المقطع الثاني
استمر صرير الريح يخلق نوعاً من الرهبة والتوجس من المجهول مما جعله يعتقد أنه يصر بقوة على دفع جسده نحو أخدود نهري ضيق حاول تفادي الانزلاق إلا أن الريح بقت عنيدة ملازمة تدفعه نحو اليابسة وأخيرا تسنى له الوقت للخروج بدافع خفي تعبداً للنجاة ، بسرعة صعد المرتفع تاركاً الاخدود والبحيرة الواسعة خلفه وتوجه إلى الطريق العام، بمجرد أن وضع قدميه على الشارع الاسفلتي اللزج توقف متداركا اهتزاز جسده، حاول ضبط أنفاسه وإيقاف لهاثه الشديد بالشهيق المتواصل، مرت الدقائق العشرين كأنها قرن من الزمن وعلى حين غرة لاحت له حافلة قادمة من ناحية الشرق فحث نفسه على أمل الصعود واختصار وضعه المنعزل وهذا ما حدث حيث توقفت الحافلة وفتح السائق الباب وأشار برأسه للصعود، صعد بهدوء حذر، عد درجات السلالم أربع درجات، وقف خلف السائق مباشرة وراح يبحث عن مكان ليجلس فيه، بان مقعد في الوسط ، جلس بحركة ميكانيكية يتأبط كتاباً لمعروف الرصافي وبعد أن تحركت الحافلة انتبه إلى شريكه في المقعد المعد لشخصين ، كانت امرأة في العقد الرابع سمراء حنطية لها عينان واسعتان وحاجبان معقودان وفم عريض وشفاه مضغوطة ، تغطي الرأس بفوطة بيضاء ، لاحظ أنها تراقبه من زاوية عينيها ، سمع احتكاك عجلات الحافلة بالإسفلت الرطب، بعد مرور البعض من الوقت حث نفسه عاقداً العزم على الاستفسار، التفت وسأل المرأة
ـــــــ عفواً سيدتي عسى ألا ازعجك كم يستغرق الوقت؟
لم تحفل في بداية الأمر لأنها لم تسمع السؤال بشكل جيد لكنها شعرت بروحية المداعبة من كلمة سيدتي، استفسرت بهدوء
ـــــــ نعم.. ماذا قلت !
أراد أن يشعرها أنه مهتم بالوصول
ــــــــ رجاءً كم من الوقت بقي للوصول ؟
كانت المراة تحرك ساقيها مع حركة الحافلة، أدركت استفساره
ـــــــــ ساعتان أو ساعتان ونصف على أقل تقدير
حدجها مدققاً ومتابعاً الجواب استمرت
ــــــــ هناك استراحة على الطريق بعد تجاوز المضيق الجبلي، مقهى يقدم المشروبات والطعام، أسعاره مناسبة، يبدو أنك غريب عن المنطقة!
هدأ، انفرجت اساريره
ـــــــ نعم، هذه أول سفرة لي إلى المدينة، ممكن المساعدة
كانت منعزلة فكرياً ارتاحت لفكرة المرافقة ، أجابت وهي تتابع أعمدة للبرق والبريد
ــــــ ممكن، لماذا لا
كان حذراً أراد الشرح
ــــــــ نعم أول مرة، وصلتني رسالة من مسؤولي دار المسرح في المدينة يطلبون مني الحضور لعرض مسرحية
قاطعته مبتسمة ، عرفت انها ستكسبه
ـــــــــ نحن في الهوى سوى
أدار جسده وراسه نحوها
ـــــــ ماذا تعنين بالهوى سوى؟
اجابت باسترخاء
ـــــــ نعم في الهوى سوى، أي مثلما انت أنا
فكر بعدما استقر نظره باتجاه سائق الحافلة
ـــــــ انت اذاً مدعوة مثلي
هزت رأسها
ــــــــ نعم
سألها بلهفة
ـــــــ هل تعرفين المدينة؟
شعرت بنوع من الاسترخاء لقد وجدت ضالتها في المرافقة
ــــــــ كنت فيها مُدرسة قبل رحيلي إلى الجنوب ثم بغداد
سكت تذكر، الوجه مألوف عنده لا بل أيقن معرفة صاحبته، ولكن كيف؟ ، قرر السكوت بعد أن وجدها منفتحة أكثر مما تصور ، جسدها ممتلئ ، بان صدرها أكثر ارتفاعاً، تطلع نحو يدها القريبة فألفى اصابع يدها مملوءتان طريتان ، دفعه الفضول أن يمد يده ويمسك الأصابع لكنه تراجع، شعر بنوع من الاغتراب الداخلي متذكراً صديقته سامية حادث نفسه
“لم تظهر قبل سفرته؟ ” تعجب من استفساره، سامية التي لم تتحول لمشروع حب حاول في السابق مرات لكنها كانت في كل مرة تتحجج بحجة تختلقها لإبعاد الموضوع، لم ينس في ذلك اليوم الخريفي الكئيب أراد حينها الخروج من شرنقة التقوقع عندما خرجا معاً واتجها الى شارع أبو نؤاس ، توقفا على نهر دجلة وبقيا بدون كلام في حينها فكر بمحاولة لعلها تنجح
ــــــــ سمعت بخطوبتك
ابتسمت وهي تنظف مقدمة انفها بأصبعها
ـــــــ قد تكون إشاعة
كان فعلاً قد سمع من زميلة لهم، سألتْ
ـــــــ من قال؟
صمت برهة
ـــــــ إذا الخبر غير صحيح
أصرت في فضول لمعرفة المصدر
ــــــــ انا لم أنف، قلت لك قد تكون إشاعة ممكن معرفة المصدر