لم تكن الأحزاب الشيعية المدعومة بالميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، تتوقع أن حوارها مع مقتدى الصدر زعيم التحالف الفائز في الانتخابات الأخيرة سيكون ميسراً وأن دفعه إلى الاعتدال من أجل التوصل إلى قواسم مشتركة سيكون ممكناً. ذلك لأن غالبية زعماء هذه الأحزاب كانوا قد أحاطوه عبر السنوات الماضية بالإزدراء والاستخفاف والاستهانة بقدراته السياسية على الرغم من أنهم كانوا على علم بأنه يحظى بشعبية لم يكن أحد منهم يحوز على نصفها. في حقيقته، فإن ذلك الموقف كان يعبّر عن نظرة استعلائية ساهمت المؤسسة الدينية في تكريسها انطلاقاً من حقيقة أن تلك الشعبية كانت إرثاً لعائلة الصدر وهو الإرث الذي يعتبره حزب “الدعوة” على سبيل المثال تركة رثة لا يُعتد بها على مستوى الحراك السياسي الشيعي المرتبط ولو مظهرياً بمرجعية النجف. كما أن إيران وهذا هو الأهم، لم تتعامل عبر العشرين سنة الماضية بشكل جاد مع الصدر لا في خلواته التي كان يقضيها في قم ولا في تظاهراته التي كان يعلن من خلالها موقفاً مناوئاً لهيمنتها على العراق.
لقد جرى التعامل مع الصدر كما لو أنه لم يكن. لا أتذكر أن قاسم سليماني كان قد اجتمع بالصدر ذات أزمة. الصورة الوحيدة التي تجمع الاثنين هي تلك التي التقطت لهما وهما بجلسان في حضرة خامنئي في أحد مجالس العزاء كما أذكر. بالنسبة إلى إيران، فإن الصدر لم يكن يشكل رقماً صعباً. كان ذلك خطأ في التقدير، وهو الخطأ الذي أدى إلى أن تتسع الفجوة ما بين الأحزاب التي ارتبط وجودها بما يُسمى بـ”المظلومية الشيعية” وبين تيار سياسي شيعي شعبي لم يتخذ صيغة حزبية إلا من خلال ميليشيا حملت في البدء اسم “جيش المهدي” تم استعمالها في ارتكاب جرائم مروعة في حق المدنيين أثناء الحرب الأهلية التي أدارها نوري المالكي يوم كان رئيساً للحكومة وقائداً أعلى للقوات المسلحة.
يومها كان الصدر ضرورياً، لكن في حدود جرائم ضد الإنسانية ارتكبها جيش المهدي.
وبالرغم من أن العلاقة لم تكن سوية بين الطرفين فقد كان تيار الصدر موجوداً في كل الحكومات التي جرى تشكيلها بعد عام 2005، فهو جزء من نظام المحاصصة الطائفية بالرغم من أنه لم يكن ممثلاً في مجلس الحكم ولا هي في حكومة أياد علاوي التي كانت “بروفة أميركية” لإقامة حكم وطني. لذا وجد ذلك التيار طريقه إلى السلطة من خلال مشاركته في الحرب الأهلية. بعدها صارت حصته في الميزانية العراقية تؤخذ في الاعتبار، وهو ما يعني وقوع وزارات بعينها في قبضته وأهمها وزارتا الصحة والكهرباء. وبهذا يكون التيار الصدري قد احتل مكاناً مهماً على الخريطة التي شكلت قاعدة لجغرافيا الفساد في العراق. غير أن ذلك لا يعني أن أحزاب الشيعية السياسية قد أدخلت الصدر بتياره إلى المتن التاريخي لحراكها السياسي، بل أبقته في الهامش. وإذا ما كان حزب “الدعوة” قد خاض حربين ضد التيار الصدري بذريعة الدفاع عن الشرعية ضد السلاح المتفلت، فإن ذلك لم يؤدِ في ما بعد إلا للقبول به شريكاً في العملية السياسية. ولكنه لم يكن ذلك الشريك المرضى عنه في إطار ما يُسمى مجازاً بـ”البيت الشيعي”. ما حدث في الانتخابات الأخيرة كان صادماً لكل أفراد ذلك البيت.
صار على الأحزاب الشيعية أن تحسب خطواتها وهي تتقدم باتجاه مفاوضات، تعرف أنها ستكون صعبة مع عدو سابق، تعتقد أن في إمكان إيران وحدها أن تحل المشكلة معه. ربما حاول الصدر الإفلات من تلك الوساطة حين قرر الاعتكاف. ما معنى أن يعتكف سياسي أهلته الانتخابات لكي يقود المرحلة السياسية المقبلة؟ لقد نجح في الأشهر الماضية أن يشكل من خلال تحالفاته مع السنّة والأكراد، الكتلة النيابية الأكبر ولكنه فجأة تخلى عن كل ذلك وأعلن عن خلوته. ذلك ما لا يمكن تفسيره إلا من خلال توقع أن الرجل قد تعرض لضغوط إيرانية ولم يكن الهروب إلى الخلوة مجرد نزوة بل هي انعكاس لمزاجه المتقلب كما كان يُقال دائماً. في كل الأحوال، فإن تلك الضغوط لن تؤدي إلى تقارب بين التيار الصدري والأحزاب الشيعية في طريق وضع حد للأزمة. لا لشيء إلا لأن ذلك التقارب سيُبنى على اتفاق انتهازي موقت يقع خارج المبادئ. فهل ستظل عجلة العملية السياسية في العراق تدور في الفراغ بما يعني استمرار عجز الكتلة النيابية الأكبر عن اختيار رئيس للجمهورية ومن ثم الاقتراع على شخصية رئيس الحكومة؟
إذا ما نظرنا إلى الأزمة في حدود بعدها السياسي، فإن حصرها في إطار التوافقات الشيعية لا بد من أن يشير إلى أن كل آمال التغيير التي تم إغراء الجمهور العريض بها كانت وعوداً زائفة أدار لها الفائزون بالانتخابات ظهورهم من أجل أن يتفرغوا لحل مشكلاتهم الحزبية داخل الطائفة بما يعني أن كل الحديث عن عمليات الإصلاح والتغيير كان مجرد ورقة ضغط لكي تقدم الأحزاب الخاسرة تنازلات ملموسة حتى لا تخسر امتيازاتها في نظام المحاصصة.
ولهذا يمكنني القول إن فرصة للتغيير ومحاربة الفساد لم تكن موجودة أصلاً إلا على مستوى تغريدات العالم الافتراضي وأن كل الأطراف الحزبية، الفائزة والخاسرة على حد سواء كانت على يقين من أن تدخلاً إيرانياً سيبطئ الشحن في خلاف سيطول أمده غير أنه سيفضي إلى اختراع معادلات سياسية جديدة تحفظ للجميع (حقوقهم) تحت المظلة الإيرانية.