بعد 80 سنة من نصب الوالد أول خيمة على أرض نصران، وما تلاه من تاريخ فاض بالآلام، ومراحل تلاطمت بين النجاح والإخفاقات، كفاف العيش والعوز، ومن ثم هجرات كارثية متتالية تداخلت فيها الأفراح والأحزان، عاد الأخ عباس عباس من الغربة، أملاً إنقاذ النفس من آلامها، مبتدأً بإعادة بناء نصران، حالماً بإيقاظ الأرواح التي فقدت الأمل بعودة أصحابها.
آباؤنا رحلوا، لكن ذكراهم سيظل خالداً، فقد دفنوا في قلب الوطن، أما نحن؛ الذين تخلينا عن الزيارات العابرة لقبورهم، مقابل لذة بخسة، أين سندفن، من سيزور قبورنا، بعد جيلين أو أبعد؟
هجرنا بعشوائية، فتهنا بين الروح والمادة، وبدأنا نسأل بعد سنوات قليلة، من سيحالفه الحظ ليكون سعيدا بجانب الأجداد؛ فيما إذا أعيد رفاته إلى الوطن؟
لم يعد يفيد الندم، قلعنا جذورنا ومعها تاريخنا، لنزرعها في المنفى، فنبتت أشجار لا ظل لها، وثمارها تصرف في أسواق غريبة.
أستولى البعث على نصران، مثلها مثل معظم أجزاء كوردستان، واجهناها بالهجرة، ملأوها بمجموعات الغمريين العرب، فتفاقم الوضع الاقتصادي، هجرنا القرية أولا، فانهدم الدار وراء الدار، ولم يبقى في الأثر سوى بئرا وشجرة توت يتحدثان برنين الصمت عن أصحابهم الذين تخلوا عنهم. بعدها خسرنا البيت الآخر في قامشلو، واجهنا الواقع المؤلم بهجرتنا الكارثية الجماعية.
في الغربة ظهر الجيل الثاني والثالث، تربطهم بنصران قصص نسردها لهم عنها، تشبه الخيال، جلهم لا يحس بروحها، لم يرى أوديتها ونهرها وروابيها وبيوتها البائسة، وأثار البئر الذي لم يبقى منه سوى الكتلة الإسمنتية، وبعضنا لم يعيد الزيارة لأكثر من نصف قرن، يعيش الحسرة والألم كلما اجتمعنا، ويا لقلة اللقاءات، فقد أصبحنا غرباء عن البعض في الغربة، أطفالنا لا يعرفون بعضهم، وبعضهم لا يعرفون كم عمة وعم له، وعن الأسماء لا تسألوا.
غمرتنا السعادة نحن أبناء محمد عباس، على عودة الأخ عباس عباس إلى الوطن، والإقرار بالبقاء لشهور، وربما أكثر، والبدء بإعادة إحياء دار نصران الأول من العدم، على الأرض القريبة من البقعة التي نصب عليها الوالد والوالدة الخيمة الأولى، كان معهم حينها الأبن البكر صبري وعمره دون السنة، انضمت إليهم الجدة خرمة، والدة الوالد، فيما بعد ولفترات غير مستمرة، فظهرت نصران من العدم، جنوب دوكر، قرية الأجداد، بثلاث كيلومترات، على ضفاف نهر سوبلاخ. وبعد بناء الدار الأول شاركتهم في العيش العمة جازية لفترات طويلة وقد كانت طفلة لا تتجاوز الثالثة عشرة من العمر. هؤلاء كانوا سكان نصران ولمدة سنتين تقريبا.
إن كنا نؤمن بالأرواح، فلا أستبعد أن روحي الوالد والوالدة يحومان اليوم فوق روابي نصران، فرحين بإعادة أحياءها. والأمل قد أزداد لجميعنا؛ بزيارات خاطفة على الأقل، حتى ولو مرة من العمر الباقي، للجلوس هناك وإعادة ذكريات الماضي من أركانه، بملذاته ومراراته.
ما بين اللحظة وحيث البدء بإعادة ترميم الآثار، وظهور دار نصران الأول من العدم، أبعاد حضارية، وقوة إرادة، وبعد نظر، وروح طموحة. أعاد الأخ عباس والأخت بني سعادة أحياء بعضه، بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمن، وحيث الهجرة الأولى لأبناء محمد عباس من نصران، مع ذلك المقارنة بين الحالتين غير عادلة.
كان الوالد دون ألـ 23 من عمره، والوالدة 22، وصبري دون السنة الأولى، يوم نصب الوالد الخيمة، عام 1943م، فعدت الخيمة البسيطة البيت الأول للعائلة. وذلك على خلفية محاربة الفرنسيين للعائلة، الذين جعلوا الوضع الاقتصادي لآل عباس، وعلى مدى عقدين من الزمن، في الحضيض، بعدما ورد في إحدى مراسلات قائد القوات الفرنسية، في بدايات استعمارهم للمنطقة، مدى غنى العائلة، وواجب الحذر منهم.
استولى الفرنسيون على العديد من قرى العائلة، وهجروا الوالد وأهله وكان بعمر السبع سنوات، وفيما بعد أعمامه من قراهم، وتم حصرهم في دوكر، بدءً من عام 1927م، أي بعد قتلهم للجد عباس محمد عباس وثورة بياندور بأربع سنوات، إلى قرابة عام 1943م بعد ثلاث سنوات من اختفاء العم سليمان عباس وأبنه شلال عباس بطريقة غريبة في بيروت، بعد لقائهما مع القنصل الفرنسي هناك، وهو ما تحدث فيه أحد مرافقيهم وسائق سيارتهم، بعد عودتهما إلى دوكر.
1943م السنة التي تمكن فيه الوالد الخروج من دوكر وبناء نصران، بخيمة استعارها من أحد الشرابيين الذين كانوا يخدمون في دار الجد، وقد أستحضنهم الوالد بعد سنوات من بناء القرية. ليتم بعد الخيمة بشهور، بناء أول دار، وقد كانت بداية السنوات التي خرج فيها آل عباس من العدم الاقتصادي.
كانت الوالدة تحدثنا في ليالي الشتاء ونحن جالسون حول المدفأة، عن بدايات نصران، وعن قصة الدار الأول، وكيف أن خال الوالد، حجي علي رحمه الله، مر في أحد الأيام، ومعه مجموعة من الرجال، بجانب الخيمة، لا تتذكر سبب مروره ذاك، ومن أين كان قادما، ليقف مندهشا على الوضع المزري للوالدة ولصبري الذي كان بيده قطعة خبز من الشعير، تألم لما ألت إليه حالنا.
بعدما بلغ قريته حلوة أرسل لنا كيس طحين قمح، ومجموعة من رجال القرية؛ ليبنوا لنا بيت من غرفة وصالون خلال يومين. أنه البيت الذي سكن فيه فيما بعد صوفي مصطي والد حسن وحسين، وذلك بعدما بنى الوالد البيت الثاني، في نفس المكان الذي يعيد فيه الأخ عباس عباس البناء ثانية. وقد ذكر الوالد، أن الضباط الفرنسيين في مخفر تربه سبيه، كانوا يضايقونه كثيرا، لخروجه من قرية دوكر وبناء نصران، أضطر إلى طلب المساعدة من خالنا حجي خلف، رحمة الله عليه، صاحب قرية كرداهول، لمده بالأموال، يرشوا بها أولئك الضباط.
ومن غرائب الصدف، أن حفيد الخال حجي علي، الأخ مروان حجي علي، ناب عن الأخ عباس في الحصول على رخصة البيت الجديد من دوائر الإدارة الذاتية.
أتذكر، لحظة ربما كنت في الثالثة أو الرابعة من العمر، لا أكثر، اجتماع دار بين الوالد والوالدتين، في الغرفة الشرقية لدارنا القديم، الجيل الثاني، والذي بني مكانه أخر دار لنا، على الأرض التي يقيم عليها الأخ عباس الدار الجديد، لكنني نمت وعندما استيقظت لم أجد أحد حولي، وبعد سنوات طوال، عرفت أن الحديث كان يدور لبناء دار للوالدة عالية، أي كانت مرحلة توسع العائلة والقليل من الرفاهية والرخاء الاقتصادي.
ما يعمره الأخ عباس، يعتبر الجيل الرابع من البيوت التي مرت على نصران بعد 80 سنة من بنائها، والجيل الخامس فيما إذا أضيفت عليهم تنصيب الخيمة.
ما بين العودة من الهجرة، والخيمة الأولى، مراحل فكرية وتاريخية واقتصادية، تكاد تنعدم المقارنة بينهم، كانت الوالدة تقول، المنطقة كانت مرعبة، خالية من البشر، تحيط بالخيمة أحراش، في فترة الربيع كان بإمكان راكب الخيل أن يصل قرب الخيمة دون أن نراه، وكانت الحيوانات بكل أنواعها منتشرة وبكثرة، من الذئاب إلى الخنازير البرية، وأبناء آوى والثعالب، وأحيانا كانت الغزلان تظهر.
شكرا كاك عباس عباس، بافي هوزان، على العودة، وعلى الإعمار، وخلق الأمل بإعادة أراضي كوردستان التي بنيت عليها مستوطنات الغمريين، ومن بينها أراضي نصران.
الشكر الكثير للأخت بني سعادة، والتي أبت الهجرة، وفضلت معاناة أرض الأجداد على نعيم الغربة، الإنسانة التي لا تقدر بثمن إنجازاتها.
شكرا عزيزي بهزاد، أخر من هاجر من الأخوة، وأخر من حافظ على بقاء آثار لماضينا، ببيت صغير يذكرنا بما كان.
ملاحظة: الفيديو المرافق، لبداية تعمير الدار، على أمل أن تظهر بعدها مرحلة العودة، أو تحثنا على زيارات حتى ولو كانت قصيرة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
14/5/2022م