كان القاتل يتندر على الضحية معلقاً على لياقته قبل أن يفرغ رصاصاته من بندقية آي كيه-47 في جسده وهو يهوي في حفرة فوق من سبقه من ضحايا. وقد عرفت اسمَي المجرمَين الساديَّين، وهما ضابط الصف أمجد اليوسف، وزميله نجيب الحلبي من فرع 277 من المخابرات العسكرية التي نفّذَت إعدام 280 شخصاً من حي التضامن الملتصق بمخيم اليرموك، الذي تم تدميره تماماً وتشتيت سكانه إلى أصقاع الأرض كجزء من عملية تدمير المخيمات الفلسطينية الشاهدة على النكبة الفلسطينية.
قبل مذبحة التضامن بثلاثة أسابيع نشرت وكالات الأنباء العالمية أخباراً وصوراً عن مذبحة مروّعة جرت في مدينة بوتشا الأوكرانية القريبة من كييف.
تَحرَّك العالم فوراً لتوثيق المذبحة ووصل إلى نفس مكان الجريمة خلال أسبوعين المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، ولجنة مستقلّة أنشأها مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا.
كما وصل الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى المكان عينه معبّراً عن صدمته من هول ما رأى.
لقد بدأت عملية جمع المعلومات والوثائق والدلائل على المذبحة فوراً. هذا التعامل مع ضحايا المذابح يكشف لنا ما أشرنا إليه مراراً، مسألة ازدواجية المعايير والكيل بأكثر من مكيال حسب نوع الضحية ولونها وعرقها ودينها ومكان وقوعها.
من حيث المبدأ، فإن المحكمة الجنائية الدولية مخوَّل إليها حسب قانونها الأساسي ملاحقة ومعاقبة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية وجريمة العدوان بنفس الطريقة والأسلوب والاهتمام ومستوى الإدانة والعقوبات.
لكن التمنيات شيء والواقع شيء آخر، فنحن محكومون بعالم مختلّ القوى، ينحاز للقويّ ضد الضعيف وينتصر للمصالح لا المبادئ. فالتحقيق في حرب غزة عام 2014 انتظر سبع سنوات للبدء في جمع المعلومات والوثائق وشهادات العيان التي ضاع منها الكثير، فيما لم ينتظر المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية طويلاً للمباشرة بالتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا.
مجزرة حي التضامن تضاف إلى قائمة طويلة من المجازر، ارتُكبت في غالبيتها على أيدي النظام وأجهزته الأمنية العديدة، وبعضها ارتكبته الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وفي الحالتين كان الشعب السوري العريق الضحية.
ما زلنا نذكر مجازر الحولة والبيضا والغوطة والتريمسة ودوما وخان شيخون وشرقي حلب وغيرها الكثير.
لقد وثّقَت تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في شهر أغسطس/آب عام 2011 برئاسة السيد باولو سيرجيو بينيرو، وبدأت تمارس عملها في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، عشرات المذابح ووضعت عشرات التقارير وأعدّت ظرفاً مُغلَقاً يتضمن أسماء 52 شخصية من المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بانتظار تحقيق العدالة يوماً ما، كما حدث مع مجرمي الحرب في رواندا وسيراليون وليبيريا والبوسنة، فالعدالة ليست مربوطة بزمن والجرائم العُظمى لا تموت بالتقادم، أو على الأقلّ هذا هو المفروض.
كيف يمكن مثول مجرمي الحرب للمحكمة الجنائية الدولية؟
يتم التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في حالة ما إذا كانت الدولة التي ارتكب مواطنوها الجرائم عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، أو أن تُرتكب الجريمة في بلد عضو في المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ينطبق على فلسطين لأنها أصبحت عضواً في المحكمة، وعلى أوكرانيا لأنها، رغم أنها ليست عضواً في المحكمة، أقرَّت للمحكمة كتابياً عام 2014، بقبول كل ما يصدر عن المحكمة من قرارات في ما يخصّ أراضيها.
لكن كيف يمكن تقديم مجرمي الحرب من دولة غير عضو بالمحكمة الجنائية الدولية ولا مسرح الجريمة في بلد عضو في المحكمة؟ كيف يتم توجيه تهم إلى هؤلاء المجرمين وملاحقتهم وإصدار مذكرات اعتقال بحقهم كما حدث مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير؟
الجواب يكمن في إعطاء صلاحية لمجلس الأمن لتقديم مذكرة للمحكمة، وبالتالي تصبح المحكمة مخوَّلاً إليها ملاحقة المجرمين واعتقالهم.
لقد حاول عدد من الدول الأعضاء اتباع تلك الخطوة في الملف السوري، فقد تقدمت سويسرا برسالة لمجلس الأمن بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 2013 إلى مجلس الأمن وعليها تواقيع 58 دولة تطالب أعضاء المجلس باعتماد قرار يُحيل شخصيات كبرى في الحكومة السورية والمعارضة تم توثيق ارتكابهم لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية للمحكمة الجنائية الدولية.
لكن المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي شوركين آنذاك، استخدم حق النقض الفيتو وأطاح بمشروع القرار، ولم تحاول الدول الأعضاء أن تكرر المحاولة منذ ذلك الوقت حتى اليوم.
لكن حبال المحكمة الجنائية طويلة، وإذا لم يتم التعاون مع أجهزتها فلا يتوقع أحد تطبيق العدالة بهذه السرعة. كما اختبأ رضوان كراجيك أحد المسؤولين عن مذابح البوسنة خصوصاً سربرنيتسا، نحو 12 سنة. وفي هذه الحالة لا يبقى إلا تفعيل القوانين المحلية التي تُجيز محاكمة مجرمي الحرب بغضّ النظر عن جنسياتهم. وفي حالة مجزرة التضامن فقد تم تقديم الملف إلى ثلاثة مدّعين عامّين في ألمانيا وفرنسا وهولندا، لبدء الإجراءات القضائية ضدّ مرتكبي هذه المجزرة المروّعة.
عيوب المحكمة الجنائية الدولية
أستطيع بإيجاز أن أشير إلى بعض مثالب المحكمة الجنائية الدولية التي تؤخّر أو تعطّل تحقيق العدالة:
– من أخطر نواقص المحكمة ما يسمى بالدور التكميلي للمحاكم الوطنية حسب ما يعرف بـ”مبدأ التكامل”، إذ لا تنظر المحكمة في الدعاوى إلا إذا كانت الدول غير قادرة على مساءلة المشتبه بهم أو غير راغبة في ذلك.
– المحكمة تعاقب الأفراد بصفتهم مجرمين يتحملون مسؤولية جنائية فردية ولا تُلزِم الدول تَحمُّل مسؤولية كُبرى الجرائم الدولية التي تدخل في اختصاصها مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.
– تتداخل السياسة بالقانون في الإطار الذي أنشئت فيه المحكمة، فهي منظمة دولية تعمل بشكل وثيق تحت إشراف ورقابة الدول الأعضاء فيها.
فالمحكمة هي في نفس الوقت محكمة جنائية ومنظمة حكومية دولية تديرها جمعية الدول الأطراف التي تتكون من 123 دولة والتي صدّقَت على نظام روما الأساسي. وتُعتبر الجمعية هيئة سياسية تُعنَى بالتشريع لتطبيق نظام روما وتمارس رقابة إدارية لا تمتدّ إلى الرقابة القضائية، بما في ذلك المسؤولية تمويل عمل المحكمة وانتخاب القضاة والمدّعي العامّ ونائبه، وعزلهم.
ويصعب الحديث عن استقلالية “المحكمة-المنظَّمة” في ظلّ سلطتَي الإحالة والإرجاء اللتين يمنحهما نظام روما لمجلس الأمن الدولي بموجب المادتين 13 و16، إذ يحقّ للمجلس إحالة قضايا يقرّر أنها تهدّد الأمن والسلم الدوليين من جهة، ووقف التحقيق والمقاضاة في قضايا أخرى وتأجيلهما، لدواعٍ سلمية وأمنية أيضاً من جهة أخرى.
– إن عدم وجود جهاز تنفيذي تابع للمحكمة لضمان تطبيق أحكامها، يُعتبر إحدى أهمّ نقاط ضعفها، إذ تعتمد على تعاون الدول لدخول المحققين للأراضي التي يجب التحقيق فيها، والحصول على الوثائق والأدلَّة والتفتيش عن المشتبه بهم وإلقاء القبض عليهم وتسليمهم لها.
ورغم إلزام نظام روما الدول الأطراف التعاونَ مع المحكمة في ما تُجرِيه من تحقيقات (المادة 86)، فإنه لا ينصّ على إجراءات عقابية في حال رفض الدولة التعاون، وأقصى ما يمكن للمحكمة أن تذهب إليه هو أن تُحِيل الموضوع إلى جمعية الدول الأطراف، أو إلى مجلس الأمن الدولي إذا كان قد أحال المسألة إلى المحكمة.
وللعلم فإن مجلس الأمن لم يتخذ حتى اليوم أيّ إجراء ضد الدول التي لم تتعاون في تطبيق قراراته بشأن قضيتي دارفور وليبيا رغم طلبات ملحَّة من المدَّعي العامّ الأسبق لويس مورينو أوكامبو ولا من المدَّعية العامة السابقة فاتو بنسودا.
لذلك لا نتوقع مثول كثير من مجرمي الحرب في سوريا أو أوكرانيا أو إسرائيل أو أفغانستان أو العراق غداً أو بعد غد إلا بتوافق دولي، وهو أمر بعيد المنال.