“إنه الاقتصاد يا غبي”، جملة صاغها الكاتب والخبير الأستراتيجي جيمس كارفيل لحملة بيل كلينتون عام 1992، وقالها الرئيس الأمريكي الأسبق وهو يخوض وقتها غمار حملته الأنتخابية التي أوصلته الى البيت الأبيض بعد فشل جورج بوش الأب في معالجة المشاكل الأقتصادية في امريكا، لأنّ الأقتصاد القوي في الدول الديموقراطية يعني في وجهه الآخر علاوة على أمور كثيرة تحقيق نظام عدالة أجتماعية متين وقوي. هذه الجملة كافية في أن تعي الشعوب الأوربية خطر زوال أو أنحسار ما حققته خلال عقود من نضالاتها في سبيل تحقيق ما حققته لليوم من مستوى معاشي لائق ونظام عدالة أجتماعية عادل لحدود كبيرة خصوصا في البلدان الأسكندنافية، هذه البلدان التي حققت بالفعل مجتمعات الرفاهية لشعوبها.
لقد عانت اوربا في العام 2009 من أزمة أقتصادية القت بظلالها على النمو الأقتصادي لبلدان القارّة، وأحتاجت لفترة غير قصيرة للعودة الى معدلات نمو ما قبل الأزمة، وكانت اكبر التحديات التي تواجه معدلات نمو الأقتصاد الأوربي ومنه الأقتصادات الكبرى فيها، هي توفير الطاقة الرخيصة والمستدامة التي تعمل على كبح جماح التضخم وارتفاع الاسعار والبطالة، والتي تساهم مساهمة فاعلة في استمرار انظمة الرعاية الأجتماعية وتطورّها وديمومتها كنتيجة لها. وما أن تعافى الأقتصاد العالمي ومنه الأوربي، حتى ظهرت جائحة كورونا لتوجّه لطمة قويّة للأقتصاد العالمي الذي بدأ يلتقط قليلا من أنفاسه حينها.
جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي تحت عنوان (إصابات متزايدة بالفيروس وتعاف معطَّل وتضخم مرتفع) نُشر في كانون ثاني 2022، أي قبل أندلاع الحرب في أوكرانيا بشهرين تقريبا. في أنّ “الأقتصاد العالمي يستهل عام 2022 ، وهو في وضع أضعف مما ورد في التوقعات السابقة. فمع انتشار سلالة “أوميكرون” الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد-19، عادت البلدان إلى فرض قيود على الحركة. وأدى تصاعد أسعار الطاقة والانقطاعات في سلاسل الإمداد إلى ارتفاع التضخم واتساع نطاقه عن المستويات المنتظرة، ولا سيما في الولايات المتحدة وكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وباتت آفاق النمو محدودة أيضا في الصين من جراء الانكماش الجاري في قطاع العقارات وبطء تعافي الاستهلاك الخاص مقارنة بالتوقعات”. ويستمر التقرير في نظرته التشاؤمية ليقول “ومن المتوقع أن يستمر التضخم المرتفع لفترة أطول من المتصور في عدد أكتوبر من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، مع استمرار الانقطاعات في سلاسل الإمداد وكذلك أسعار الطاقة المرتفعة في عام 2022”. “وبافتراض بقاء توقعات التضخم على مستوى جيد من الثبات حول الركيزة المستهدفة، فمن المتوقع أن ينخفض معدله تدريجيا مع انحسار الاختلالات بين العرض والطلب في عام 2022 واستجابة السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى”. ويضيف التقرير من أنّ “انقطاعات سلاسل الإمداد، وتقلب أسعار الطاقة، وتركز ضغوط الأجور في أماكن معينة، كلها يعني ارتفاع عدم اليقين بشأن التضخم ومسارات السياسات”، وقد أشار التقرير كذلك أنّ رفع أسعار الفائدة في الأقتصادات المتقدمة كأمريكا ستسبب مخاطر على الأستقرار المالي في الأقتصادات النامية والعملات. وقد تتحقق “مخاطر عالمية أخرى في ظل استمرار التوترات الجغرافية – السياسية على ارتفاعها، كما أن الطوارئ المناخية الراهنة تعني أن احتمالات حدوث الكوارث الطبيعية الكبرى لا تزال مرتفعة”!!
كيف سيكون شكل تقرير صندوق النقد الدولي القادم، ومتحورّات كورونا مستمرة في جنوب أفريقيا والتي وصلت الى العديد من البلدان الأوربية، مع أستمرار غلق المدن في الصين نتيجة فشلها في تصفير الأصابات؟ وما هي نسب المخاطر على الأقتصاد العالمي وأمريكا ترفع نسبة الفائدة نصف نقطة لليوم، وما هي المخاطر الحقيقية في أنهيار الأستقرار المالي للبلدان النامية والفقيرة، في ظل أستمرار الحرب الروسية الأوكرانيّة وتأثيراتها الكبيرة على سوق الطاقة والغذاء والسلم العالمي، وأستمرار الجفاف ككارثة طبيعية محتملة وتأثيرها على الزراعة في ظل شحّة المياة؟
أندلعت الحرب العالميّة الأولى في أوربا لأسباب عدّة منها التنافس بين الدول الأستعمارية على اسواق جديدة لتصريف بضائعها، والبحث عن مواد خام رخيصة لأستمرار عجلة صناعاتها، وهذا يعني أنّ الأقتصاد هو المحرّك الرئيسي لأندلاع الحرب والتي راح ضحيتها ما يقارب الـ 17 مليون قتيل وملايين الجرحى وخراب كبير طال المدن الأوربية وبناها التحتية. وأندلعت الحرب العالمية الثانية هي الأخرى لأسباب عديدة ومنها الكساد والأزمة الأقتصادية العالمية، والتي راح ضحيتها ما يقارب السبعين مليون أنسان ودمار فاق دمار الحرب الأولى لتطور الأسلحة المستخدمة خلالها، وهذا يعني من جديد، أنّ الأقتصاد هو محرّك آلة الحرب العالمية الثانيّة.
الدولة الكبرى الوحيدة التي خرجت منتصرة وذات أقتصاد قوي مع محافظتها على بناها التحتية، هي أمريكا. أمّا أوربا التي كانت مسرحا مباشرا للحربين، فقد خسرت الكثير فيهما وأحتاجت لعقود كي تعيد تنظيم أقتصاداتها التي أنهارت أثناء الحربين. وهنا تكون مقولة كلينتون “إنه الاقتصاد يا غبي” سابقة لساعة قولها ولازالت، لأنّ البلدان الأوربية وهي تجرّب حربا غير معروفة العواقب على أرضها من أجل توسيع حلف الناتو خدمة للمصالح الأمريكية لم تعي معنى هذه الجملة وتداعياتها على ما يبدو. فالشعوب الأوربية وهي تعيش لحظات تاريخية دقيقة للغاية، بدأت تخسر الكثير من أمنها ورفاهها اللذان ناضلت من أجلهما طيلة سبعة عقود على الأقل أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لليوم. ومستقبل الأستقرار السياسي والأقتصادي والأجتماعي معرّض لخطر كبير في حالة أستمرار الحرب، وعدم الوصول الى وقف القتال عن طريق الديبلوماسية مع أخذ مصالح جميع الدول بما فيها اوكرانيا وروسيا بنظر الأعتبار.
في الأوّل من آيار الجاري، تناولت رئيسة وزراء الدنمارك السيدة ميتا فريذريكسون في كلمتها بمناسبة الأول من آيار في مقر حزبها وبحضور جمهور من أعضاء حزبها – الحزب الأشتراكي الديموقراطي ، الحرب الروسية الأوكرانية وآثارها وقالت: أنّ الدنمارك حققت خلال العام 2021 أقل نسبة بطالة خلال 27 عاما، وأدنى نسبة دين عام،. لكنّ الحرب في أوربا لها ثمن غال، علينا أن ننتظر وللأسف الشديد أزدياد نسبة الفائدة وأرتفاع نسبة البطالة. وأعطت بعض الوعود والتطمينات للفئات الأجتماعية الأكثر عرضة لتقلبات الأوضاع الأقتصادية كالمتقاعدين وذوي الدخل المحدود والطلبة والعاطلين عن العمل في مساعدتهم عبر حزمات مالية، على أن تكون مؤقتة وضمن أطر معينة. لو كان مجتمع الرفاهية الدنماركي مهدد بالشكل الذي أشارت اليه السيدة ميتا فريذريكسون بهذه السوداوية، فكيف سيكون حال المجتمعات الأوربية الفقيرة مقارنة بالدنمارك الغنية، كالبرتغال واسبانيا واليونان وبلدان اوربا الشرقية، وكيف ستكون حياة الناس في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية الأكثر فقرا.
في هذه الحرب ستخرج أمريكا وهي بعيدة عن مسرحها كما كانت دوما “منتصرة” وهي تبيع أسلحتها الفتاكة للشعوب الأوربية التي زادت من أنفاقها العسكري، ولتحتكر أمدادت الطاقة لأوربا بنسب مؤثرة. وبدلا من محاولات الدول الأوربية كي لا تخرج خاسرة من هذه الحرب كما اللواتي سبقتها، من خلال أيجاد حلول لأصل المشكلة التي تهدد أمن قارّتهم بشكل مباشر، وأولّها ألتزامها بوعودها في عدم توسع الناتو شرقا أكثر ممّا هو عليه الآن، وضمان عدم قبول اوكرانيا في حلف الناتو كبداية لأنهاء الحرب والأزمة. نراها تتحرك تبعا لسياسات الولايات المتحدة وبريطانيا في توسيع رقعة الحرب التي تهدد كل ما حققته شعوبها خلال عقود من خلال زيادة الأنفاق العسكري وأرتفاع نسب البطالة وقضم تدريجي لما حققّته من أنجازات على صعيد العدالة الأجتماعية ومجتمعات الرفاهيّة، هذه الحرب التي لا تهدد أوربا وحدها بل تمتد لتهدد السلم العالمي والجنس البشري بشكل عام.
الملفت للنظر هو غياب اليسار ومنظمات المجتمع المدني والرأي العام الجماهيري الأوربي عن دورهم في التظاهر والتجمّع للضغط من أجل وقف الحرب التي تجري في عقر دارهم، هذا اليسار الذي لعب دورا بارزا في دعمه للسلام العالمي ومناهضة الحروب في كل أرجاء المعمورة. فهل وصل الشحن الأعلامي لأستمرار الحرب تحت أية حجج كانت الى تغييب القوى الخيّرة والمحبّة للسلام ونبذ الحروب كوسيلة لفضّ النزاعات عن ساحتها!؟
“لا بوصة واحدة شرقا” جيمس بيكر مخاطبا غورباتشوف حول عدم توسع الناتو شرقا.
زكي رضا
الدنمارك
7/5/2022