المســلحين، فشـعرت فـي لحظتها أننـي أُنتشلتُ مـن بئـر كالــح بعــد ان استغرق انقاذي وقتا طويــلا، وانــي بحاجــة إلــى هــواء لأملأ رئتــي.
الأحــداث المؤلمــة تبقــى راســية علــى مرافـئ الخلايـا المتعبـة، وتهزهـا رياح الألـم مـع تقـادم الزمـن. كان الليـل قد كسـاه السـواد فـي جبـال كرجـال القريبـة مـن القريـة، التـي كانـت تتمتع بطبيعة خلابة، وفــي وديانها تكثــر الأشجار الكثيفة والمثمرة، كالتين، والرمان، وتنبعث منها روائــح طيبــة تزيــل عنــا غبــار العزلة، وتنعش فــي ذاتنا حيــاة ربيعيــة صافية. امــا الشلالات الرائعــة فتنساب بمائها الصافي باتجاه الــوادي. ورغـم هـذا الرخـاء التـي أوجدته الطبيعة، إلا أنهـا كانـت عاجزة عـن إبعـاد تلـك الذكريات الأليمة التي ظلــت راسخة فــي الــرأس.
لا يمكننـي نسيـان تلــك الليلــة وأنــا أغــط فــي نوم عميــق فــي غرفــة الفصيــل، كادت ان تتحول إلى فاجعة. كان الضـوء داخـل الغرفة داكنا، لقد تعرض احد أنصارنا الى اصابة بليغة بشظية اخترقت رأســه، وذلــك مــن جــراء انفجــار قذيفة هــاون انطلقــت مــن الربيئــة المطلــة علــى احمــد آوى ووقعــت بالقرب منــه وهــو يقطــع المســافة مــن بتاليــون الســابع باتجــاه مقــر القاطــع، قد تدهــورت حالتــه بشــدة فــي تلــك الليلــة. وفي هذه اللحظة كنت احلم بكابوس مرعب أيقظنــي علـى أثره النصيـر أبـو حاتـم مـن النـوم. لـم أدرك أو اميــز حــركات الأنصــار داخــل غرفــة الفصيــل واصواتهم المتداخلة. كنــت بين النوم واليقظة. وفـي الخـارج لا تسـمع سـوى حفيــف الريــح.
– خطية، شلون تخربط.
رأيـت النصيـرة سـهام، تخيلتها والدتي، تراءى إلــى ذهنــي، تلــك الليلــة المشؤومة، عندما اقتحم الأمــن منزلنا، ودون شعور سحبت السلاح مـن تحـت الوسـادة. أدرك أبـو حـاتـم علـى الفـور الموقـف بسـرعة، وضغـط بقـوة علـى السلاح ليهبـط علـى سـاقي. وقال:
– انــت صاحـي. رفيقنا تخربط. يحتــاج الــى مسـاعدة.
بعــد مــرور تسعـة شهـور فــي مقــر كرجــال، جثمــت بقايــا الثلــوج المتناثرة علــى قمــم وســفوح الجبــال الشــماء ونــزولا الــى الوديــان المتروكــة مــع صمتها ألازلــي. أيقظنــي الحــرس بتأنــي لأخذ مكانـي فــي الحراســة بعــد أن داهمنــي حلــم مخيـــف وكئيــب. أثنــاء نوبــة الحراســة انتابتني مشاعر ممزوجة بالحــزن والتفــاؤل شــارداً بأحلامــي فــي زمهرير الليــل بصمــت مطبــق تتفــق مــع الحــذر المطلـوب أثنــاء المناوبــة فــي حلكــة الليــل.
وفـي الجبـل، بعـد مكوثـي هنـاك بعيـدا عــن بغــداد، ودفء الأهــل، وفــي الصبــاح والقلــق يحفــر صــدري، كنــت شارد الذهن، متأملا ذلـك الحلـم، الـذي اجتاحني كسـيل جـارف دون سـابق إنـذار. وفجـأة وضـع ابــو لينــا يــده اليمنــى علـى كتفـي. وســألني وعلــى وجهــه ابتســامة لطيفـة:
– اشبيك، اشوفك شارد.
كنــا نمشــي ونتبــادل أطراف الحديث. حكيـت لـه عـن ذلـك الحلـم المخيـف، كيـف تعــرض منزلنا الــى قصف بالصواريخ، أدى الــى انهيـار كامــل لــه وتحــول الــى كومــة ُ تــراب، ولــم ينــج مــن العائلــة أحــد. كنــت أروي له احــداث الحلــم بالتفصيل. عــاد ابــو لينــا أدراجــه دون أن ينبــس ببنت شفة عمــا كان يجــول فـي خاطـره.
كان الثلج ينهمر منـذ منتصـف الليـل حتــى الفجــر. توقف قليــلا. وكأن الســماء تقــدم لنــا هبــة وفرصــة لكَنــس الثلـج المتراكم أمـام الغــرف المبنيــة مــن الحجــر والطين. بعـد أن انتهينا مـن الفطور صباحا، تجمــع الأنصــار مـن أجـل جلـب الحطـب. توجهنا نحــو القمــة الجبلية، المقابلة لمقراتنــا حيــث الأشجار الكثيفة موشاة بقطــرات النــدى المعلقة بأغصان الأشجار كعناقيد العنب.
قمنا بقطع بعـض الأشجار. وعدنا الـى المقـر ودخلنا إلى غرفـة الفصيـل لأخذ قسطا من الراحة. كثافة الثلــوج غطــت قمم الجبال بأكوام اخــرى، والأشجار المتناثرة علــى منحدراتهـا تحولت إلى بيـــاض ناصـع اختفـت فــي غمــرة الثلــوج الغزيــرة. وخرجنــا جميعــا مــن غــرف القاعــات المبنيــة على شكل غرف متباعدة بعضها عن بعض لأسباب عسكرية الــى الهـواء الطلق، حيــث البيـاض غطى الصخـور الصمــاء فــي الجبــل.
نعـم خرجنا لكـي نـرى سـقوط الثلـج، وأن نســتغل هــذه اللحظــات فــي القيام ببعض النشاطات الترفيهية، حيــث قمنا برمي أحدنا للآخر بكــرات ثلجية، نصنعها بأيدينا البـاردة. كانــت لحظــات جميلــة وممتعة. وجـوه تضيء بسعادة عظيمـة. كان قلبــي يتملكه احســاس الفــرح العميـق. الجميــع تغمرهم لحظــات الوجــد والنشـوة.
رميـت الكــرة الثلجيــة باتجاه النصيــرة ســوزان، وارسلت إليهــا ضحكــة الانتصار، لأننــي نجحــت بإصابتها. انزلقت قدمي اليسرى، ففقدت السيطرة، ووقعــت علــى الأرض ضاحكا، مسترسلا بنظراتي الــى سـوزان، ملمحا لهـا بأن سقوطي هـو عقـاب لإصابتي لهــا. نظــرت إلــى بحــزن وكانــت علــى وشــك البـكاء. فـي بـادي الأمـر اعتقدت انهـا تمـزح لان الضربة لــم تكــن قاســية. عندمــا دنــوت إليهــا، وإذا بعيونهـا اغرورقت بالدموع وانهمرت على خديها.
وبعــد الغــذاء افترقنــا جميعــا. طلــب منــي دكتــور سالار ان أضــع اليشماغ علــى رأســي، وان اذهــب الــى غرفــة القاطع. لــم أكــن اعلــم شــيئا، بــل لــم أفكــر قــط ســبب هــذا الاهتمــام، ولا سـيما كان تصـرف دكتــور سالار طبيعيــا جــدا. كنـت أتصـور بـأن هنـاك مهمـة سـوف يتـم تكليفي بهــا، طالمـا تــم استدعائي بطريقــة رسمية ولا سـيما كانــت هنــاك توجهات لإرسال البعــض إلــى الداخــل. وأنــا أســير بخطــى ســريعة نحــو غرفــة القاطــع، وصلــت إلــى فنــاء البــاب، وقفــت لوهلــة ونزعــت الحــذاء دون مشقة وطرقــت البـــاب وقلــت بصــوت واضــح:
– هذا أنا سلام.
جاءني الرد سريعا:
– تفضل بالدخول.
دخلــت إلــى الغرفــة وألقيت التحيــة، كانــت قيــادة القاطــع مجتمعــة، ومــا أن جلسـت حتـى قـام آمـر القاطع بسـرد طويـل لتاريــخ الحــزب، ونضالاته ومــا قدمــه مــن كواكــب الشــهداء عبــر تاريخه الكفاحي الطويــل. شعرت ان خيــوط افكـاري ســوف تنقطــع، وكشــريط سينمائي مــرت امــام ناظـري وجـوه الرفـاق، ونظراتهم لـي، وبـكاء سـوزان حـد الالم يـوم امـس، وانـا كنـت فـي حينهــا فــي نشـوة التلاحم، برشــقات بعضنــا البعــض بالكــرات الثلجيــة، والســعادة ترتســم معالمهـا علـى وجهـي، وصمـت ابـو لينـا عـن البــوح بحقيقــة مــا حــدث وهــو يصغــي الــى ذلــك الحلــم الكئيب، وانــا اعيــش آلامه، كان قلبــي يــدوي باندفــاع شــديد وبصــورة مضطربة داخــل قفصــي الصــدري، بحيــث خامرنـي الشـك يمكـن لـه ان يقفز مـن هـذا الجـوف المغلق مغطاة بجـدار ملمـس. وفـي هـذه اللحظـة الحاسمة تلاشت كل توقعاتـي، شــيء مــا جعلنــي فــي دوامــة الشــك فــي ان مــا ســيأتي مــن اخبــار اشــد ســوء ً مــن كارثـة حلمــي قبــل الليلة الماضية. كنــت أمســك نفســي بقــوة.. واخيــراً أفصح أبــو ســرباز قائلا :أن النظام البعثي قـام بإعدام ١٥٠ إنسـان، ومـن ضمنهم اخـي حاذق فـي تاريـخ ٢٧-١-١٩٨٥.