اعتاد الناس منذ النصف الثاني من القرن الماضي النظر إلى الدولار الأمريكي بوصفه العملة الأكثر استقراراً وثقة في العالم. وخلال هذه المدة الطويلة، ركنت بعض «النخب» فيما يسمى بالعالم الثالث إلى فكرة التفوق المطلق لأدوات الهيمنة الأمريكية – والدولار ضمناً- حتى بدا لها أن فكرة تراجع الوزن الأمريكي بمثابة كسر للمسلمات التي نشأت عليها. وظل ذلك سارياً حتى تبيّن للعيان اليوم أن «البديهيات» التي اعتادوا عليها تتحطّم أمام صخرة الواقع الجديد.
تتقاطع العديد من البحوث اليوم في اعتقادها بأن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يمكن أن تكون حافزاً لدفن الهيمنة الأمريكية وإنهاء هيمنة الدولار في العالم. وتتقاطع أيضاً في اعتبارها كل من روسيا والصين والهند الدول الأكثر تأثيراً وقدرة على دفع هذا الحافز.
العقوبات: سلاح موجّه إلى صدر من يفرضها
أحد أهم أساسات القوة العالمية للولايات المتحدة هو نظامها المالي SWIFT الذي يربط الكوكب بأسره: في إطار التجارة الدولية، ظل الدولار يغطي لفترة طويلة ما يصل إلى 75% و80% من إجمالي المبادلات العالمية. وبناءً على ذلك، فإن الولايات المتحدة، وبصفتها «مركز التحكم» لهذا النظام المالي، كانت تحوز أرباحاً هائلة من مجرد هذا الدور الذي لعبته في التبادل السلعي والمالي في العالم.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية، استخدمت الولايات المتحدة بشكل متكرر هذا النظام المالي المركزي المعتمد على الدولار كسلاح في وجه خصومها. إلى حدٍّ باتت تدرك الكثير من الدول أن هذا النظام المالي المربوط بالدولار هو – من حيث الجوهر- أداة نهبٍ تنطوي على مخاطر سياسية عالية. وهو الشيء ذاته الذي جرّبته روسيا مؤخراً عندما تم تجميد 300 مليار دولار أمريكي من احتياطياتها في البنوك الغربية على نحو رسّخ العقوبات بوصفها نهباً دولياً.
«لحظة تاريخية في التاريخ الحديث»
وصف وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، خلال اجتماعه الأخير مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في بكين، الوضع في أوكرانيا بأنه نتيجة سنوات من التناقضات في أمن أوروبا ونتيجة عقلية الحرب الباردة. وأعلن لافروف بدوره عن نية روسيا والصين للتحرك معاً نحو نظام عالمي تعددي وعادل يضع حداً للنتائج التي تسببت بها «المرحلة الخطيرة في تاريخ العلاقات الدولية». وكان لافروف اعتبر أن ما يجري اليوم «لحظة تاريخية في التاريخ الحديث» لأنها «تعكس المعركة بالمعنى الواسع للكلمة حول الشكل الذي سيبدو عليه النظام العالمي».
وتعكس الأرقام إلى حد بعيد متانة هذه العلاقة، حيث تعمل روسيا على تعزيز العلاقات مع الصين في ظل الظروف الصعبة للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول الغربية عليها. ويواصل الجانبان بنشاط تطوير التعاون في مجال التجارة والطاقة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا. وقد نما حجم التجارة بينهما في الشهرين الأولين من عام 2022 بنسبة 38.5%، ليصل إلى 26.4 مليار دولار، وذلك وفقاً للبيانات الصادرة عن إدارة الجمارك الرئيسية في الصين. وخلال الفترة ذاتها، زادت الصادرات الصينية إلى روسيا بنسبة 41.5% على أساس سنوي، لتصل إلى 12.6 مليار دولار، كما زادت الصادرات من روسيا إلى الصين بنسبة 35.8%، لتصل إلى 13.8 مليار دولار.
استيراد وتصدير: ربط صيني روسي متنامي
تؤكد صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية أن الطاقة هي أكبر مجال للتعاون الثنائي بين روسيا والصين، وأحد المشاريع الإستراتيجية الكبرى الذي تتوجه إليه الأنظار الآن هو بناء خط أنابيب الغاز الشرقي الذي يمتد على طول قاع نهر اليانغتسي الصيني، وهو المشروع الذي يقطع الطريق على المحاولات الأمريكية المتواصلة لمنع الربط بين الدولتين في اتجاهين: عرقلة تصدير الغاز والنفط الروسيين إلى الصين، وعرقلة تصدير الفحم الصيني إلى روسيا. وفوق ذلك، عززت الصين وروسيا التعاون في مجال الطاقة النووية ، بما في ذلك محطة تيانوان للطاقة النووية في مقاطعة جيانغسو شرق الصين، ومحطتي الطاقة النووية سيوداباو وهولوداو بمقاطعة لياونينغ شمال شرق الصين.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الصين ثالث أكبر وجهة لتصدير المنتجات الزراعية والغذائية الروسية. وفي عام 2021، زاد حجم تجارة المنتجات الزراعية بين البلدين بنسبة 7%. وفي الرابع من شهر شباط للعام الجاري، وفي إطار زيارة بوتين إلى الصين، تم توقيع اتفاقات تسمح بتزويد الصين بالقمح والشعير من جميع أنحاء روسيا. ومن المتوقع أن تبدأ شحنات الحبوب الروسية من بحر آزوف والبحر الأسود إلى الصين بشكلٍ واسع في بداية العام الزراعي 2022-2023 (يبدأ في 1 حزيران) وستصل إلى مليون طن على أقل تقدير.
الهند «المترددة» تتخذ خطوة للأمام
يقال الكثير اليوم عن أن الغرب الذي فرض عقوبات جائرة على روسيا لم يحسب الحساب كثيراً لفكرة أن فصل روسيا عن نظام SWIFT المالي سيوجه ضربة ليس لروسيا فحسب، بل لكل من يتاجر معها، وهو أمر لا يمكن أن تتغاضى عنه الدول الآسيوية، وبشكلٍ خاص تلك التي ترى كيف يغدق صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى على معركة أوكرانيا قروضاً بمليارات الدولارات، بينما يتم تجاهل طلباتها المتكررة.
والنقطة المهمة الثانية هي أن غالبية دول شرق آسيا من المستوردين النشطين لموارد الطاقة التي أصبحت أكثر تكلفة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. على سبيل المثال، تستورد الهند 88% من نفطها من الخارج، وجزء من هذا الاستيراد يأتي من روسيا، وإذا ظل سعر النفط أعلى من 70 دولاراً للبرميل لأشهر عدّة، فسوف تتعرّض الروبية الهندية لضغوط هائلة، حيث ستنفذ الحكومة من الأموال اللازمة للإنفاق، وسيرتفع التضخم بشكل حاد. لهذا السبب، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية، أريندام باجشي، إن الهند «تدرس جميع الخيارات» المتعلقة بإمدادات النفط، بما في ذلك من روسيا، في معرض إجابته عن سؤال عما إذا كانت نيودلهي ستشتري بالفعل 15 مليون برميل من النفط الروسي بسعر مخفض.
وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة The Times of India، أن التجار الهنود يقومون الآن بتسديد المدفوعات المستحقة لروسيا باليورو وذلك عبر البنوك الألمانية، بينما يتم خلف الكواليس تطوير خيار تحويل جميع تجارة النفط الهندية إلى الروبية.
RIC إلى واجهة الاهتمام من جديد
تعد كل من روسيا والهند والصين أكبر الدول في منطقة أوراسيا، وقد زار وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الهند في 25 آذار الماضي. وهي الزيارة الأولى منذ عامين، أي منذ أدى النزاع الحدودي إلى تجميد العلاقات بين البلدين. ورغم أن الموضوع الرئيسي للاجتماع هو تسوية النزاع الحدودي، إلا أنه من الواضح أن هذه ليست سوى البداية لمزيد من التنسيق في سياسة بكين ونيودلهي في القارة الأوراسية. ومع بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، كان لافتاً أن وجدت الهند والصين نفسيهما في موقف متشابه.
وعلى صعيد العلاقات مع روسيا اقترحت الهند عدداً من أنظمة المدفوعات، ستختار روسيا أحدها، حيث من المخطط أن يتم تثبيت هذا النظام الذي سيتم الاتفاق عليه في بنك الاحتياطي الهندي (RBI) وبنك Vnesheconombank الروسي (VEB). وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال محادثات في نيودلهي مع نظيره الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، إن روسيا تعمل على تطوير شراكة استراتيجية مع الهند على أساس الصداقة والاحترام المتبادل، وتواصل المشاريع في مجال الطاقة والعلوم والفضاء والمستحضرات الصيدلانية. وناقش الجانبان الانتقال إلى التسويات المالية بالعملات الوطنية، حيث أشار لافروف إلى أن اتجاه التحول إلى التسويات بالعملات الوطنية بين البلدين سوف يتعزز، وأن موسكو ستزوّد نيودلهي بجميع السلع التي تريد شراءها.
كما ناقش لافروف مع وزيري خارجية الصين والهند آفاق الاستخدام النشط لصيغة روسيا والهند والصين (RIC)، مبدياً قناعته أن الصداقة مع هذه الدول تجعل العزلة الاقتصادية لروسيا مستحيلة. ووفقاً لبيانات عام 2020، بلغت حصة التسويات بالعملات الوطنية بين روسيا والصين بالفعل 25%. حيث أنها تضاعفت في أقل من سبع سنوات عشر مرات تقريباً.
ووفقاً للخبراء الاقتصاديين، فإن الرفض المتصاعد للدولار سيسمح لموسكو وبكين بزيادة التجارة بينهما، وجعل المعاملات أرخص وتقليل مخاطر العقوبات الأمريكية. ولا يستبعد الخبراء أن تصل حصة التبادلات بالروبل واليوان بين الدولتين في السنوات المقبلة إلى 50%.
قد يبدأ تفعيل نظام دفع موحّد بين روسيا والصين خلال بضعة شهور. حيث أشار مفوّض التكامل والاقتصاد الكلي في اللجنة الاقتصادية الأوراسية، سيرغي غلازييف، إلى أن الدولتين تريدان استخدام اليوان الصيني كأساس. وهذا سيسمح بالابتعاد عن الدولار واليورو في التسويات المتبادلة. وثمة إشارات مماثلة خرجت من كل من إيران وفنزويلا.