الخميس, نوفمبر 13, 2025
Homeاراءدروس من مؤتمر هانوفر 13-14 أيلول 2025 : الدكتور خليل جندي

دروس من مؤتمر هانوفر 13-14 أيلول 2025 : الدكتور خليل جندي

 

الهويات الهشّة وأقليات ما بعد الإبادة – الإيزيدية أنموذجاً

ماهي أسباب وقوف قسم بسيط من الايزيديين ضد مؤتمر هانوفر 13-14 أيلول 2025، الداعي للإصلاحات؛ فهل كان المناوئون حريصين فعلاً على الدين، أم كانت لهم مآرب أخرى؟

هذا ما سأحاول التوقف عنده بشكل علمي تحليلي في هذا المقال، كدرس مستقاة من المؤتمر الذي نجح نجاحاً تاماً، ليطلع عليه الشارع الايزيدي، ويعرف بعض الحقائق، وأين تتجه بوصلة المجتمع الايزيدي؟! أُقسم الموضوع إلى قسمين؛

الأول: ماهي الآثار التي تخلفها الإبادة على الأقليات الدينية والعرقية، وتخلق ما يطلق عليها “الهوية الهشّة”. ثانياً: أسباب ودوافع وقوف قسم من الايزيديين ضد هذا المؤتمر؟

أولاً: ماهو المقصود بالأقليات ما بعد الإبادة، والهوية الهشّة، أو الهويات الهشّة؟ وماهي سماتها وتناقضاتها؟

يقصد بأقليات ما بعد الإبادة، تلك الجماعات التي نجت من جرائم الإبادة الجماعية المنظمة، لكنها ما تزال تعيش تبعات نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية طويلة الأمد، مثل الأرمن بعد إبادتهم على يد السلطات العثمانية عام 1915، والتوتسي في رواندا وبوروندي علي يد الهوتو عام 1994، والتطهير العرقي ضد البوسنيين على يد السلطات الصربية عام 1995، وأخيراً الإبادة التي تعرضت لها ايزيدية شنكال على يد تنظيم “داعش” الإرهابي آب 2014.

لقد خلّفت جميع الإبادات أعلاه، ومنها إبادة إيزيدية شنكال/سنجار في الثالث من آب 2014 صدمات نفسية ونزوحاً وشتاتاً جغرافيةً واسعة النطاق.
نحن نركز في هذا المقال على حالة خاصة دون غيرها، حيث برزت التجربة الإيزيدية بعد إبادة سنجار 2014 ملامح واضحة لما يُعرف في علم الاجتماع السياسي ودراسات ما بعد الصراع بمفهوم (الهويّة الهشّة)؛ أي الهوية التي تتعرض لتقويض بنياتها النفسية والاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، الدينية، جرّاء العنف الوجودي والاقتلاع القسري، وفقدان الأرض والموارد. بمعنى آخر، يُقصد بها الهوية التي تعرّضت إلى التفكّك، أو التهديد المستمر بسبب الصدمات التاريخية كالإبادة الجماعية أو التهجير القسري أو محو الذاكرة الثقافية. ومن خصائص (الهوية الهشّة): انعدام الأمان الوجودي والشعور الدائم بالملاحقة. وتراجع الثقة بالمؤسسات الوطنية أو الدولية. والأخطر من كل ذلك هو “الانقسام الداخلي بين الرغبة في الاندماج في المجتمعات الغربية، والخوف من الذوبان.”

بهذا فان إبادة عام 2014، لم تُفقد الإيزيديين عشرات الآلاف من الضحايا فحسب، بل هزّت أسس انتمائهم وأعادت تشكيل علاقتهم بذاتهم وبالآخرين.
فمن ناحية البُعد النفسي الجمعي، كانت صدمة الإبادة وما تبعها من فقدان الايزيديين الثقة بأنفسهم، وبالأغلبية المحيطة بهم، وبالمؤسسات الرسمية، ما ولّد شعوراً دائماً بالتهديد.

أما في بعده الاجتماعي والديمغرافي، فقد أفرز النزوح الداخلي، والهجرة الواسعة إلى (أوروبا، أميركا الشمالية، كندا، استراليا) تشتتاً جغرافيًا وثقافيًا يهدد استمرارية العادات والتقاليد واللغة والطقوس الدينية.

يضاف إلى البعدين السابقين، البعد السياسي والقانوني في غياب ضمانات المواطنة الحقيقية، وضعف تمثيل الإيزيديين في مراكز القرار العليا، الذي يعرقل إعادة بناء هوية متماسكة داخل الدولة العراقية أو في دول المهجر. وهذا ما جعل الفرد الايزيدي داخل الوطن، أو في المهجر في دوامة الضياع، والعنف الداخلي، وفقدان الثقة بنفسه وبالآخر، والخوف من كل ما هو جديد!!
إن دراسة أدبيات ما بعد الإبادة يضاعف هشاشة الهوية، وينشأ صراع بين حفظ الذاكرة الجمعية كي لا تمحى، وبين إعادة الذات بما يتيح الاندماج دون فقدان الخصوصية، وبناء مؤسسات تحمي من تكرار العنف وتعيد الثقة بالمحيط. كما تبرهن أن الهوية ليست معطى ثابتًا، بل عملية مستمرة من التفاوض والتكيّف بين الذاكرة الجماعية، ومتطلبات البقاء، والفرص التي يتيحها المهجر.

لكن في المقابل، أفرزت المأساة وسائل مقاومة وإحياء؛ منها توثيق الجرائم، ونشوء جيل جديد في المهجر يطالب بالاعتراف الدولي، وتوسيع الحوار الداخلي حول الإصلاح الديني والاجتماعي. هذه التحركات تشير إلى إمكان تحوّل الهوية من حالة هشاشة إلى هوية هجينة: متجذرة في التراث الإيزيدي، ومنفتحة على قيم المواطنة وحقوق الإنسان العالمية، إذا تم استخدامه بشكل عقلاني ومدروس.

ثانياً: ان تباين المواقف داخل المجتمع الإيزيدي تجاه مؤتمر هانوفر (13–14 أيلول/سبتمبر 2025) له جذور معقّدة ومتعددة، لا يمكن اختزاله في سبب واحد. فهنالك اعتبارات دينية، حيث يخشى بعض رجال الدين وأتباعهم أن يؤدّي أي مسعى لإعادة تنظيم الهياكل الدينية، أو طرح أفكار مثل “الفصل بين الدين والسياسة”، إلى تقليص سلطة المجلس الروحاني، أو فتح النقاش على قضايا عقائدية يُنظر إليها كمساس بـ “قدسية” الموروث.

في الجانب الآخر، وفي شنكال بالذات، هنالك صراعات على النفوذ ومَنْ يمثل الايزيديين. على سبيل المثال الشخصيات المحلية التي ترأس الأحزاب الايزيدية في شنكال، وبعض توابعها في المهجر، رأت أن المؤتمر قد ينتج هيئات بديلة، كأن يكون مجلساً أو برلماناً موازياً ما يفقدها موقعها القيادي، أو امتيازاتها، وقد استغلوا فترة الدعاية لانتخابات المجلس الوطني العراقي بتاريخ 11 تشرين الثاني 2025 للهجوم على المؤتمر بإصدار بيانات بائسة، الى جانب حضور رئيس أحد الأحزاب الايزيدية بين المتظاهرين وإدلائه بتصريحات ملفقة وكاذبة عن روح المؤتمر، كل ذلك من أجل الكسب الرخيص.

كما أن بعض الجهات السياسية العراقية (الكردية/أو العربية) توجست وخشيت أن تخرج توصيات المؤتمر عن نطاق نفوذها، خصوصًا في ملفات أمن شنكال وإدارتها المحلية. إذ أن لدى بعض هذه القوى حساسية من أي مشروع إيزيدي مستقل قد يُفهم كخطوة نحو حكم ذاتي أو كيان منفصل.
يضاف إلى كل ما ذُكرَ، أن الكثير الإيزيديين في العراق وسوريا، وربما من ايزيدية البلدان الأخرى، يعيشون في ظروف ميدانية مختلفة عن مجتمع المهجر؛ بعضهم يعتبر أن مبادرات تصدر من أوروبا قد لا تراعي واقع المخيمات أو القيود الأمنية في شنكال. ويتخوف آخرون من أن تتحول توصيات المؤتمر إلى ضغط سياسي عليهم في الداخل من دون دعم عملي. أما الشماعة الجاهزة للبعض الآخر، ترى في المؤتمر تقارباً مع الحكومات الغربية أو منظمات دولية لا يتماشى مع مصالحها.

نستخلص مما تم ذكره أعلاه، أن المعارضة ليست بالضرورة دليلاً على “حرص ديني” خالص، بل صراع على السلطة والتمثيل واختلاف في تقدير الأولويات. لذلك فإن نجاح أي مشروع إصلاح يحتاج إلى حوار داخلي، لا إلى استخدام أسلوب العنف والشتم والتشهير ونسج الأكاذيب، والتستر بهتاناً تحت عباءة الدين، لإيهام بسطاء الناس، وإثارة عواطفهم الدينية!
غوتنغن في 24. 9. 2025

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular