الثقة بالذات، عفويا لا تظاهرا، نخبة تنويرية تتمكن من تعديل وتنمية البنية الثقافية، قيادة حكيمة تملك وضوح الرؤية، تخمد الخلافات الداخلية، يوجهون أطراف الحراك بوعي، تتفق على بعض نقاط التقاطع حول المشاريع القومية، يسندونها بديمومة الإصرار، وعرضها كمشاريع ثابتة وعلى سوية ثقل الشعب، وألا تفضل عليها البعد الوطني للجغرافيات الوليدة. فالمطالب لا تترسخ بعلو سقفها، بل في استمرارية الحفاظ على سويتها، وعدم التلاعب بها مع الأيام والظروف. دونها انعكاس لغياب الثقة العفوية ولمركب النقص الذي نعانيه. فمنذ أحمدي خاني والدعوة إلى القومية الكوردية حاضرة، يوم لم تكن هناك قوى دولية ومصالح، بل صراع بين إمبراطوريتين، بينهما كنا شعب نقف على قوة وثروات خام لا تجاري، دون مطالب، وما كان لم تستمر سوى لفترات قصيرة.
خلال نصف القرن الماضي، رفع البارتي الديمقراطي الكوردستاني في عام 1957م شعار تحرير وتوحيد كوردستان، لكنهم تخلوا عنها بعد أقل من سنة تحت مبررات الظروف الإقليمية والدولية. رفع حزب الاتحاد الشعبي الكوردي في سوريا، شعار حق تقرير المصير، في بداية الثمانينات، لكن في جوهرها لم تتعدى الحقوق الثقافية والاجتماعية، ولربما السياسية، وبعد سنوات لم يبقى له أثر. طالب حزب العمال الكوردستاني بتحرير كوردستان الكبرى، لأجل استقطاب الجماهير حوله، ولم يستمر سوى سنوات قليلة. وفي عام 2014م حاول أحزاب الإدارة الذاتية وعلى رأسهم الـ ب ي د تطبيق النظام الفيدرالي في المناطق الكوردية، لكنهم تراجعوا عنها ولم يثبتوا عليها تحت مبررات الظروف الإقليمية. كما وأن المجلس الوطني الكوردي طالبوا بتطبيق النظام الفيدرالي في عام 2015م لكنهم وبعدما لم يتمكنوا من إقناع القوى المشتركة معهم في الائتلاف الوطني السوري، أصبح شعارا نظريا دون فعل، ولم يعد يتم العمل على أسسه. أما المجلس الوطني الكوردستاني في سوريا، برئاسة د. شيركو عباس، تم تثبيت الفيدرالية كمشروع رئيسي، منذ مؤتمرها التأسيسي عام 2006م، وظلت الفيدرالية المنهجية الأساسية لنشاطاتهم وعلاقاتهم وحواراتهم مع القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، وهي لا تزال مستمرة على ترسيخ النظام الفيدرالي لسوريا، وتثبيت فيدرالية غربي كوردستان وبجغرافية تم تحديدها بإحداثيات دقيقة.
ثقتنا بقادمنا وقضيتنا جعلتنا نشك بقدراتنا وما يجب أن تتضمنه مشروعنا القومي، وهي نتيجة معيشتنا وعلى مدى قرون طويلة في مجتمعات مغلقة، نادرا ما خرجنا من جغرافيتنا، انتصاراتنا كانت جلها داخلية، مقابل خسارات خارجية متواصلة، خلق فينا هذا الواقع نزعة الحذر من الغريب، توسعت لتشمل القريب ومن ثم عدم الثقة بالنفس، وهو ما أدى إلى ظهور نوع من مركب النقص؛ عند مواجهة الخارج، وهي ذاتها التي كثيرا ما تدفع ببعض حراكنا بعدم التدخل أو معالجة قضايانا خارج جغرافيتنا، وحد بالعديد من كتابنا وسياسيينا، التهجم على الإدارتين الكورديتين عندما حاربوا داعش خارج جغرافية كوردستان.
ترسخ الموروث في لا وعينا، ولا زال غالبية مجتمعنا، وحراكنا يعانيه، رغم سنوات الانفتاح؛ لم نتخلص منه، تبعاته خلفت دراسات وأبحاث مشوهة لتاريخنا من قبل البعض من كتابنا، الذين لم تقل أعمالهم عما فعله مؤرخو الأعداء، ليس فقط حول تاريخنا الوطني، بل وعلى مستوى العشيرة والعائلة، نقلوها من التلفيق إلى التضخيم، طغت على الكثير منها الجهالة وإنقاذ الذات ورسخت بمركب النقص، جلها كانت على حساب قادم ومصير شعبنا، وقد تأثر بها العديد من سياسيينا.
كثيرا ما تم تفضيل البعد الوطني على القومي ولا يزال، ونعني الوطني المطروح حسب الجغرافيات المقسمة لكوردستان، والذي يعكس مركب النقص قبل الإحساس بالبعد الوطني، وهو تصغير للذات أمام الأخرين، تحت مفهوم الأخوة أو الوطنية، وغيرها من المبررات، التي يغيب فيها الوعي والحكمة، لأن معالجة القضية الوطنية بمصداقية لا تتعارض والمشروع القومي الكوردي، مع ذلك، وأحيانا يتم خلق التضارب بينهما، تحت حجج؛ الظروف السياسية، والاقتصادية، والوعي الثقافي، ولكن في قمتها توجد عدم الثقة العفوية، وموروث مركب النقص.
المشاريع الواضحة تتقدم على بعضها في مراحل معينة، مع العلاقات الدولية أو الإقليمية وحيث المصالح، لكنها يجب ألا تكون على حساب المشروع القومي وديمومته، وإن تم فتعني أن هناك مخطط لإلغاء القومية الكوردية. نوهنا إلى ذلك لأن السلبيات سادت في العقود الماضية على عمل ونشاطات الحراك الكوردي، وطالت بعض التغييرات على سوية المطالب، تراجعت سقفها، تحت ضغوطات الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، كما ولعدم الثقة دورا، والتي طعنت في مكانة الشعب أمام المتربصين.
التباهي بماضينا، أو ماض شخصيات عظيمة ينتمون إلى الأصول الكوردية، أو ما قدموه لمسيرة شعوب المنطقة، يمكن أن تخلق نوع من الثقة، وتغطي على تعاملنا مع الخارج، لكنها لن تبني الحضور العفوي لنا على الساحة، ولن تصحح من التقييم اللاشعوري للمجتمعات المحاطة بنا، ولن تغير كثيرا في مواقف القوى السياسية الإقليمية أو الدولية معنا.
لا تزال السمة بعفويتها غائبة أو مهزوزة، في بعدها اللا شعوري، مثل ديمومة المشاريع القومية، وعلى خلفية التناقضات الحادة بين ما تم ويتم طرحه من قبل أطراف حراكنا، وعلى المستويين الداخلي والخارجي، فتظهر المطالب القومية هشة عند اللقاءات الخارجية، حتى أن بعض المواجهات الحادة تعكس وبشكل غير مباشر نقص الثقة بالذات من خلال سوية المطالب، ولا تغطي عليها حدة المواجهات.
ننفي وجود الموروث فينا، آفة مركب النقص، بل ونلغيها ظاهريا كجدلية، لكنها واضحة فيما لو راجعنا الذات، وهي بينة للأخرين، ظاهرة من خلال سوية وديمومة مطالبنا، والتي كثير ما يتم التساهل مع القوى التي نتعامل معها في البعد الوطني، ونتناسى واقعنا القومي، إما بحجة متطلبات المرحلة، أو ضعف الإمكانيات، وفي الواقع هذا التناقص انعكاس للموروث المدمر طوال القرون الماضية.
نحتاج التحرر من الموروث السلبي، كحراك قبل الشعب الكوردي، ليس عن طريق التباهي، بل بالعمل على تكوين الشخصية الحرة، التي ستجعل الثقة متركزة في اللا شعور، وهذه تحتاج إلى مسيرة طويلة من تثقيف الذات، والتخلص من منهجية السيادة والموالي التي فرضتها الأنظمة على أمتنا على مدى قرون طويلة، والتخلص من ثقافة لغة الديانات، والعفوية في الرضوخ للأنظمة المحتلة، وتقبل سيادتها.
رغم غياب الدولة الكوردستانية، وديمومة التبعية، المفروضة أو المرغوبة، والهجرة المليونية خلال العقد الأخير، وما سبقتها من هجرات داخلية وخارجية، وبمخططات كارثية عدة، والتي كانت هدفها القضاء على الرابط التاريخي بين الديمغرافية والجغرافية الكوردستانية، ورغم عدم تمكننا من الإحاطة بقدراتنا الخام، أو الاستفادة منها (من الديمغرافية التي تجاري أكبر شعوب المنطقة، إلى الثروات الهائلة. والجغرافية الكوردستانية المترامية. والركائز الثقافة المستمدة ثوابتها من أعماق التاريخ) لم ننحرف عن مساراتنا الوطنية والإنسانية، ونتخلى عن مبادئنا، ولغتنا، ولم نتأثر كغيرنا من الشعوب بثقافات الأنظمة الشمولية، ولا بالتشوهات المذهبية القادمة من خارج جغرافيتنا، إلا ما ندر، لكننا مقابلها دفعنا الثمن غالياً، ومنها: أصبحنا أقلية على حافة الوطن، وقوى مشتتة تائهة في المهجر، وحراك متنافر ننسخ تجارب الماضي، واستمرينا كالسابق دون مستوى حمل مسؤولية قضية شعبنا ووطننا.
جمعيا ندرك حقيقة ما آلينا إليه، ولا نبوح بها إلا للتهجم على البعض، وفي الواقع كل تهجم يعني في عمقه انتقاص لكلا الطرفين، والخلافات الداخلية لم تكن يوما لتصحيح مسارات بعضنا، بل هو جلد للذات وتأنيب للضمير، ومحاولة غير مباشرة لتبرئة النفس من المسؤولية. وهي جهالة في التعامل، وعلى أثرها لا نزال ندفع ببعضنا إلى مستنقع الضياع، ونتعامى عما ينحدر إليه مصيرنا، وكيف لا زلنا نربط قدرنا بمراكز القوى المحتلة لكوردستان ونتناسى البحث عن عوامل التقارب الداخلي، ننجر إلى مسوغات الأنظمة الشمولية والتي تزيد من خساراتنا الخارجية وانتصاراتنا الداخلية على البعض، وما اضحلها من انتصارات، والتي تزيدنا الإحساس بعدم الثقة بالنفس وبالفشل والضياع، المتواصل من قرون ماضية إلى اليوم…
يتبع….
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
21/3/2022م