مذ بلغتُ سن الاربعين قبل ايام، بقي يتلجلج ببصدري سؤال ويود البوح عن نفسه بكل قوة، ألا وهو : لماذا تُخلَّدُ قصيدة، ويسير بها الركبان والماكثون، ويتغنى بها القاصون والاقربون، بينما لايكتب لسواها هذا الامر ،رغم أنّ القصيدتين من وزن واحد، وصور لا تخلو من جمال، وقافية بلا حيود ؟
لماذا خُلِّدَتْ قصيدةُ المتنبي في مدح سيف الدولة، والجواهري في رثاء اخيه جعفر، ولميعة في وصف دجلة؟ دون سواها من ألوف القصائد..
إنّ هذا السؤال ظل عصيا على الاجابة ، ونرى أن له جوابا واحدا لربما لم يتنبه اليه احد إلّا لماما، وهو ما نطلق عليه لفظة : روح القصيدة..
هذه الروح هي التي تجعلها كائنا حيا يحلّق بجناحين يضمّان الوجودَ كله، والعشقَ كله والصدقَ كله، كائنٌ يهزّك من الاعماق، يبكيك، يدميك، يميتك ثم بحييك، يوقد في نفسك مشاعر جياشة لم تك لتظنها قد طوتْها روحك، تتفاعل، تحفظها عن ظهر قلب، ثم تجد نفسك وانت تتنقل فيها وتود ان تمكث فيها بيتا بيتا ، وتستنشق زهور حدائقها الغنّاء ولا تود لأبياتها ان تنتهي.
شاعرة حديثة رسمتْ لقصائدها هذا الهدف، فهي لم يك همُّها وضعَ قصيدة، بل خلود القصيدة، وهو اصعب ما يمكن للشاعر فعله.
تقول افياء امين الاسدي في إحدى قصائدها:
يموت الشبابُ
ويحيا الشبابُ
ونحن بطابور حزنِ العراقْ
نقسّمُ نهرين
ماء وهمْ
فنشرب ماءَ الصراخ المُراقْ
ويشرب ساستُنا سيلَ دمْ!!
تلخّص الشاعرة افياء ها هنا مأساة وطن كامل بأسطر معدودة وبما يعدل قصائد شعر تامة، مأساة الشباب واجرام الساسة وحياة افقر شعب وأغنى وطن ، فنجحتْ في وضع بضعة ابيات، بقينا نعشقها َنحفظها ونرددها بوجوه الطغاة سلاحا من نار.
وتصف الالوهية والحب بايجاز مدهش وهي تقول:
إنّي عشقتُ وضاعتْ فيك اسمائي
فابحث عن الله بين الحاء والباء.
وفي قصيدة (نصف ساعة) ، تتفرّد بوصف الكبت وبشكل غير مسبوق، فتقول :
ماذا أقول إذا ما هاجتِ الروحُ
بي غربتان ، وصوتٌ فيّ مبحوحُ
بي غربتان وسلواي الوحيدة
أنْ دمعي بقلبي
على خديه مسفوحُ
ولعل مما امتازت به الشاعرة افياء، هي (أنسنة) الاشياء : الاشجار والجبال والبحار والطير والصخر، الاقلام الصغيرة والدبابيس والارصفة والطرقات التي رطّبتْها دموعُ الفقراء، ثم عادت لتجعلَ القلب نفسه كائنا قائما بذاته يئنّ ويبكي، والدموع تسيل على جوانبه فلا يشعر به وهو الماكث خلف الضلوع من احد، وهي تصف غربة الروح وغربة الوطن.
إنّ ما عرضناه من قصائد هاهنا، تدفعك للتغني بها، والتغني هو أصعب مرحلة يمكن أن يبلغها الشاعر بأبياته وترديد قصائده على الشفاه هي الحلم شبه المحال لأي شاعر مهما بلغت عظمة شاعريته ، وهذا أمر لا ينبع عن فراغ ولا يمكن أنْ يحظى به إلّا الشعراء المتفردون، الذين يخطّون أبياتهم بالصدق والدمع وصدق المشاعر، والانسياب كالماء الزلال من منبع صاف دون تكلف، ودون محاولة تطويع القافية عنوة، وحشر صور شعرية كيفما اتفق، ليحسبوا انفسهم وقد وضعوا نفائس الشعر، وهم بعيدون عن كل ما ذكرناه من شروط تجعل القصيدة بحق ودون مبالغة، ملحمة عذبة متوهجة ، تترنم بها شفاه الزمان، إلى الابد .