سيّس يُسيّس فهو مسيّس تسييساً. من محاسن الصدف ان يظهر التصريف النحوي لكلمة ” سيّس ” من السياسة في العربية الفصحى, مشابهاً الى حد كبير للتصريف النحوي لنفس الكلمة باللهجة العراقية الدارجة عدا اختلاف طفيف في التشكيل, واختلاف بيّن في المعنى وهو بمعنى ” طاف, طوّف ” اي طفا على وجه الماء.
كلامنا يتعلق بنفوق اطنان كثيرة من السمك في نهر دجلة لأسباب غامضة.
فقد اخرجت الكارثة البيئية, والى اجل غير مسمى, أطباق السمك من قائمة الطعام العراقي ومن الاستهلاك البشري عموماً.. وتحول الحدث الى قضية رأي عام.
فهي خسارة اقتصادية لها ذيول سياسية غير خافية على العراقيين, خصوصاً وان حدوثها جاء بعد اعلان الجهات الرسمية المختصة, قبل فترة وجيزة, عن اكتفاء البلاد من الانتاج السمكي النهري وعزمها على اغلاق ابواب الاستيراد من البلدان المجاورة.
ورغم تحذير بعض المتنفذين من اعطاء الحدث معنىً سياسياً, فقد بادرت مختلف الجهات المتضررة والمستفيدة الى الأدلاء بدلاها, لكشف اسبابه وتبعاته.
البعض اعتبره مؤامرة على الأمن الغذائي العراقي من اعداء متربصين حاقدين.. الصيادون واصحاب مزارع السمك الصغار, بعد ان برأوا طيور الفلامنكو الجميلة من تهمة افراغ مجمعاتنا المائية من الاسماك بألتهامها الشره لها, عادوا فوجهوا اصابع الأتهام نحو متنفذين كبار في اجهزة الدولة وفي الميليشيات من حيتان مزارع السمك بخلق هذه الازمة في خضم صراعهم على مفاتيح مناطق النفوذ السياسي ومغاليق التحكم بأسواق السمك.. بعضهم ذهب مذهباً ان هؤلاء المنتفعين من ” تسييس السمك ” سمموا المياه لأجل عيون الجارة المسلمة ايران… ثم قدموا تعليلاً, لا يخلو من وجاهة, كونها المستفيد الاول من بقاء العراق غير مكتفياً بثروته السمكية ومعتمداً عليها في استيراد حاجته منها. ودعمّوا حجتهم بدليل آخر وهو قطعها للعشرات من الروافد والانهار التي كانت تصب في روافد نهر دجلة وفي اهوارنا, مما سبب انخفاض مناسيب المياه فيها وتراجع ثروتنا السمكية.
متحدث بأسم احد الاحزاب الاسلامية المتنفذة, انتفض كالمقروص ليدفع بحزم التهمة عن ايران وينفيها جملة وتفصيلاً, مسيّساً ” تسييس السمك ” بأعطاءه بعداً دولياً وتحميل الشيطان الاكبر امريكا جريمة تسميم مياه انهارنا لزرع الفوضى… ولسان حال المواطن البسيط يقول : ” بين العجم والروم بلوة ابتلينا “.
ولم يخطر على بال المتحدث اياه مدى خطورة تعرض امن مواطنيه الغذائي للتقويض وفقدان مورد مهم للغذاء الصحي… فمن على شاكلته, عادة ما تتلبسهم اللامبالاة في مثل هكذا امورتتعلق بالصالح العام, رغم ما يتصل بفقداناتهم فتافيت من عوائدهم هنا وهناك مثل بعض مزارع سمك قادتهم, يمكن تعويضها بألف طريقة وطريقة.
كما لم تدفعه حميته الوطنية الى التفكير بفداحة تغييب رمز وطني من مينيو الاكلات العراقية التقليدية الا وهو ” السمك المسگـوف ” فخر مائدتنا الوطنية وعلامتنا الفارقة , وحرماننا من اطباق تقليدية اخرى, عزيزة على قلب كل مواطن مثل ” الطابگـ مع سمك العمارة ” ثم اكلة ” مطبگـ السمك ” التي لايتخلى عنها اي ذوّاقة طعام عراقي…
ولكي لا نغرق او” نسيّس ” بالتحليلات السياسية كثيراً, نقول ببساطة : كيف يمكن نفي وجود غرض سياسي تآمري في العملية في ظل توفر معطيات فاقعة بوقوف الأوليغاركية الحاكمة بكل سفالتها ولا مبالاتها وراء كل العملية ؟ بدفع من أيادٍ خارجية مستهدفة الأمن الغذائي للمواطن العراقي, وبألغاءها جانب من عملية الانتاج الاقتصادي الغذائي بدأ يتعافى, يتعلق بصحة المواطن…
فالدعوات الى عدم تسييس الأمر, هو في الحقيقة توجه نحو تعويم الكارثة وتمييع الأمر وطمطمة الجريمة ووضعها في طي النسيان, ليبقى المنفذون الحقيقيون للجريمة خارج حلقة المسآئلة القانونية رغم ما احدثوه من تخريب بأقتصاد البلاد.
ولأن ليس للسمكة صوت وخيوط القضية في ايديهم فأن المخرب آمن… لتسجل كل المأساة ضد الطبيعة ببكترياها وفطرياتها.