هل نحن أمام مورثة كوردية السمات، خاصة بالخلافات الداخلية؟ هل هي طفرة زائدة على الخريطة الجينية البشرية؟ تحمل السذاجة بأعلى مظاهرها، انتقلت من حقول العائلة والعشيرة إلى الحراك الحزبي، ومنها إلى الثقافي، ومن ثم إلى الشارع والمجتمع، ساحة الكوارث القومية الداخلية، ببصماتها التاريخية، وإسقاطاتها المتتابعة على العلاقات الخارجية، التي مهدت الدروب للأنظمة الشمولية، المحتلة لكوردستان، في التعامل معنا بالفوقية منذ قرون وحتى اليوم.
إحدى أهم مفرزات المورثة، عدم الثقة بالذات، فحتى عندما نحصل على بعض المكتسبات، لا نتجرأ بوضع ذاتنا في موجهة الأنظمة المسيطرة، والعمل بالتحرر من إملاءاتهم. السمة تجلت في مراحل تاريخية سابقة، وهي تتكرر الآن مع معظم أطراف حراكنا الكوردي، وقادة الإدارتين الكورديتين، الإدارة الذاتية في جغرافية غربي كوردستان، وحكومة الإقليم الفيدرالي الكوردستاني وعلاقاتهما مع القوى الإقليمية من جهة ومع الكوردي المعارض من جهة أخرى.
قطعنا الحدود الفاصلة بين الطبع والتطبع، لعمق ما نعانيه من الإشكالية، وضخامة سلبياتها، وديمومة تكرارها في تاريخنا. فكلما ننبش في خلفيات خلافاتنا، نصطدم بدور القوى المتربصة بنا من جهة وبسذاجتنا من جهة أخرى، والأخيرة تضحل إمكانياتنا، السياسية والفكرية، وتساعد على استمرارية البيئة الملائمة لتوسيع الشرخ بيننا، والتي كانت من إحدى أبشع نتائجها، هجرتنا وتهجيرنا، وتحريف تاريخنا، وتشويه ثقافتنا، وتقزيم الشخصية الكوردية، ومحاولات القضاء على لغتنا، وظهور حراك هش لا حول ولا قدرة له، ساهم على تكريس ضعفنا وضحالتنا أمام أعداءنا.
لا يشفع لنا كحراك، تقزيمنا لقدرات شعبنا الذي حافظ بعفويته على ذاتنا كقومية لها ميزاتها وخصوصياتها؛ لم تذوب تحت طغيان الإمبراطوريات التي اجتاحت كوردستان، من الإسلامية إلى الصفوية والعثمانية إلى الأنظمة المحتلة حاليا. رغم أننا كشعب استطعنا مجاراة الشعوب المجاورة، والحفاظ وبعفوية على كياننا، من خلال التمسك بلغتنا وثقافتنا وقيمنا، وبجغرافيتنا، ووقفنا في مقدمة شعوب المنطقة المدافعة عن السلام، الفضل الأكبر لعفوية الشعب الكوردية وللعائلة، وليس لقياداته، أو حراكه، الذي لا يزال دون مستوى القضية ومكانة الأمة. أمتنا تحتاج إلى قيادة حكيمة واعية، كوردستانية التفكير والعمل، خارج أسراب الخلافات الحزبية، والمفاهيم الطوباوية.
من يستفيد من إمكانياتنا الخام ؟
كشعب وثروات، في المراحل الحديثة، بدأت تتوضح للعالم، وتدرس ضمن الأروقة السياسية والاقتصادية وعلى مستوى القوى الكبرى، إن كانت من خلال المجال الرحب الذي فتحه الأنترنيت والإعلام المخترق لجدران الرقابة، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ العابرة للجغرافيات، أو من خلال مراكز بحوث تابعة لإدارة القوى المعنية.
ولن نكون مخطئين، فيما لو قلنا أن كل الدول الإقليمية وبعض العالمية تنهبنا وتسخرنا لمصالحها، والشعب الكوردي آخر من يستفيد من إمكانياته، والاهتمام الدولي والإقليمي، وفتحهم الأبواب لنا، والتي خلقت مرحلة لتطوير الذات، كانت لتسخيرنا بالدفاع ليس عن جغرافيتنا وشعبنا، بقدر ما كان دفاعا عن شعوب المنطقة، وسلامة البشرية. رغم ضحالة قدراتنا العسكرية، وشبه عدمية الإمكانيات الاقتصادية والدعم السياسي المتوفر، فنتاج البيشمركة والكريلا الكوردية تجاوزت استراتيجيات الدول الكبرى في محاربة الإرهاب، رغم انعدام الأسلحة المناسبة، مقابل المتوفرة للقوى الأخرى، وما تصرف الدول الإقليمية على تطوير قدراتهم، كالحشد الشعبي، خاصة عندما تكون من ضمن مهماتها القضاء على القضية الكوردية والكوردستانية. رجحنا مصالح القوى الكبرى، على أمل التقدير خارجيا وخلق بيئة للمصالح المشتركة، دون الانتباه إلى أننا لم نتجاوز مرحلة الأدوات، بتشتتنا لم نخلق القوة الضاغطة الكافية لفرض شروطنا.
يستند قوة شعبنا على إحدى أهم ركائز التماسك القومي، وهي اللغة رغم اختلاف اللهجات، والمؤدية إلى ديمومة محاربة الأعداء لتدميرها، لإدراكها بمدى أهميتها كركيزة قومية أساسية، ولم تهادن يوما في وضع مخططات لطمسها، لكن الاختلافات بين اللهجات ونوعية الحروف، التي لا نعمل بشكل جدي على إيجاد حلول لها، كتوحيد مضمون الكتب المدرسية، وخاصة في المراحل الدراسية الأولى، تضعف قدرات حراكنا الثقافي في تطوير لغته بكل أبعادها، مقابل مخططات تهميشها وإزالتها، مثلما تم للغات بعض الشعوب العريقة في شرقنا، والتي تجاوزت كل التوقعات التي كان الغزاة يأملونها.
فبعدما ثبت للمتربصين، بأن اللغة الكوردية تجاوزت مخططاتهم، قاموا بمحاولات تدميرها كلغة ثقافية أدبية، لكن الحراك الثقافي الكوردي، وجلها بعفويته، أو بعضها استنادا على الركيزة الثقافية التاريخية، تمكن ليس فقط صونها، لكنها تحتاج إلى خطوات متقدمة لتطويرها لتبلغ سوية اللغات المتطورة في العالم، والإمكانيات الخام متوفرة، وذلك لأن الكثير مما نملكه كحراك ثقافي، من القدرات والإمكانيات تصرف على الخلافات السياسية الداخلية، أو على صراعنا مع الأنظمة المتربصة بنا، الحالتين التي وقفت وراءهما الدول الإقليمية، وعملت المستحيل لتبقي الحركة الكوردستانية ضمن مستنقع الخلافات، وتكرار أخطاءها، أو مطباتها السياسية-الحزبية.
بعيداً عن لغة السياسة والمصالح، وحيث سهولة نقل المعلومات التاريخية، ودور الإنترنيت، لم يعد بالإمكان التغطية على الأسماء الكوردية، أو شخصيات أصولها كوردية، ودورهم الساطع في كل المجالات بين شعوب المنطقة، وخدماتهم التي لا تحدها سياسة الأنظمة الشمولية العنصرية.
فخدمات المثقفين الكورد لمجتمعات شرقنا وقضاياهم، دون تمييز، لا تقل عما قدموه لمجتمعهم وأمتهم، النزعة الإنسانية هذه نابعة من الركيزة الثقافية التاريخية، وليست لتحسين السيرة الذاتية أو لكسب الشعبية والشهرة، لكننا لا نسخرها في مجالاتها المطلوبة، كتبيان دور حراكنا في تطوير ثقافة المنطقة، وتحسين العلاقات الإنسانية بين شعوبها.
لنا نحن الكورد مآثر يجب تمجيدها، وعرضها كأمثلة للاقتداء بها، بغض النظر عن الخلافات السياسية أو الفكرية، كالخدمة التي قدمتها قواتنا العسكرية، الـ ي ب ك والـ ي ب ج، والبيشمركة نيابة عن العالم بالقضاء على (داعش) أحدى أخطر المنظمات الإرهابية في العالم، وهي لا تقل عما فعله الكورد يوم تمكن القائد الخالد صلاح الدين الأيوبي من تحرير الشرق، بعد رسخوها لأكثر من مئتي سنة تحت الاحتلال الأوروبي.
مقابل هذه المآثر، هناك مظالم، واعتداءات لا تزال مستمرة، لا بد من الوقوف في وجهها، أو على الأقل محاولة إقناع الأخر عدم الاستمرار فيها:
خارجيا، إقناع الأنظمة العنصرية المحتلة لكوردستان، بإيقاف اعتداءاتها على كوردستان، والتمادي فيها تحت تبريرات وحجج واهية، وإقناع الشعوب المجاورة بأن حصول الشعب الكوردي على الحرية والاستقلال تعني حريتهم وخلاصهم من الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
داخليا، التحرر من إملاءات المتربصين بقضيتنا، وعدم الانجرار وراء إغراءات الأنظمة الاستبدادية، التي تضر بشعوبها بقدر ما تضر بالشعب الكوردي، وهذه ستكون عن طريق دفع أطراف حراكنا الاتفاق على بعض نقاط التقاطع، حتى ولو أستمرت الخلافات الحزبية أو الإيديولوجية.
ندرك أن أهمية الشعب الكوردي ومكانته في المنطقة، تتأثر مثل كل الشعوب بالحروب، لا قدرة له على فرضها داخليا ولا خارجيا، الأنظمة والطغاة يخلقونها من أجل مصالحهم الذاتية، والشعب الكوردي أكثر الناس تأثرا بها، ولهذا فهي أكثرها معارضة لها، فدخولهم أو مشاركتهم في بعض الحروب، لم تكن برغبة أو لمصلحة وطنية أو قومية، بل فرضت عليهم مثلما فرضت على الأخرين.
والشعب الكوردي من أوائل المجتمعات الطامحة إلى العيش مع الأخرين بسلام، وقد أثبتت تجارب التاريخ ما نحن بصدده. فطوال الثورات التي جرت في جنوب كوردستان-شمال العراق، قبل أن يتكون الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، لم يهاجم يوما البيشمركة منطقة سكنية في داخل العراق، ولم يقتلوا أسيرا، ولم يدمروا منشأة مدنية أو خدمية، ولم يأمر البرزاني الخالد، قوات البيشمركة، القيام بعملية انتحارية أو تدميريه داخل المدن أو حتى ضمن دوائر الدولة المدنية. لذا لا بد من تغيير الصور النمطية التي رسختها الأنظمة المحتلة في ذهنية شعوبها، وتبيان الحقائق بكل الأساليب.
يجب علينا أن نبين للعالم ولشعوب المنطقة دون أنظمتهم الفاشية، أن قيم السلام، وبلوغ الغاية عن طريق التحاور، ظاهرة خلقت مع تكوين الكورد الأول، فحتى أن أديانه الأولى، الزرادشتية، والمانوية، والمزدكية، جميعها تشدد على منطق الرحمة والسلام، والمحبة ونبذ العنف والحروب، ففي قيمه التي لا تزال مترسخة في لا وعيه، فصل واضح، بين السلام والقتل.
الجدلية هذه، عفوية لدى المجتمع الكوردي، وواضحة مثل الجدار الفاصل بين السعادة والحزن، الضحك والبكاء، الحياة والموت، وهذه واحدة من الجوانب السامية لشعبنا، والهشة من حيث علاقاتنا مع الشعوب المجاورة والتي استغلتها أنظمتهم المتربصة بقضيتنا، والتغلغل من خلاله، للتحكم بمصير أمتنا. وهو ما يتطلب منا كحراك التركيز على هذه الحقائق وتبيانها للعالم الخارجي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
21/3/2022م