غالباً ما أخلو إلى نفسي مراجعاً ومناقشاً ما مررت به من أحداث وتفاعلات ومواقف. وحين خلوت قبل أيام إلى نفسي وحاورتها بصراحة وفكرت في مجرى وشريط حياتي وحياة من كان معي أو حولي أو عموم الشعب العراقي، الذي أنا منه وإليه، سجلت بوضوح كبير ظاهرة كانت ولا تزال سائدة بالعراق، وهي أنَّي لم أعش في وطني الحبيب حياة الحرية والديمقراطية ولم اعرفهما لا في البيت ولا في المدرسة ولا في الشارع، كما لم اعشها مع من كان معي ومن هم حولي، ولا الشعب كله كان يعيشهما، بل تعرفت عليهما حين بدأت أقرأ الكتب التي وصلت إلى يديَّ من خلال التنظيم السري للحزب الشيوعي العراقي، التي كانت تشرح مفهوم ومضمون الحرية والديمقراطية والمساواة بين النساء الرجال ورفض التمييز العنصري والديني والمذهبي، ومعنى العيش في ظل الحرية والديمقراطية. وحين بدأت أقارن بين ما كنت أقرأه، وبين ما كنت أعيش تحت وطأته، أدركت عمق وسعة الفجوة الهائلة بين كنت ما قرأت وما كنت أعيش فيه، إذ إن العيش في ظل الحرية والديمقراطية شيءٌ، والقراءة عنهما شيءٌ آخر تماماً، إضافة إلى وعي العيش تحت وطأة تغييبهما.
ولدت في بيئة عراقية محافظة، كأغلب العائلات العراقية، ولاسيما تلك التي حرمت من وسائل التثقيف الحديثة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مثل كربلاء، وأعني بها غياب السينما والمسرح أو صعوبة الوصول المناسب إلى الكتب والمجلات والصحف الحرة والديمقراطية التي لا تتحدث عن “أفضال” الحكومة على شعبها” وضرورة أن يكون الشعب دوماً في خدمتها وإطاعة أوامرها والابتعاد عما يبغضها…، كان هذا هو الواقع الذي عشت فيه، حيث لم أتعرف فيه بملموسية عن معنى الحرية والديمقراطية سنوات طويلة من عمري كصبي وبداية شبابي، أو حتى فيما بعد، حيث تجلى الموقف غير الديمقراطي في موقف سلطات الدولة الثلاث من المواطِنة والمواطن ومن مفهوم المواطنة الحرة والمتساوية أساساً. فالمواطن والمواطنة لا حقوق فعلية لهما، رغم أن الدستور العراقي السابق، والجديد كذلك، يعترف بحقهما ولا يفرق بين المواطنين، وأن لم يذكر المواطنات مباشرة، ولكن يقصد الإناث أيضاً. فغلتنا ذكورية بحتة، رغم إن اسمها انثوي. وتجلى في غياب الحرية الفعلية والديمقراطية الحقيقية، على نسبيتها، عن الأحزاب السياسية التي تشكلت في تلك الفترة وما بعدها. فهي في الغالب الأعم أحزاب النخب الحاكمة، أما الأحزاب الديمقراطية فكانت تعيش الاسم أكثر من الفعل، لأنها كانت محاربة من السلطات الثلاث ببعض القوانين والمراسيم والنظم وبالأفعال أكثر. وحتى الحزب الذي أصبحت عضواً فيه منذ بداية شبابي، ورغم تعلمي فيه معنى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأعني بذلك الحزب الشيوعي العراقي، لم أعش ثمارها الفعلية كما ينبغي وكما قرأتها أوثُقفت بها، ومع ذلك كانت في الحقيقة هي الأفضل عما كان موجوداً وسائداً في مجتمعنا وفي الأحزاب الأخرى. فغياب مبادئ وممارسات الحرية والديمقراطية في بلد ما مثل العراق، ينعكس بكامل ثقله على كل الأحزاب السياسية العلنية منها والسرية وعلى حياتها الداخلية وعلاقاتها المتبادلة، وتزداد مصاعب الأحزاب السرية في ممارسة الحرية والديمقراطية في الحياة الحزبية، لأنها كانت، أو لا تزال، تخشى المطاردة والملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن، وما يمكن أن يتعرض له المعتقل من احتمالات التعذيب وانكشاف أسرار الحزب، ولاسيما أسماء الأعضاء فيه، وبالتالي فهي مجبرة على اختيار عناصرها القيادية وكوادرها ليس بالضرورة ممن يمتلكون قدرات فكرية وسياسية مميزة أو معارف وتجربة غنية أو استقلالية في التفكير، بل يكون المحك الأساس هنا هو قدرة هذا المناضل أو ذاك وهذه المناضلة أو تلك على الصمود في مواجهة خصوم هذا الحزب السري حين يعتقل، والخصوم هم في الغالب الأعم السلطات الثلاث في الدولة غير الديمقراطية. كما يجبر على عقد مؤتمراته في فترات متباعدة. فمؤتمر الحزب الشيوعي العراقي الأول عقد في العام 1944/1945، أي بعد مرور عشرة أعوام على تأسيسه، ومؤتمر الثاني عقد بعد مرور 26 سنة على عقد المؤتمر الثاني. على سبيل المثال لا الحصر. وسبب ذلك يكمن في طبيعة الأوضاع التي سادت العراق طيلة العقود المنصرمة.
مبادئ الحرية والديمقراطية ليست فيتامينات يمكن أن تؤخذ كحبوب أو أبر يزرقها الطبيب لهذا المواطن أو تلك المواطنة، بل هي مبادئ وممارسات لا بد أن يعيشها الأطفال والصبية والشبيبة يومياً في البيت والمدرسة والشارع والمجتمع وفي دوائر الدولة وفي الإعلام والكتب والتربية والتثقيف اليومي وفي الأحزاب والحياة الاقتصادية والاجتماعية… أي في كل مجالات الحياة اليومية. هذا النوع من المبادئ والممارسات لم يعشها شعبنا العراقي في كل تاريخه الحديث والمعاصر، دع عنك تاريخه الأموي والعباسي والعثماني أو حتى الملكي، الذي بدا وكأنه كان يريد بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، ولكنه زاغ عنهما حين اعتقدت نخبه الحاكمة أنها ستعرض حكمها لمخاطر الضياع من يدها، إن سمحت للحرية أن تنتعشوتُنعِش الناس بها، وللديمقراطية أن تنتشر لتزدهر بها حياة الإنسان، إذ حين يبدأ العقل بالتفكير الحر، وحين ينمو الوعي ويستقل في رؤيته للواقع وما يفترض أن يحصل، ينتفض على واقعه ويرفضه ويعمل على تغييره.
حين لا يتعلم الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، معنى الحرية والديمقراطية منذ صغره ولا يتعرف عليهما بالممارسة العملية، لا يمكنه بأي حال أن يفهم أهميتهما أو يمارسهما مع الآخرين، ولا حتى أن يطالب بهما لنفسه، كما لا يجد غضاضة في التجاوز على حرية وحقوق الآخرين دون أن يدرك بأنه قد تجاوز بذلك على حقوق الآخرين، على حريتهما وعلى الديمقراطية التي يجب أن يتمتع بها الآخرون أيضاً. الحرية هي إدراك الضرورة، وهي ببساطة أيضاً “أن تمد يدك بحيث لا تمس أنف غيرك”..
المعضلة الحقيقية في مجتمعاتنا ذات الأكثري المسلمة تبرز في واقع التربية والتعليم والثقافة الدينية التي تصل إلى الطفل والطفلة والصبي والصبية، بل والشبيبة أيضاً، فهي ثقافة بعيدة كل البعد عن مفهوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء الإنسان المستقل القادر على التفكير بحرية واستقلالية، فهي ثقافة شمولية متسلطة ترفض الفكر والرأي الآخر وتحاربهمابقسوة استثنائية، بل تصل إلى حد اغتيال من يحمل فكراً ورأياً أخر، وبالتالي لا يجد المجتمع أمامه غير ثقافة صفراء، في الغالب الأعم، ثقافة وتربية وتعليم كلها تتسم بالفاقة والخرافة والزيف والتشوه، ينشرها من يعتقد إنه يمتلك الحق الإلهي في نشر ايديولوجيته ورفض أي فكر أو رأي آخر أو نقد، فالحاكمية لله وحده، وكل الديانات الأخرى والأيديولوجيات الأخرى والأفكار والآراء الأخرى والنظم الأخرى نابعة من الجاهلية الأولى، إنها الجاهلية بعينها، إنها كفر وبهتان. وهذا يعني بوضوح يجب محاربتها. إنه التجسيد الحي للبؤس الفكري والسياسي الذي يعيش تحت وطأتهما المواطن والمواطنة في جميع الدول ذات الأكثرية المسلمة، ولاسيما في السعودية وإيران والسودان والعراق، وما يريدونه ويسعون إليه في العراق أكثر مما هو عليه الآن بكل ما اتيحت لهم من إمكانيات داخلية ودعم ومساعدة خارجية.
النخب الحاكمة في العراق تتحدث بملء أفواهها عن وجود حريات وديمقراطية في العراق، وهي أول من تجاوزت عليهما وداستهما بأقدامها. الدستور العراقي الجديد يؤكد حق الإنسان بالتظاهر، وحقه في أن يكتب أو يقول أو ينتقد ما يشاء ومن يشاء. ولكن هذا الإنسان “الحر” سيجد أمامه من يسدد كاتم الصوت الذي يحمله صوب صدره أو يأتيه من الخلف حتى في وضح النهار، ويطلق رصاصته المميتة، أو سيجد من يختطفه من الشارع لينقله إلى واحد من بيوت الاعتقال الكثيرة السرية الخاصة بالمليشيات الطائفية المسلحة، أو في معتقلات سرية لأجزاء من الحشد الشعبي ذات الانتماء الميليشياوي ليعذب ويموت ويدفن دون أن يعلم به أحد، ويبقى مصيره مجهولاً.. كما هو حاصل في البصرة، أو ينقل إلى بلد مجاور لينتهي هناكبالمصير ذاته الذي انتهى إليه الكثير من مناضلي ذلك البلد..
نحن في العراق أمام واقع مرير، فحكامه، الذين يعتمدون العمائم فكراً وممارسة، وهم في الغالب الأعم طائفيون بامتياز، بغض النظر عن ارتدائهم لها أو عدمه، يتحكم بهم وبممارساتهم اليومية الفكر الإسلامي السياسي الشمولي، وهم في الغالب الأعم قد تعلموا على مواجهة الفكر الآخر بالرفض، لأن فكرهم منزل ولا مرد له وأبدي، إنه جوهر “الحاكمية لله وحده”، سواء نقطوا بها، كما لدى الإخوان المسلمين ولدى أتباع المذهب السني الوهابي، أم لم ينطقوا بها بهذه الصورة، كما في فكر المذهب الشيعي في إيران! ولكن الحصيلة واحدة.
كيف الخلاص من هذا الواقع، إنها المحنة التي يفترض أن يواجهها وستصدى لها من يعي مخاطر غياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إنهم الأناس الواعون الذين بدأوا يتكاثرون تدريجاً، لا بسبب عيشهم في ظل الحرية والديمقراطية، بل بسبب التفاعل الجاري بين الثقافات في العالم واطلاعهم على ظروف عيش الشعوب الأخرى التي تتمتع بهذا القدر أو ذاكبالحرية والديمقراطية، إنها عملية معقدة وطويلة إنها عملية سيرورة وصيرورة غاية في التعقيد والتشابك ولكنها لسيت مستحيلة، بل ممكنة والشعوب قادرة على التعلم من الشعوب الأخرى والتفاعل معها ووضع خارطتها الذاتية في ضوء تطور وعيها، وهو الذي يجعل الأمل في نفوس من يجد في الحرية والديمقراطية طريق الخلاص من البؤس والفاقة الفكرية، من الفساد والإرهاب، من الدولة الدينية التي لا تميز بين اتباع الديانات المختلفة بسبب دياناتهم فحسب، بل وبين أتباع المذاهب في الدين الإسلامي، بسبب اختلاف مذاهبهم. إنها المحنة والكارثة التي لا بد من العمل للخلاص منها في العراق، بل وفي جميع الدول ذات الأكثرية المسلمة لصالح سيادة المجتمع المدني ومبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيةويحدونا الأمل بانتصار ذلك ويقربنا منه حين نعمل من أجله.
30/11/2018