يأخذنا الاديب الروائي في دهشة الابهار , في محاولاته الخلاقة في ابتكار تقنيات حديثة في المتن الروائي , في الصياغة الروائية المبتكرة في الطرح والتناول في مميزات سيماتها الظاهرة , في التقنيات اسلوب الطرح والاداء في اللغة المركبة ( النثر / الشعر ) والرؤية الفكرية التي تقود دفة المتن الروائي , وتنظم احداث السرد الروائي وفقاً لرؤية الفكرية العميقة على خلفية واقعنا الحاضر . بصياغة جديدة خلاقة لرؤية لملحمة كلكامش , أو اسطورة كلكامش , تستلهم الواقع الجاري , في تشكيل رؤية فكرية لعتبات ومحطات ملحمة كلكامش . في استخلاصات العبر الفكرية من الرحلة الاستكشافية لبحث عن عشبة الخلود , وماهو المغزى والدلالة والمعنى لهذه العشبة , وما معنى الخلود برؤية الواقع الحالي , واستخلاص العبر والدروس . هي محاولة استنطاق الملحمة الكلكامشية برؤية حديثة , في عيون الحاضر بالدلالة العميقة والبليغة , اي صياغة الملحمة من جديد . فنجد ان شخصية كلكامش هي مشطورة الى نصفين كلكامش الاصل , وكلكامش الفرع وهو نفسه مؤلف الرواية ( واثق الجلبي ) ولكن الشخصيتين تمثلان وجه واحد وروح واحدة , لكن في عصرين مختلفين تماماً , لذا فأن شخصية كلكامش مركبة أو ثنائية بين الاصل والفرع , وفي سحب الملحمة لتنطق بلسان الحاضر وتبعياته القاهرة في المعاناة والعذابات الانسانية لشعب أوروك الجديد . الحدث الروائي يعتمد على رؤية الخلود وصياغته من جديد , واعطت مساحات واسعة في الاهتمام الشديد في مسألة عشبة الخلود , التي فجرت الاسئلة الساخنة في وادي العقل. في الصراع وكذلك في متاهات السراب في الحصول على العشبة والخلود . وهي تدل على رحلة استكشاف الانسان لنفسه ولهويته . لان من المنطقي السؤال : ما فائدة عشبة الخلود للملك السعيد على قهر ومعاناة شعبه , فما قيمة الخلود وهو يقتل شعبه من الوريد الى الوريد , فما قيمة عشبة الخلود على معاناة وشقاء شعب أوروك القديم والجديد . ان تسرق حياة الانسان . لتكون عشبة الخلود للخائن والعاق والنكرة وناكر الجميل , والثعلبي في ازدواجيته الشخصية بين الراهب والارهابي . فما قيمة عشبة الخلود حينما تكون منصة لحرق البلاد والعباد والشجر والحجر . لذلك اكتشف كلكامش بعد رحلته الطويلة , التي عانى المخاطر والاهوال , وتيقن بأنها كانت رحلة حماقات لا تغتفر , في محاولة لتدمير الانسان ودفعه الى الخنوع والخضوع لقوى تسيره مثلما تريد , في خضم الصراع القائم . فما قيمة عشبة الخلود في خوض المخاطر الحياتية في الحصول عليها حتى يسرقها الاخرين , وهذا بالضبط مثل مايحدث في عالمنا الفوضوي , الثورة يقوم بها الشجعان ويسرقها الجبناء ( أشعر بأن طعم خطيئته تطارده. .. لو اتيحت له الفرصة لما ترك مكانه… آدم بلا عباءة ….. عباءتنا اليتيمة كانت من الخالق العظيم … أقتربت العباءة من الارض …. قلبه لم يعد موجود من أهوال الرعود التي اطلقت من كل مكان …. لم يعد في العباءة مكان لوجهه ….. كانت الثقوب تشرب الوجوه والوجع ….عن أي وجه سيخبر الناس ؟ ) ص20 . معاناة سنوات العجاف , كافية لتعلم العقل والحكمة , ويدرك في اي اتجاه هو يرتكز , لان البحث عن الخلود يوازي البحث عن الله , ليس الخلود من امتلك القوة والسوط ليجلد شعبه ويدفعه الى الحرمان . وانما الخلود هو البحث عن ذاته وهوية جلده . الخلود اكتشاف الذات في افق الرحمة والحكمة والبصيرة ( ما أجمل أن نؤمن أن الحياة هي الرحمة التي تكمن بالتسامح ومن بعد التسامح تأتي كل الاشياء الجميلة ) ص6 . . هذا الاكتشاف الجوهري من خضم مخاض الرحلة الطويلة في اهوار العراق التي ترقد في قاعها عشبة الخلود , التي سرقتها الافعى ( الحية ) , بعد المشي في طريق الاهوال المعبدة بالمخاطر والمجازفات في رحلة كلكامش ( الاصل والفرع ) . طريق خطير وطويل جداً مليء بالعقارب والدببة والاسود والافاعي والوحوش الضارية , لذلك ان عشبة الخلود في أوروك اصبحت عملية جذب واطماع واستحواذ والاستيلاء لخنق شعب اوروك العظيم , سواء عن طريق الانقلابات العسكرية أو الحروب أو الاحتلال . شعب مصاب بلوثة الطغيان والاستبداد من اجل خطف وسرقة عشبة الخلود . لذلك اصبح البحث مأزق حقيقي لكلكامش ( الاصل والفرع ) , لانه انتهى به المطاف ان يكون مهزوماً يتجرع الخيبة والاحباط والصدمات , وخاصة بعد صدمة موت صديقه أنكيدو . هذا الموت جعله ان يفجر الاسئلة في رأسه ماهي الحياة وماهو الانسان ؟ اصبح ضحية الاسئلة الساخنة التي تؤرق عقله وتكوين تفكيره ( كل هذه الامور تشربت داخله وهو يفقد الوعي ليجرب عالماً جديداً لم يكن أرتقى سلمه مسبقاً , هل ستكون لحظات خلوده كما يشتهي قلبه ؟
أم أن للاقدار رأي آخر ؟
هل بحث عن العشبة أم أنه يبحث عن نفسه ؟
هل الخوف هو عنوان دائم للرجاء ؟
هل ترجو من غير أن تخاف من شيء ؟ ) ص17
تيقن ان الحياة تسير نحو العبثية التي تكدر حياة وسلوك الانسان , ولا يستطيع ان يفعل شيئاً ازاء هذه الضغوط المتسلطة . انها كوابيس حياتية ينبغي التخلص منها في البحث عن ملجأ آخر . لذلك فكر وقرر كلكامش الرحيل دون عودة . ترك اطفاله في حالة البكاء والحزن بأن ابيهم سيرحل عنهم دون رجوع . هي رحلة البحث عن جده ( اوتوبشتم ) الذي مازال على قيد الحياة , ولم يذهب الى العالم السفلي . ان ينقذه من ورطته , ان يترك كل شيء الملوكية والجاه والمقام من اجل الخوف من عاقبة الموت .
لم أستطيب طعم الملوكية
أنا خائف من الموت
هذه حقيقتي
حقيقتي التي أخفيتها عن نفسي
لم يجابهني بها أحد
تراب يتكلم مع تراب
فلماذا لا تجيبوني ؟
لماذا لا تجيبوني ؟ / ص42 .
هذه الحقيقة التي يدركها العالم , بأن تاريخ شعب أوروك العظيم ملطخاً بالدماء والموت عبر العصور المتعاقبة , عبر أشكال مختلفة , سواء بالانقلابات العسكرية أو الحروب أو الاحتلال . ومن يستطيع ان يراهن على امتلاك عشبة الخلود , يعني امتلك البلاد والعباد والشجر والحجر . وترك الحياة تئن باوجاعها , بسرقة الافعى ( الحية ) عشبة الخلود . كأنها فتحت ابواب الشر على شعب أوروك . لذلك يوجه كلامه الى الافعى ( الحية ) السارقة .
– لقد مللتُ أيها الحية وأنا أتساءل كيف أستطعتِ أن تصمدي كل هذه السنوات وانتِ تبدلين جلدكِ ؟
– كيف تحملتِ واحتملتِ كل هذا وصبرتِ على هذه المعاناة ؟
– لست مثلك ايها الملك , عقلي وتفكيري ليسا على تطابق تام مع عقلك وتفكيرك وأحلامك . المسألة تختلف تماماً )ص51 . يعني بصريح العبارة , من فاز باللذات من كان جسوراً . هذا يبين حجم المعاناة والتضحيات والمخاطر والمجازفات والاهوال في رحلته المغامرة , وقتل الثور السماوي بمشاركة صديقه أنكيدو . كل هذا القتل لم يجلب سوى الحزن ومتاهة العقل والافكار . وفي زوبعة من الالم بأن ماحدث هو وحده يتحمل تبعياته لا غيره . هو المسؤول عنها لا غيره , ويصرخ بصوته الذي يحمل المعاناة التي تجرع علقمها بأن الذنب ذنبه هو لا غيره .
أيتها الارواح الساكنة فيه
لا ذنب لانكيدو
لا ذنب لعشتار
الذنب ذنبي
هذا ما أقترفته يداي
يا أرواح مدينتي
يا أهل أوروك
سامحوني
جئت اليكم نادماً
لم افكر بشيء إلا المسامحة
أذيتكم وطلبت الكثير منكم
لاني احبكم واحب هذه الارض / ص64 .
ادرك بعد المعاناة الطويلة أن البحث عن عشبة الخلود , كمن يبحث عن الماء في سراب الصحراء . لذلك جزع من هذه عشبة الخلود ولم يعد يرغب بها , ويصرح برغبته الى جده ( اوتوبشتم ) :
– جدي لا أريد الخلود . لم أعد ارغب بالمزيد . الحياة أتفه أن تعتاش مرتين
– هل فهمت كلامي أخيراً ؟ ص92 .
أنه بعد هذه المرارات يريد أن يهرب من هذا العالم المخزون بالنفاق والخداع , والذي يحشر الانسان ويدفعه الى الخنوع والخضوع ويضاعف عذاباته . ويدرك أن البطولات تنتهي الى مهزلة ومأساة . فبعد الصراع الدموي . قتل الاسود وصارع الوحوش وقتل الثور السماوي , انتهى الى لاشيء , ورجع الى أوروك كالملك المهزوم والمكسور .
لم أكن اعلم أن أغبى الرجال كان في فمي فلفظته
لم أكن أعلم أن الصمت بذرة الكلام
لم أعرف أن الليل لسان النهار
لم أدرك حينها لماذا نسمي القلب دليلا
لو أني بحتُ بالاشياء التي كنت لا اعرفها لضاق بي النخيل ) ص98 .
لذلك ( جلس متأملاً العشبة وعيناهُ بين دموع الفرح وبكاء الحزين . كتب ملحمته من جديد , الآن بعد أن أبصر طريق الحكمة , لابد من أطفاء قلبه الحزين , الاطفاء ليس بمعنى النهاية فلا وجود لنهايات في سلسلة الحيوات المستمرة . هل الحكمة تعني الموت ؟
أم أن الانسان لا ينتهي ؟
هل حكمتهُ سوف تكون وعياً معرفياً لعالم آخر .
ليس من المعقول أن يفنى هذا الكيان بهذه البساطة ) ص103 .
ويبتسم وعيناه مصبوغة بالدموع وهو ينظر الى الحية تأكل العشبة ولم تترك شيئاً له , فيقول لها وهو يباركهاعلى فعلها :
– هنيئاً مريئا
– ألم تغضب ؟
– لماذا اغضب ؟ لقد اخترت هذا الطريق وأنتِ كذلك
– أخترت ان اعيش شباباً دائماً
– هذا لن يكون
– أنت تندب حظك مرة أخرى
– هل تعلمين ماذا أكلتِ الآن ؟
– أكلت عشبة الخلود التي كنت تبحث عنها
– لا أيتها الحية لقد أكلتِ عشبة الموت ) ص106 .
ويرجع كلكامش الى ذاته في معرفة ماهية الحياة. من هذه الرحلة الطويلة التي تخللتها المغامرات, والاخطاء والرزايا والذنوب . تيقن ان قيمة الحياة هي :
الآن تلمستُ خطاي بعد أخطائي
مفعم أنا بالرحمة تجاه من ظلمني
الحب رحمة
الصدق رحمة
السلام رحمة
الابتسامة رحمة
كل شيء لا تسكنه الرحمة فهو ليس من العوالم ) ص111 .
× الكتاب : رواية . كلكامش … عودة الثلث الاخير
× المؤلف : واثق الجلبي
× الاصدار : عام 2021
× عدد الصفحات : 136 صفحة
× طبع في مطابع دار الشؤون الثقافية العامة